ياسين عدنان، أديب وشاعر وإعلامي ولد عام 1970 بحاضرة المحيط آسفي، ويعيش منذ طفولته الأولى بمدينة مراكش. صدرت له عدة دواوين شعرية من بينها: "مانيكان" (2000)،، "رصيف القيامة" (2003)، و"دفتر العابر" (2012)، وأشعار أخرى تتأرجح بين مشاعر الحب والحياة والحرية وقضايا الهوية والآخر. وفي عام 2006 حمل مشعل برنامج "مشارف" على القناة المغربية الأولى لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يخوض غمارَ تجربةٍ إعلامية جديدة وفريدة في برنامج ''بيت ياسين ''الذي تبثه قناة الغد من القاهرة.
بعد ثلاث مجاميع قصصية، أصدر ياسين عدنان روايته الأولى ''هوت ماروك'' عام 2016 عن دار الفنك بالدار البيضاء ودار العين للنشر بالقاهرة، وهي الرواية التي ترشحت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، كما تُرجِمت إلى كلٍّ من الفرنسية والإنكليزية. في "هوت ماروك" الذي هو اسم ملفّق لموقع إلكتروني، يحاول الكاتب رصد التفاهة والتلفيق الذي يطال الحياة الاجتماعية والسياسية وأحوال مدينة مراكش عبر شخصية بسيطة تدعى "رحال العوينة".
نعلم أن هناك علاقة تربط بين الصحافة والأدب، ولا يخفى أن الأدباء أمثال نجيب محفوظ، العقاد، أحمد لطفي السيد، سلامة موسى، كانوا يمارسون الصحافة. كأديب وإعلامي، كيف تتحقق لك هذه المزواجة بين الصحافة والأدب؟ ألا يطغى أحدهما على الآخر؟
في الحقيقة سؤال صعب، ولكن أجوبته تتعدد بتعدد مسارات المشتغلين في المجالين. فعلاً وكما يعلم الأصدقاء أنا ابن الأدب أساساً، وجئت للصحافة من الأدب، وإقامتي في عالم الصحافة ظلت دائماً بقبعة الأديب، لأنني كنتُ أكتب القصيدة، القصة القصيرة والمقالة. ومقالاتي الأولى كانت مجرد إعلانِ محبةٍ لنصوص قرأتها وسحرتني، فحينما أقرأ كتاباً لصديق أتفاعل معه وأكتب عنه، و في تلك اللحظة وجدتُ من ينتبه لتلك المقالات.
هكذا طُلِب مني أن أكتب بوتيرةٍ أقوى، ثم بدأت مع أكثر من منبر بدءاً بصحيفة "السلام" الجزائرية، ''الشروق" الجزائرية'، ''القدس العربي''، "الحياة" اللندنية، "زوايا" اللبنانية، "الأخبار" اللبنانية، ثم ''دبي الثقافية''، فمجلة "الشارقة الثقافية". إذاً، وكما ذكرت، جئت للصحافة من الأدب، وكان لدي دائماً إحساس بأن الصحافة بدون أدب لا معنى لها، أو تفتقد روحاً ما. حتى الجملة الصحافية التي يخطها يراعُ قلمٍ صحافيٍ متشبِّع بالأدب إبداعاً أو على الأقل قراءةً، تختلف كثيراً عن جملة صحافي لا علاقة له بالأدب. فالصحافي الذي يقرأ الأدب غالباً ما نجد في جملته بعض الطلاوة.
أمّا الصحافي المحروم من نعمة الأدب، حتى حين تكون أفكاره عميقة وفي الصميم، قد لا تسعفه اللغة الرشيقة والتعبير البليغ. لذلك أعتبر الأدبَ مدرسةً لكلِّ من يريد أن يشتغل في الصحافة. فلكي نتملّك اللغة وأسرارها لا بدّ من الأدب. فيمكن للمرء أن يكون حِرَفِياً في بناء المقالات، لكن الأدب يضيف شيئاً ما، شيئاً ساحراً أشبه بالسّرّ، هو ما يشدُّ القراء إلى مقالات هذا الصحافي أو ذاك. فهذا السّرّ الغامض والجميل والساحر هو الذي يدفعنا للمواظبة على قراءة كاتب صحافي بعينه، وغض الطرف عن آخرين، برغم أنهم يقاربون مثله نفسه الموضوعات، وربما يشاطرونه نفس الرؤية والتحليل والموقف ووجهة النظر.
عشت منذ يفاعِيَ الأول مراوحة دائمة ما بين الأدب والصحافة، وأعتقد أنني ظللت دائماً ابن الأدب، فخوراً بانتسابي لأهله. كنت دائما صحافياً يشتغل بالأدب ويدافع عن الأدب ويشتبك مع قضايا الأدب في الإعلام... ياسين عدنان
إذاً بالنسبة لي، عشت منذ يفاعِيَ الأول هذه المراوحة الدائمة ما بين الأدب والصحافة، وأعتقد أنني ظللت دائماً ابن الأدب، فخوراً بانتسابي لأهله، سواءً وأنا أكتب في الصحافة المطبوعة أو وأنا أشتغل في الإذاعة أيامَ كنتُ أقدم برنامج "بولفار الثقافة" على أثير إذاعة الرباط الدولية، ثم في التلفزيون مع "مشارف"، ثم "بيت ياسين" في ما بعد. دائماً كنت صحافياً يشتغل بالأدب، ويشتبك مع قضايا الأدب في الإعلام، مطبوعاً كان أم مسموعاً أم مرئياً.
هل اختيارك لعنوان يزاوج بين كلمتين من لغتين مختلفتين في روايتك "هوت ماروك" له علاقة بمضمون الرواية أم أنه فقط غواية لإثارة فضول القراء؟
هناك داخل الرواية شخصية نبَّهت إلى أن عنوان هذا الموقع الإلكتروني في الأصل خاطئ وملفق لأن ''هوت'' كلمة إنكليزية، و''ماروك'' كلمة فرنسية. والمزج بين لغتين في عنوان واحد أمرٌ معيب. لهذا اقترحت هذه الشخصية (قمر الدين) تصحيحَ العنوان ليصير ''هوت موروكو".
لكن هذا العنوان مقصود على ما فيه من خطأ، لأن الأمر يتعلق برواية تحكي عن التلفيق الذي ساد مجتمعنا وحياتنا التي صار كلُّ شيء فيها ملفقاً، ولاشيء مبني وفق نسق ونظام. وبما أن التلفيق هو السائد في مجتمعاتنا وداخل الرواية، فقد اخترت أن يكون التلفيق بارزاً ملحوظاً منذ العنوان.
تخصصت في الأدب الانكليزي واشتغلتَ في بداياتك أستاذاً للغة الإنكليزية، لكنك التزمت بكتابة المقالات، الشعر، القصة والرواية، باللغة العربية. ما السبب وراء هذا الاختيار الحصري للغة العربية للكتابة؟
الإنكليزية لغةُ تكويني الأكاديمي، واللغة التي اشتغلت مدرّساً لها في فترة مهمة من حياتي، ولكن الإبداع شيء آخر. صحيح أنني نشرتُ أكثر من مادة كتبتها مباشرة بالإنكليزية في صحف أمريكية وألمانية، كما ساهمتُ في كتب جماعية منها كتاب "مرايا على المغرب"، وأيضاً حرّرتُ ونسّقت كتاب "مراكش نوار" الصادر بالإنكليزية عن دار أكاشيك بنيويورك، لكن الأمر مختلف بالنسبة للكتابة الأدبية؛ كلُّ كاتبٍ له لغةٌ أساسية هي لغة وجدانه.
والكتابة الأدبية بالنسبة لي حكرٌ على لغة الوجدان، وهي في حالتي اللغة العربية. ثم إن بداياتي الأولى في الكتابة كانت قبل أن أتعلم الإنكليزية، وكنت أقرأ بالعربية وأحاول أن أكتب بها. كان ينتابني إحساس بأني ابن الأدب ، وسأتخصص في الأدب وسأكون أديباً، وحين انتقلتُ للكلية درستُ الأدب الإنكليزي رغم أن مجالي الطبيعي هو الأدب العربي.
ذاك أنه كان لدي إحساس واهِمٌ مفادُّه: ماذا سيعلمونني في شعبة الأدب العربي وقدقرأتُ كلًّ شيء؟ كنت أظن واهماً أن قراءة القرآن والشعر القديم و"ألف ليلة وليلة" وروايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان وأعمال نجيب محفوظ هي إحاطة تامة بذخيرة الأدب العربي. وعموماً الأوهام أيام اليفاع تبقى مقبولة، وإن كانت خطرة لِما قد يترتّب عنها لاحقاً من إعاقات لمسار الأديب الشاب.
لكن بصراحة، كان هذا الخيارُ جيداً في الحقيقة، لأن الأدب الإنكليزي فتَّح مداركي على آفاق أدبية أخرى، وساهم أيضاً في تكويني كي لا أبقى أحاديَّ اللغة والرؤية والأفق. لأنه حين تكون أُحادي اللغة يكون أفقك محدوداً، وحين تقرأ وتفكر بأكثر من لغة يتَّسع أفقك ومداركك.
رصدَتْ روايتك "هوت ماروك" عدة خسارات، تتمثل أبرزها في خراب الجامعة، ضياع الثقافة، وتبعية الإعلام. ماذا يقترح الأستاذ ياسين عدنان للخروج من تغلغل الرُّويبضة في توجيه الرأي العام؟
سؤال صعب ومعقد، لأنني لو كنت أعرف كيف أقترح حلولاً لكتبتُ أشياء أخرى، ربما دراسة فكرية، بحثاً سوسيولوجياً، تأملات نظرية، وأقترحها عليكم. أنا في النهاية أكتب الأدب فقط، فالكتابة الأدبية يكفيها أن توصل لكم عمقَ الأزمة، وهذا كل ما أريد أن أفعله، وفعلتُه في "هوت ماروك"، وفي جزئها الثاني الذي اشتغل عليه الآن.
ياسين عدنان: الأدب الإنكليزي فتَّح مداركي على آفاق أدبية أخرى وساهم أيضاً في تكويني كي لا أبقى أحادي اللغة والرؤية والأفق
يعني كيف أجعلكم تنتبهون لحجم التصدع والفساد الذي طال أرواح العباد، فصرنا نعيش في زمن اختلطت فيه المعايير، فمن قرأ الرواية سيلاحظ أنه في المجال السياسي تحوّل فضاؤنا السياسي إلى ما يشبه السِّيرك. ففقدت السياسة رموزها ومناضليها الكبار الذين كانوا يدافعون بإخلاص عن المبادئ وعن الخير كمفهوم فلسفي، وعن المعنى، وعن المؤسسات ودولة المؤسسات. بالمقابل، امتلأ الفضاء السياسي بالانتهازيين والمرتزقة وسماسرة الانتخابات. وصار رأسمال هؤلاء الشعاراتِ الملفقّة الطنانة والأساليب الرخيصة في استدراج الأتباع وصناعتهم والتلاعب بهم.
لكن كل ما يشغلني في الرواية ليس هو كيف أصحح الوضع السياسي في البلد، فأنا لست دون كيشوت، وإنما كيف أوصل للقراء ما أحس به من خرابٍ في المجال السياسي، باختيار أحزاب مثل حزب الأخطبوط، حزب الناقة، والصراعات بينهما، ثم معركة الحلزون الطريفة التي اندلعت بين الحزبين "العتيدين" في مراكش. في واقع الرواية لا أبحث عن حلول، لأن الحلول تتجاوزني كشخص، ولكن أحاول أن أعري الواقع، وأبحث عن مفارقاته الكامنة، وأقربها للمتلقين والقراء لتظهر كم هي جارحة هذه المفارقات.
هذا عن الفضاء السياسي والحزبي، لكن ماذا عن المجال الإعلامي؟
في المجال الإعلامي أيضاً هناك نوع من التخلي عن الوظائف الأساسية للإعلام، وعلى رأسها الإخبار وتنوير الرأي العام. بالمقابل هناك طغيان للتلفيق وترويج الإشاعات، واندحار جماعي للأقلام الصحافية والمنابر التي يشتغلون فيها باتجاه السطحية والتفاهة؛ فمثلاً صحافيو هوت ماروك أغلبهم نماذج سيئة فقيرة إلى التكوين بكل مستوياته، بما فيها المستوى الأولي الأساسي، وهو المستوى اللغوي. فهم لا يتقنون اللغة العربية التي يكتبون بها "مقالاتهم".
صحافيو هوت ماروك في الغالب أشخاص تافهون، انتهازيون، ويبحثون عن المكاسب البسيطة، والتزلُّف لبعض الجهات، ويتاجرون بالصحافة. إذاً، أنا أقدم الصحافة التي يجب أن نواجهها حمايةً لشرفِ هذه المهنة. ولا أخفيكم أنني أتمنى وأنتم تقرؤون هوت ماروك -كطلبة صحافيين تتلقون تكويناً أرجو أنه جاد ورصين– أن ترددوا في قرارة أنفسكم: هؤلاء هم الصحافيون الذين لا نريد أن نكونهم، وإذا حصَّنَّا ذواتنا ونجحنا في حماية أنفسنا كي لا نكون مثل أوغاد "هوت ماروك" فهذا مكسب.
ومرة أخرى أكرر أن الرواية لا تعطي حلولاً بقدر ما تنبِّه فقط، وتُصوِّر بشكل كاريكاتوري أمراضَنا النفسية والاجتماعية في قطاعات مهنية مختلفة، وليس في مجال الصحافة فقط، ونحن نأخذ العبرة من الأدب بشكل من الأشكال.
"رحال"، هذه الشخصية المتردية التي ترتحل في الرواية كثعلب زفزاف، والتي تظهر وتختفي وتطارد الحيوانات في ملامح وجوه البشر، لماذا رحال أو السنجاب دون غيره من الشخصيات الأخرى لتضعه في عمق السرد وجوهر الحبكة في روايتك؟
رحال هو نموذج لظاهرة سلبية تفشّت في المجتمع. نعلم أن أمراض وأعطاب المجتمع لا تبرق في السماء بين النجوم، بل هي أعطاب نلمسها يومياً في معاشرتنا للناس على الأرض. لذلك وقبل أن نتحدث عن المغربي، أو عن الذات الجماعية، وعوض أن نقول إن المجتمع فيه اختلالات ما، فضّلتُ أن أسلط الضوء بشكل خاص على "رحال" الذي هو شخصية جبانة ومحبطة ومعقدة، يحاصرها الفشل من كلّ جانب.
شخص مهزوم يحس في قرارة نفسه أنه لا يصلح لشيء، وأن حياته رتيبة مملة بلا أفق وبلا معنى. ولكنه ما إن اشتغل بمحل إنترنت (سيبير كافيه)، ووجد نفسه أمام كومبيوتر رهن إشارته على مدار الساعة حتى بادر إلى خلق شخصية موازية على الأنترنت يعيش بها ومن خلالها حياة افتراضية مختلفة تماماً. وبما أنه في حياته الأصلية يعاني من الضآلة وخمول الذكر، فقد كان يتملكه حقدٌ مزمن على الناجحين وأصحاب الإرادات الحرّة والفاعلين في كل المجالات، وتغمره عدوانيةٌ مجانية لهم.
"كل ما يشغلني في الرواية ليس هو كيف أصحح الوضع السياسي في البلد فأنا لست دون كيشوت، وإنما كيف أوصل للقراء ما أحس به من خراب في المجال السياسي"
لكن وضعية الأنونيما (الغُفْلِية) التي أتاحها له الأنترنت جعلته يحرك كلَّ مشارعه السلبية ويستعيدها بكل اطمئنان، هكذا اختلق عدداً من الأسماء المستعارة والبروفايلات المزورة وعبرها ومن خلالها بدأ يؤذي الناس في الفيسبوك، ويطلق حولهم الإشاعات، ويسمم حياتهم على الشبكة، كما بدأ يداوم على التعليق على مقالات وأخبار الصحيفة الإلكترونية "هوت ماروك"، فاكتسبت تعليقاتُه على هذه الصحيفة الإلكترونية شهرةً وشعبية كبيرة في أوساط قراء يحبون هم أيضاً متابعةَ هذا النوع من التعليقات التي تطلق النار على كل من يتحرك في مشهدنا السياسي والثقافي.
أيمكن أن نجد ما يماثل هذا الوضع في الفضاء الإلكتروني المغربي؟
"رحال" أصلاً شخصية مستلهمة من الفضاء الالكتروني المغربي؛ فالشبكة العنكبوتية المغربية تمور بعدوانية وتبخيس، وتضج بمحاولات الضرب والجرح الرمزيين، بل بمشاهد القتل الرمزي أيضاً، فيكفيك أن تعبّر في الفيسبوك مثلاً عن رأي مختلف حتى تجد ألفاً ممن يُسفِّهُونك ويهاجمونك بعنف وشراسة. ليس هناك أي احترام للاختلاف أو إقرار بحرية الناس في أن يكون لهم رأي مختلف، وأن يعبروا عنه بدون لغة خشب. هذه العدوانية أثارتني، فحاولتُ أن أفهم أسبابها وأصلها.
لماذا نحن عدوانيون بهذا الشكل وإلى هذا الحد؟ ولماذاعدوانيتنا مجانية؟ وإذا لاحظتما، فالعدوانية تتمظهر في الفضاء الإلكتروني أكثر مما نلمسها في حياتنا الواقعية، لأن الناس بالإضافة لمشاعرهم السلبية، يسيطر عليهم الجُبن الذي يمنعهم من الإفصاح عن مشاعرهم السلبية مباشرةً أمامكم. فالفضاءات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي أتاحت لنا فرصةَ تفريغِ هذه المشاعر عن بُعد، وبشكل غير مباشر، وأحياناً من وراء حجاب، وعبر اسم مستعار، أو من خلال بروفايل مزيف.
هذا الأمر يحتاج للدراسة فعلاً، وبما أنني لستُ باحثاً متخصصاً، فحاولت مقاربة الظاهرة بأدوات الأديب، عبر معالجة سردية من خلال الشخصيات والأحداث والحبكة والمفارقات المضحكة المُبكية التي حاولت الروايةُ التقاطَها، والذين يقرؤون يمكنهم دائماً استخلاصَ العبر.
"اكتشفت أن المغاربة مع ترسّخ الانحطاط السياسي والحزبي صاروا يرمزون للأحزاب السياسية في الانتخابات برموز حيوانية يكتفون بها، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء حفظ الاسم الكامل للحزب الذي سيصوتون عليه أو محاولة الاطلاع على مشروعه السياسي والمجتمعي"
ولوكان "رحال" شخصاً واحداً لقتلناه وارتحنا منه، لكنه نموذج لأشخاص كثيرين يمارسون الاعتداء المجاني على الناس والسب والقذف في حقّ مواطنيهم بلا حسيب ولا رقيب، فرحال نموذج بسيط لرحَّالات متعددة تملأ الرحبَ الإلكتروني في مختلف مجالات الثقافة والسياسة والمجتمع.
لكن هل يمكننا اعتبار رحالات المجتمع ضحيةَ المجتمع نفسه، كونها منكسرةً ومضغوطة من ظروفها؟
هي ضحية فعلاً، فالذين قرأوا "هوت ماروك" سيلاحظون أنني حاولت ألا أقول إن رحال شخص سيء وفقط، أو إنه شرير وانتهى الأمر، بل هو ضحية بدوره. لهذا حاولت أن أعود للنبش في تاريخه الشخصي والبحث في طفولته عن أعطابه الشخصية. لم يكن رحال حسن الخلقة، لكن افتقاره إلى الوسامة لم يخلف لديه كطفل أي عقدة، فالأطفال حتى لو كانوا مشوهين أو قميئين، دائماً ما يتصرفون كأطفال بانطلاق وأريحيةٍ إلى أن يتدخل مجتمعهم (المحيط) ليُشعرهم بأعطابهم الجسدية ويعيِّرهم بها.
فالذي يُشعر الطفل أنه مشوّه وقميء هم نحن. لن نجد أبداً طفلاً في السادسة أو السابعة من عمره يتصرف على أنه غير مرغوب فيه، دائماً هو طفل ومنطلق. نحن من نوقف الأطفال ونقتل انطلاقهم وننال من توازنهم. وهو ما أحسَّ به والدُ رحال، فقرر أن يهجر القريةَ ويذهب لمراكش، إنقاذاً لابنه من قسوة المجتمع والأفراد والدوار والمحيط الذين حالوا دون أن يتحقق رحال في طفولته.
وحتى في مراكش سيعاني رحال من قسوة بعض الأتراب عليه، وستتواصل معاناته، وتستمر مع الأسف. وبالتالي حين سنحت له الفرصة للانتقام عبر الإنترنت ومن خلال فضاءات التواصل الاجتماعي، استحال إلى ذل كالوحش الإلكتروني الجبار الذي نحكي عنه في "هوت ماروك".
الكوميديا الحيوانية، عبارة كثيفة لعنوان لأحد فصول الرواية، ما الباعث بإحداثك لهذا التمثل الحيواني الذي تضفيه على شخصيات رواية هوت ماروك؟
كان سيكون عنوان الرواية في لحظة ما ''الكوميديا الحيوانية''، إذ كنت بين خيارين، إما أن تحمل الرواية عنوان "الكوميديا الحيوانية" أو "هوت ماروك". وفي الأخير فضلت "هوت ماروك"، لأن الكوميديا الحيوانية سوف تضعني أمام الكوميديتين، الإنسانية لبالزاك والإلهية لدانتي. فقلت لمَ لا أدرج عنواناً محايداً لا يضعني بالضرورة في مأزقٍ كأنني أريد مُسامَقة هؤلاء الكبار؟
"لا مواطنة كاملة بدون حد أدنى من المعرفة. والكتاب جوهري في بناء المعرفة بالذات وبالمجتمع. لهذا يجب أن تكون القراءة والكتاب في صلب أي محاولة لانتشال مجتمعنا من هذا الحضيض المُخزي الذي انحدرنا إليه"
ولكن الجانب الحيواني أساسي في الرواية، ولا أريد أن أمارس النقد الأدبي في مستواه البسيط، وأقول لكما بأننا صرنا اليوم نعيش في غابة، ومن هنا التجأت إلى الاستعارة الحيوانية. إنما الحقيقة هي أنني حينما كنتُ أبني الشخصيات بحثتُ لكل شخصية على قرين حيواني يشبهها، وأضفيت هذه اللعبة على رحال الذي يحس أن في قلب كل بشر هناك حيواناً مستخفياً.
وفي كل لقاء له مع أحدهم يبحث له عن الحيوان الكامن في داخله. هي لعبة سردية إذاً، وفي الأدب نحتاج للَّعب في السرد أو البناء، ولكن المهم هو كيفية توظيفها. واكتشفت وأنا أسترسل في هذه اللعبة السردية أن بين البشر والحيوانات تقاطعات كثيرة، فبدأت أبحث أنا الآخر -ككاتب وليس من خلال رحال وحده- لكل شخصية عن مقابلها الحيواني. ولكن في لحظة ما حين مررنا للسياسة، وتحديداً إلى الفصل الثالث المعنون بـ"الكوميديا الحيوانية"، اكتشفت أن المغاربة مع ترسّخ انحطاطنا السياسي والحزبي صاروا يرمزون للأحزاب السياسية في الانتخابات برموز حيوانية يكتفون بها دون أن يكلفوا أنفسهم عناءَ حفظ الاسم الكامل للحزب الذي سيصوتون عليه أو محاولة الاطلاع على مشروعه السياسي والمجتمعي.
هكذا صار حزب الناقة الإسلامي المحافظ يصارع حزب الأخطبوط الموالي للسلطة وأشهر معاركهم معركة الحلزون بمراكش، التي حاولتُ أن أفضح عبرها، بطريقة كوميدية، مدى الانحطاط الذي بلغه مشهدُنا السياسي الوطني.
هل تخلق المؤسسة الصحافية المغربية لدى عموم الجمهور الحاجةَ للتفاعل الإيجابي مع المادة الثقافية بتجلياتها المختلفة أم أن الهوامش المتاحة للثقافة في الصحافة والإعلام الوطنيين ليست أكثر من غيتو خاص بأهل الأدب والنقد ومن يدور في فلكهم من طلبة وباحثين؟
مع الأسف هذا تصورنا للثقافة في الإعلام، فمشكلة الإعلام في المغرب هي أنه يتجه من سيء إلى أسوأ، والدليل على أنه يزداد سوءاً هو أن هناك اعتقاداً بإمكانية ممارسة الإعلام بدون ثقافة، وهذا ما أحاول أن أرصده كذلك في الرواية الجديدة، فتلاحظون أننا لا نحتاج إلى معرفة، ولا إلى لغة، ولا معرفة بأمور الكاميرا، فبنقرة هاتفٍ يمكن نقل الفضيحة للجمهور، فصرنا نظن أن هذا هو الإعلام. فعلاً أصبح اللاإعلام هو الإعلام ، فلم يعد هناك أي مجهود يبذَل من أجل الخبر والمعلومة.
فوظيفة الإعلاميون الذين كانوا يشتغل على الخبر ويؤطرونه ويحللونه ويختارون عنواناً للخبر ثم يبنون وجهات نظرهم انطلاقاً من موقعه الفكري والثقافي، قد تراجعت تماماً. الآن، صرنا أمام سلاسل الفضائح المتشابكة والمتلاحقة، من فضيحة إلى أخرى، ونحن نسبح في هذا الإعلام الجديد وسط بحر متلاطم الفضائح. هذا كله لأننا فرّطنا في الكوابح التي تصنعها الثقافة. وأنا أعتقد أن الإعلام يحتاج وجوباً إلى الثقافة كركيزة أساسية. الإعلام إخبار وترفيه وتربية وتثقيف.
والإعلام السمعي البصري في القنوات العمومية الوطنية تلزمه دفاترُ التحملات بأن يخصص حيزاً للمادة الثقافية في برامجه، وهذا مهم، لكن المطلوب أن تكون الرؤية الإعلامية كلّها محكومة بخلفية وعمقٍ ثقافييْن، وهذا حديث آخر ذو شجون.
ربما تكون لدى ياسين عدنان رؤية بديلة للخروج من هذا المأزق.
مجتمعنا في الأصل ليس مجتمعاً قارئاً. كان متشبعاً بأمّيته مطمئناً إليها حتى قبل أن تطفو على السطح مواقعُ التواصل الاجتماعي وفيديوهات اليوتيوب التي استثمرت في هذه الأمية. ذلك أن كل إناء بما فيه يرشح. مع ظهور الإنترنت أصبح الناس يقرؤون الكتب على شاشاتهم ويتعاملون في فضاءات التواصل للترويج للكتب، والتشجيع على القراءة. في الحقيقة أكون مندهشاً لحجم الاهتمام الذي نالته رواية "هوت ماروك" في الفضاء الإلكتروني.
لكن هذا يحصل طبعاً في المجتمعات القارئة. أما المجتمع الأمي فسيواصل تسمين بهائم الأمية في الحضائر الإلكترونية. لذا إن كانت هناك رؤية بديلة –أرجو أنها لم تعد مستحيلة- فهي أن نشتغل على القراءة وعلى عادة القراءة لنجذِّرها في وجداننا، بدءاً من البيت بالإلحاح على وجود مكتبةٍ في كلّ بيت وفي كل شقة، حتى ولو كانت هذه المكتبة رفّاً صغيراً يتسع لبضعة عنوانين فقط.
وطبعاً مكتبة المدرسة لها دور أساسي لا تلعبه مع الأسف في مدارسنا وإداراتنا التربوية، فتتعامل معها في الغالب كفضاء هامشي مهمل. نحتاج إلى أن نمكِّن للقراءة في مجتمعنا، لأن القراءة تحصِّنُنا، والثقافة بدورها تحصّننا من هذه البلاهة التي استشرتْ بيننا. على الأقل نحتاج قليلاً من المعرفة اللغوية والوعي الفكري والثقافي لنحصِّن أنفسنا من تلاعُب الآخرين بنا وبمشاعرنا.
على الأقل يجب أن نكون قادرين على تفكيك الخطابات التي نتلقاها، والتي تريد أن تجرفنا بهذا الاتجاه أو ذاك. لا مواطنة كاملة بدون حد أدنى من المعرفة. والكتاب جوهري في بناء المعرفة بالذات وبالمجتمع. لهذا يجب أن تكون القراءة والكتاب في صلب أي محاولة لانتشال مجتمعنا من هذا الحضيض المُخزي الذي انحدرنا إليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت