شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
صراع النفوذ الإقليمي في العراق... إيران تغلغلت شيعياً وتركيا تحاول سنّياً

صراع النفوذ الإقليمي في العراق... إيران تغلغلت شيعياً وتركيا تحاول سنّياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 9 سبتمبر 202203:51 م

تتربع العلاقات التركية العراقية، على عرش اهتمام المراقبين للشأن الإقليمي، نظراً إلى المنافسة التي تشكلها تركيا مع الوجود الإيراني في البلاد، خاصةً بعد عام 2014 واستفحال تأثيراته السياسية.

ويُعدّ الدور التركي في العراق النقيض البارز لسياسة طهران في المنطقة، ويزعم البعض بأن هذا الدور لا ينبع من رغبات السيطرة فحسب، بل يتجاوزها إلى منافسة الدور السعودي، ليكون الواجهة السياسية السُنّية في المنطقة على غرار الواجهة الشيعية الإيرانية.

النظام السابق وتركيا

بالرغم من عدم التقاء العراق بكل من إيران وتركيا سياسياً، إلا أنه مرّ مع الأخيرة بفترات من التقارب الاقتصادي قبل عام 1990، ليس من حيث العائدات التي يدرّها الأنبوب النفطي العراقي التركي في جيوب حكومة أنقرة فحسب، بل من حيث التبادل التجاري الضخم بين البلدين أيضاً.

وبالرغم من التزام تركيا بحياديتها في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، إلا أنها استغلت انشغال بغداد بالمعارك الشرقية، لتنفيذ طلعاتها الجوية داخل الأجواء العراقية، ضد حزب العمال الكردستاني.

وعدّت بغداد مثل هذه التصرفات وعدم استجابة الطائرات التركية للتحذيرات العراقية، انتهاكاً صريحاً لسيادتها، ودفع ذلك بصدام حسين إلى الإيعاز بإسقاط أي طائرة تركية فوق الأجواء العراقية بعد تحذيرها مرةً واحدةً وإمهالها دقيقةً واحدةً للانسحاب.

في عام 1990، وبعد احتلال العراق للكويت، رفضت تركيا قطع علاقاتها الاقتصادية بالعراق، كما رفضت استعمال أراضيها لشن حرب ضده 

في 14 أيلول/ سبتمبر عام 1983، أسقط تشكيل جوي عراقي طائرتين تركيتين على بعد 14 كم من الحدود، وألقي القبض على أحد الطيارين، ولكنه سرعان ما سُلِّم إلى أنقرة بعد استجوابه، لتجنّب الحساسيات.

لم تكرر تركيا هذه الانتهاكات طوال السنوات اللاحقة، ووقّعت اتفاقيةً أمنيةً مع العراق تتيح لها شن ضرباتها الجوية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وضمن مدى يبلغ 5 كم من الحدود، ولمدة سنة واحدة فقط.

في عام 1990، وبعد احتلال العراق للكويت، رفضت تركيا قطع علاقاتها الاقتصادية بالعراق، كما رفضت استعمال أراضيها لشن حرب ضد العراق، ولكنها تراجعت عن ذلك، بعد تعهد واشنطن بتعويضها عن الخسائر الناجمة عن قطع علاقتها ببغداد، بالإضافة إلى رفع القيود العسكرية المفروضة عليها منذ احتلالها جزيرة قبرص عام 1974.

شكل هذا التراجع ومشاركة تركيا في المجهود الحربي ضد العراق، بداية القطيعة السياسية بين البلدين، وبحسب تصريح لمسؤول سابق في حكومة صدام حسين، فإن بغداد لجأت إلى أسلوب التهديد الإعلامي، ودعم حركات المعارضة التركية، لفرض وجهة نظرها في ما يخص الحقوق المائية للعراق.

ويستدرك المسؤول السابق في تصريحه لرصيف22، قائلاً إن هذا الدعم كان محدوداً نتيجة عدم سيطرة بغداد على مناطق شمال البلاد، ولكنه تمكّن من ردع تركيا عن إنشاء سدود مائية عدة على نهر دجلة بالقرب من الحدود العراقية، عبر هذه الوسائل.

ومع عام 2003، وبداية التحضير لحرب احتلال العراق، كررت الحكومة التركية رفضها المشاركة في البداية، كما كررت لاحقاً تراجعها عن قرارها وفتحت مجالها الجوي عبر قاعدتها الجوية أنجرليك، للطيران الأمريكي.

ما بعد عام 2003

عادت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى طبيعتها بعد احتلال العراق، ولكنها لم تتدخل في الشأن السياسي، إلا بحدود ضيقة تتعلق بحقوق القومية التركمانية.

وتؤثّر أنقرة بشكل لافت على السياسة التركمانية العراقية، من خلال سيطرتها على الجبهة التركمانية التي تمثّل مكوناً في البرلمان، وكان آخر هذه التدخلات عزل رئيس الجبهة ومؤسس خطها العلماني، أرشد الصالحي، في أواخر آذار/ مارس 2021، وتسليم زمام الأمور للخط الإسلامي "الإخواني"، وزعيمه حسن توران.

ويذكر مصدر في الجبهة التركمانية، أن تدخلات أنقرة في هذا الشأن، وعزلها للخط العلماني في الجبهة، أضعفا شعبيتها بين التركمان الشيعة الذين يشكلون نحو 50% من إجمالي عدد تركمان العراق.

تركيا لم تكتفِ بالسيطرة على السياسة التركمانية فحسب، بل تجاوزتها إلى محاولة الكسب الشعبي عبر تأسيس مراكز عدة لتعليم اللغة والثقافة التركيتين

ويؤكد لرصيف22، أن الإيعاز التركي بعزل الصالحي ينبع من اعتقادها بفشل الصالحي في تمثيل سياساتها، وميله نحو بعض أحزاب الإطار التنسيقي، لا سيما منظمة بدر الموالية لإيران، لذا تحاول حالياً تجربة قدرات خصمه توران، في قيادة الطموحات التركية داخل المجتمع التركماني.

ولكن تركيا لم تكتفِ بالسيطرة على السياسة التركمانية فحسب، بل تجاوزتها إلى محاولة الكسب الشعبي عبر تأسيس مراكز عدة لتعليم اللغة والثقافة التركيتين داخل المناطق التركمانية في كركوك والموصل، كما ميزت التركمان القاطنين في أراضيها عن بقية الأجانب.

العلاقة الكردية التركية

وبالرغم من الاعتقاد الشائع بأن السياسة التركية تنطلق من القاعدة السياسية التركمانية، إلا أن الدلائل تؤكد نقيض ذلك، واعتماد تركيا الحالي على الحزب الديمقراطي الكردستاني، نظراً إلى قوته السياسية.

ويرجع مصدر سياسي كردي هذه العلاقة بشكلها الوثيق إلى عام 2017، حين استغلت تركيا الخلافات السياسية بين بغداد وأربيل من أجل تحقيق طموحها في المنطقة.

ويصف هذه العلاقة في حديثه إلى رصيف22، بـ"المصالح الاقتصادية"، المستندة إلى تمثيل مصالح تركيا داخل الإقليم والبرلمان العراقي، مقابل تسهيل عمليات تهريب النفط الكردي عبر أراضيها.

ويؤكد المصدر الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، أن موافقة حكومة أربيل على هذا الشأن لا تتعلق بعائدات النفط المهرّب فحسب، بل بما تشكله تركيا من حاجز عسكري يعزل الإقليم عن التهديدات المحيطة به، وأبرزها تهديد الفصائل الولائية.

العلاقة التركية الكردية هدفها "المصالح الاقتصادية"، المستندة إلى تمثيل مصالح تركيا داخل الإقليم والبرلمان العراقي، مقابل تسهيل عمليات تهريب النفط الكردي عبر أراضيها

وتزعم بعض المعلومات، انتشار مكاتب المخابرات التركية داخل مدن الإقليم، ضمن مساعيها لحماية مصالحها ولرصد تحركات مقاتلي حزب العمال أيضاً. وتُعدّ هذه العلاقة من أبرز أسباب الفجوة الحالية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وخصومه في الاتحاد الوطني، والتي دفعت الأخير إلى التزام جانب إيران السياسي من المعادلة السياسية في المنطقة.

الخريطة السياسية السنّية

لم تتضح بوصلة العلاقة التركية بالمكون السياسي السُنّي، حتى عام 2014، واقتصرت قبل ذلك على علاقات خجولة مع بعض قيادات الحزب الإسلامي العراقي، المعروف بإخوان العراق، بالإضافة إلى نائب رئيس الجمهورية وقتها، طارق الهاشمي.

ويعتقد البعض أن علاقة الهاشمي بتركيا هي السبب وراء اتهامه بالإرهاب والحكم عليه بالإعدام غيابياً بتأثير من الأحزاب السياسية المرتبطة بإيران، والتي شعرت بالتهديد من مثل هذه التحركات الفجائية وقتها.

بعد عام 2014، تغيّر نمط العلاقة، وبدأ الاستقطاب التركي للسياسيين السنّة يقوى تدريجياً، بعد أن أتاحت لبعض شيوخ العشائر الهاربين من الحكومة البقاء في أراضيها، كم قدّمت دعمها لمحافظ الموصل وقتها، أثيل النجيفي.

وكان النجيفي قد صرح أكثر من مرة بدعمه للمشاركة التركية في عمليات تحرير الموصل، ورفض دخول قوات الحشد الشعبي الموالي لإيران إلى المدينة، كما ندد في الآونة الأخيرة بالانتقادات التي طالت تركيا إثر قصفها منتجع برخ في محافظة دهوك.

تركيا وثّقت عبر الحزب الديمقراطي الكردستاني، علاقتها برئيس البرلمان محمد الحلبوسي، أيضاً، وحفّزت القياديين السُنّة للائتلاف معاً

بالإضافة إلى النجيفي، فإن لتركيا علاقات برجل الأعمال الأنباري خميس الخنجر، إذ يزعم مصدر سياسي سنّي بأن توافق الأخير مع تركيا، تم برعاية كردية، ودعمته تركيا لتدشين مكتب لقناتيه التلفزيونيتين في إسطنبول، لتكونا جزءاً من الماكينة الإعلامية التركية.

ويوضح المصدر لرصيف22، بأن تركيا وثّقت عبر الحزب الديمقراطي الكردستاني، علاقتها برئيس البرلمان محمد الحلبوسي، أيضاً، وحفّزت القياديين السُنّة للائتلاف معاً في تحالف السيادة، بعد الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2021.

يُذكر أن الرئيس التركي أردوغان قد اجتمع بالحلبوسي والخنجر في 26 شباط/ فبراير الماضي، بحضور رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، وتمحور الاجتماع حول اختيار الشخصية الملائمة لمنصب وزارة الدفاع المخصص للمكوّن السنّي بحسب نظام المحاصصة، ولكن الخلاف داخل البيت الشيعي حال دون تحقيق هذا الأمر.

وهذه ليست المرة الأولى التي يستقبل فيها أردوغان الخنجر، إذ سبق أن جمعهما لقاء قبيل أيام من الانتخابات البرلمانية في 4 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2021.

وترغب تركيا من خلال هذه العلاقة في نشر نفوذها كمدافع قوي عن السياسة السنّية في المنطقة، بحسب المصدر، الذي يؤكد أن الموقف السياسي للكتل السنّية من الأزمة السياسية إنما ينبع في الأساس من وجهة نظر تركيا إليها.

وتسعى أنقرة من أجل تثبيت موقفها داخل الوسط السني إلى دعم أحزابهم مادياً، وتدريب عناصر الحراسة الخاصة بهم من قبل جهاز المخابرات، ما يجعل منهم عناصر تجسس على تحركات رؤسائهم.

أهداف تركيا

يرى رئيس أكاديمية التطوير السياسي والحكم الرشيد، عبد الرحمن الجبوري، أن تركيا تعدّ العراق أحد منافذها وأسواقها الاقتصادية، وتتمسك به، نظراً إلى صعوبة إيجاد شريك تجاري يتعامل معها بمبلغ 15 مليار دولار في الوقت الحالي، بالإضافة إلى العائدات المالية التي تدرّها الحركة الاستثمارية والعقارية والسياحية.

ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أن التنافس الإقليمي السياسي هو الهدف الأساس الذي يعزز بحثها عن أصدقاء سياسيين محليين، تديم مصالحها بناءً على قوتهم السياسية.

ولطالما عُرفت تركيا ببعد نظرها السياسي وتفضيلها مصلحتها الداخلية، وتالياً فإن جميع علاقاتها الحالية توضع في خانة رغبتها في الوجود في العراق كبديل من النفوذ الإيراني، ولكنها لم تكن لتتخذ مثل هذه الخطوة لولا تراجع النفوذ الأمريكي، وإتاحة المجال لها كواجهة لردع القوة الإيرانية في المنطقة.

بعد عام 2014، تغيّر نمط العلاقة، وبدأ الاستقطاب التركي للسياسيين السنّة يقوى تدريجياً، بعد أن أتاحت لبعض شيوخ العشائر الهاربين من الحكومة البقاء في أراضيها

وبحسب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فإن تركيا قد ربحت مناقصة إعادة إعمار مطار الموصل الدولي، بالضد من شركات فرنسية مشاركة في المناقصة، وبالرغم من الميزات التي قدّمتها المناقصة الأخيرة، إلا أن رفضها ينبع من رغبة الولايات المتحدة في التواجد الاقتصادي التركي في البلاد، نظراً إلى قرب تركيا وقدرتها على التحرك السريع لردع النفوذ الإيراني في شمال البلاد.

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد زار مدينة الموصل في آب/ أغسطس 2021، ضمن مساعيه للمشاركة في عمليات إعادة إعمار الموصل، وتثبيت وجود بلاده في المحافظة التي تضم الكثير من التراث المسيحي.

وتيرة الصراع بين البلدين على العراق تبدو أوضح إثر انتقاد السفير الإيراني في بغداد محمد كاظم آل صادق، للتواجد العسكري التركي في الموصل، وقال إن إيران لا تقبل بتدخل تركيا أو غيرها في العراق وتعارض العدوان على أراضيه، ورد على ذلك سفير أنقرة في بغداد فاتح يلدز، بقوله إن إيران هي آخر من ينتقد تركيا في هذا الشأن.

وكانت الخارجية التركية قد استدعت في 28 شباط/ فبراير عام 2021، السفير الإيراني لديها، محمد فرازمند، للاعتراض على هذه التصريحات، واستدعت طهران بدورها السفير التركي للتنديد بتصريحات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، في شأن تواجد 525 عنصراً من حزب العمال داخل إيران.

كُل ما سبق، يؤكد أن العراق تحول إلى ساحة للصراع بين البلدين العازمين على الحفاظ على وجودهما فيه، عبر أذرعهما السياسية، والتي تشكل اليوم أدوات فاعلةً في استمرار الأزمة السياسية الحالية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image