شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
طرابلس

طرابلس "مشروع مقبرة جماعية"... 300 مبنى أثري على شفا الانهيار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والفئات المهمشة

الأحد 11 سبتمبر 202210:17 ص
Read in English:

Tripoli's impending disaster: 300 ancient buildings on the brink of collapse

كان يمكن أن تواصل جمانة ديكو، الطفلة ذات السنتين، حياتها وأن تعيش طفولةً هانئة ككل الأطفال، إلا أنها رَحَلت إثر سقوط مبنى مؤلف من ثلاث طبقات في محلّة ضهر المغر في طرابلس، شمالي لبنان، في حزيران/ يونيو 2022.

مبنى ضهر المغر لم يكن الأول ولن يكون الأخير، ففي طرابلس أكثر من 300 مبنى آيل إلى السقوط، وفيها يعيش ناس منسيون، حياتهم مهددة بالخطر. وجمانة ليست الضحية الوحيدة، فمثلها توفي عبد الرحمن كاخية (21 عاماً) وأخته راما (18 عاماً)، إثر انهيار مبنى الفوال في ميناء المدينة عام 2019، ومثلهم سقطت شقيقتان ضحية انهيار شرفة منزل سكني في منطقة القبة، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021… ويستمر هذا التهديد المباشر للحياة وللإرث التاريخي والحضاري في المدينة، في ظل إهمالٍ ممنهج تتعرض له ثاني أكبر مدينة في لبنان.

مَن سرق المدينة؟

مرّت على المدينة أحداث كثيرة أودت بأبنية ذات أهمية تاريخية وأثرية، وأدت إلى سقوط ضحايا، بدءاً من طوفان نهر أبو علي، عام 1958، والذي أدى إلى خسائر بشرية وأخرى عمرانية فادحة، وانتهت خطط الدولة المدنية العشوائية لإصلاح ما نتج عنه بجرف مناطق أثرية بطريقة غير مدروسة وبتشويه البنية العمرانية الأثرية للمدينة.

وما إنْ بدأت المدينة تستعيد أنفاسها بعد الطوفان حتى أتت الحرب الأهلية عام 1975، لتترك خراباً وتصدّعاً في أبنية المدينة الأثرية. ونتيجة ذلك، هجرت معظم العائلات المالكة مساكنها التراثية إلى أبنية آمنة، واستوطنت عائلات فقيرة هذه الأبنية التي تتركز غالباً في المدينة التاريخية، مقابل إيجارات بخسة، وبقي معظمها هناك حتى الآن، وفق ما يعرف بالإيجارات القديمة.

و"الإيجارات القديمة" هي عقود الإيجار التي عُقدت قبل عام 1992، والتي قررت السلطة أن تجعلها بلا سقوف زمنية، فبقي المستأجرون فيها وظلوا يدفعون نفس قيمة الإيجار الواردة في العقد، وهي مبالغ صارت رمزية مع الوقت، مع انهيار قيمة العملة اللبنانية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته.

ووفق تقديرات المديرية العامة للآثار التابعة لوزارة الثقافة، بلغ عدد الأبنية المتصدعة في طرابلس 300 مبنى منها ما هو آيل للانهيار، مع العلم أن الدراسة تعود إلى عام 2018، أي أن العدد ربما ارتفع الآن. وسكان هذه الأبنية غالباً لا يملكون بديلاً، ولا يستطيعون استئجار مسكن آمن، بسبب ظروفهم الاقتصادية.

ماذا قدّمت الدولة للمدينة؟

في إجابته عن مصير الأبنية الأثرية المهددة، أشار الرئيس الحالي للجنة الآثار والتراث التابعة لبلدية طرابلس الدكتور خالد تدمري إلى أن اللجنة لا تملك صلاحية إنشاء صندوق مالي لتحمّل أعباء تدعيم أو ترميم الأبنية الأثرية أو المعالم الأثرية، بل تقتصر صلاحياتها على تقديم اقتراحات ومشاريع لتحسين وضع المدينة ككل، أو القيام بدور رقابي في حال الحصول على مساعدات دولية أو محلية.

ما زاد المشكلة تعقيداً، يضيف تدمري، هو أنّ عدداً كبيراً من هذه الأبنية هو ملكيات خاصة أو يعود إلى مصلحة مديرية الأوقاف الإسلامية، في حين أن البلدية لا يمكنها التعامل إلا مع عقار مسجل لمصلحة الدولة. كما أن مديرية الآثار العامة التابعة لوزارة الثقافة وضعت شروطاً تعجيزية لترميم المعالم الأثرية في الأبنية، ألا وهي استشارة مهندسين مختصين لترميم الزخارف والعناصر المعمارية وتدعيمها، ما يتطلّب ميزانية مالية باهظة. كل ذلك يدفع المالكين إلى ترك الأبنية على حالها حتى تنهار، فيما يبحثون عن سكن في أبنية حديثة.

بعد الحرب الأهلية، أنشأت الدولة وزارة المهجرين، وكان من ضمن مهماتها إصلاح الأضرار الناجمة عن الحرب، إلا أن تدمري يشير إلى أن هذه الوزارة لم تضع طرابلس على خارطة عملها، إذ قامت بترميم أبنية لم تكن مأهولة سابقاً ولم يسكنها أحد من بعد، كما جرى في محافظة جبل لبنان، وهذا كله على حساب مناطق أخرى فيها أبنية بأشد الحاجة إلى الترميم، مثل طرابلس، ما يعني أن خطة الوزارة لم تكن مدروسة نهائياً.

في طرابلس أكثر من 300 مبنى آيل إلى السقوط، وفيها يعيش ناس منسيون، حياتهم مهددة بالخطر… ويستمر هذا التهديد المباشر للحياة وللإرث التاريخي والحضاري في المدينة، في ظل إهمالٍ ممنهج تتعرض له ثاني أكبر مدينة في لبنان

ويحمّل تدمري المسؤولية لنواب المدينة الذين لم يحرّكوا ساكناً ولم يطالبوا بحقوق المدينة وأبنائها، إضافة إلى مالكي هذه الأبنية التي تعود بمعظمها إلى عائلات طرابلسية عريقة ومعروفة. وبرأيه، ضاعت المسؤولية لكثرة حامليها.

ومن الحلول التي يقترحها تدمري أن تتولى شركة خاصة كشركة سوليدير أمر ترميم الأبنية، بحيث تشتري كل هذه الأملاك وتتحمل مسؤوليتها… وهو حل في حال تطبيقه ربما يعني أن تواجه طرابلس تشويهاً جديداً لهويتها على غرار ما عاشته مدينة بيروت بعد الحرب الأهلية من محو للذاكرة لمصلحة البناء التجاري الحديث، مقابل ضياع حق المالكين وحق السكان، في غياب البدائل أو الخطط السكنية.

قصور المدينة

مثل الكثير من الأبنية الأثرية، المأهولة منها وغير المأهولة، تواجه قصور طرابلسية الأثرية العريقة خطر السقوط أو التداعي. ففي محلّة سوق السمك وهو من حارات أسواق المدينة القديمة، يقبع قصر "المقدم" المعروف بقصر شاهين، ويشكو السكان الذين قابلناهم من الخطر الذي يشكله في حال سقوطه، علماً أنه مأهول من عائلة فقيرة تنتظر مصيرها مثله.

على الجهة المقابلة، يقع قصر "خضر آغا" شديد التهالك والذي تقطن فيه عائلة سورية، تواجه أيضاً خطراً حقيقياً في حال سقوط المبنى. وأخبرنا سكان من الحي أنهم طلبوا مساعدة البلدية والمعنيين مراراً منذ عام 2016، ولكن الاستغاثات انتهت بتدعيم أحد جدران القصر بقطعة خشب.

اتفاقات من ورق

يوضح المهندس المختص بترميم الأبنية الأثرية وتوثيق الزخارف في طرابلس باسم زودة أن هذه الأبنية شديدة القدم، ما جعل بنيتها العمرانية في حالة حرجة، ناهيك عن أن فترة الحرب الأهلية زادت الوضع سوءاً، لا سيما مع بناء طبقات مخالفة بدون رخص بناء، فوق العمران القديم، إضافة إلى القصف العشوائي الذي تعرضت له طرابلس منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الحرب المناطقية بين جبل محسن والتبانة بين عاميْ 2008 و2015، وبذلك باتت هذه الأبنية الأثرية تشكل خطراً حقيقياً على السلامة العامة.

ووفق معلومات جمعناها من بعض النشطاء، لم تنفع جميع المطالبات والمناشدات للبلدية ومديرية الآثار، بسبب نقص الإمكانات المادية، إضافة إلى إشكالات وعدم اتفاق بين أعضاء المجلس البلدي حول الاستفادة من المشاريع وتقسيم الحصص.

فيما تغيب الدولة اللبنانية عن طرابلس وأهلها وكأن حياتهم غير مهمة، هل تصبح المدينة التي تعلو بوّابتها عبارة "ادخلوها بسلام آمنين" مقبرة جماعية، تلتهم أرواح الآلاف تحت ركام أبنية آيلة للسقوط؟

وكانت مديرية الآثار قبل الأزمة الراهنة، عام 2017، قد عقدت اجتماعاً مغلقاً بحضور رئيس البلدية السابق أحمد قمر الدين وأعضاء آخرين في قلعة طرابلس، وتم الاتفاق على إنشاء صندوق خاص لدعم الأبنية والقصور المتهالكة، على أن تخصص له البلدية ثلاثة مليارات ليرة (مليونيْ دولار وقتها)، وتتعهد المديرية بمدّه بأموال المتبرعين والمنح والمساعدات التي تستطيع الحصول عليها. وجال المجتمعون في طرابلس لمعاينة حال بعض الأبنية المتهالكة، إلّا أن شيئاً من الاتفاق لم ينفّذ حتى الآن.

نظراً لعدم وجود أي دلائل رسمية سوى شهادة أحد الحاضرين في هذا الاجتماع وبعض الصور من الجولة، تواصلنا مع قمر الدين لمعرفة مصير هذه المقررات، إلا أنه لم يُبدِ تعاوناً، ولم يجب على الاستفسارات في هذا الخصوص.

صورة من الجولة على الآثار المتهالكة: من الشمال، رئيس لجنة الآثار في جمعية العزم والسعادة جمال ساعاتي، المهندس جميل جبلاوي، رئيس البلدية السابق أحمد قمر الدين وغيرهم من أعضاء مديرية الآثار.

على الضفة الشرقية لنهر أبو علي، يمتدّ حزام بؤس طويل، البحصة، الحارة البرانية، القبة، فالتبانة والبداوي... هذه المنطقة المتسمة بالفقر حالياً هي في الواقع المدينة التاريخية الغنية التي تحوّلت إلى خرب تسكنها عائلات لا تملك ملجأ آخر، داخل أبنية متهالكة لم تعرف الصيانة أو الترميم منذ عقود، مع ما يشكِّله ذلك من خطر على البشر والحجر والهوية المعمارية التاريخية للعاصمة المملوكية الثالثة في العالم العربي، الفيحاء، بعد القاهرة وحلب.

وفيما تغيب الدولة اللبنانية عن طرابلس وأهلها وكأن حياتهم غير مهمة، هل تصبح المدينة التي تعلو بوّابتها عبارة "ادخلوها بسلام آمنين" مقبرة جماعية، تلتهم أرواح الآلاف تحت ركام أبنية آيلة للسقوط؟

*يُنشر هذا التحقيق بالتعاون مع "الجمعية اللبنانية لدعم البحث العلمي" وبإشراف الصحافية باسكال صوما.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard