جزء من الصدمة التي سببتها كلمات الطبيبة شيرين غالب، في حفل تخرّج طبيبات كلية الأزهر في محافظة أسيوط في جنوب مصر، هو أنها كلمات بدت متناقضةً كلياً مع لائحة الألقاب المهيبة التي تزيّن اسم الطبيبة المرموقة، فهي أستاذة الطب الشرعي والسموم، وهي حائزة الزمالة البريطانية في الطب الشرعي (المرأة المصرية الوحيدة التي حازتها)، وهي أول سيدة تشغل مقعد نقيب أطباء القاهرة. إنها ألقاب وإنجازات لا تتوقف عند درج العلم فحسب، بل إنها قبل ذلك وبعده تكاد تمثل التطبيق العملي لكلمة "المهنية"، لذا فإن وجودها في حفل تخرج طالبات تستعددن لبدء حياتهن العملية كان وجوداً بديهياً، أما فحوى الكلمة التي ألقتها عليهن، فلم يكن كذلك. لقد اشتعل الجدل واحتدم سريعاً طوال الأسبوع بسبب كلمات الدكتورة شيرين، وفي الفقرة التالية تذكير سريع بما قالت: "كلمة بس للطبيبات الجمال اللي متخرجين النهار ده، إنتي بيتك ثم بيتك، أولادك وبعدين مهنتك، أوعي حد يقولك مهنتك قبل ولادك، أوعي، حضرتك لو قعدتي في بيتك في مليون طبيب برا هيعالج، لكن لو سبتي ولادك ملهمش غير أم واحدة هي إنتي".
بالطبع، فإن للتصفيق الذي اشتعلت به أكفّ الطبيبات -اللواتي لم يصبحن بعد حقاً طبيبات- في حفل التخرج تفسيرات متعددةً، ربما المجاملة، وربما الاقتناع، وربما الإعجاب بالأستاذة الكبيرة في تخصصها العلمي ومهنتها ودورها الناشط كنقابية
في روايته الشهيرة "خفة الكائن التي لا تحتمل"، يقول ميلان كونديرا إن المستمع الجيد هو الذي لا ينتهز الفرصة ليقول: "هذا صحيح، فأنا مثلاً... ثم يبدأ الحديث عن نفسه". لم تكن الدكتورة شيرين هي المستمعة في ذلك النهار، بل المتحدثة، وكلمتها كانت طويلةً استغرقت نحو 20 دقيقةً، لكن الإنترنت تناقل منها نحو دقيقتين، لهذا -بسبب الدقائق الطويلة- قالت في الفيديو المتداول إنها لا تريد أن تطيل، وكانت قد أطالت بالفعل، ثم بدأت بالحديث عن نفسها، موضحةً أنها تركت تخصص الباطنة في بداية حياتها الوظيفية حين شعرت بأن التخصص قد يؤثر -بسبب ساعات عمله– على أسرتها وبيتها، واختارت تخصصاً "مناسباً أكثر".
بالطبع، فإن للتصفيق الذي اشتعلت به أكفّ الطبيبات -اللواتي لم يصبحن بعد حقاً طبيبات- في حفل التخرج تفسيرات متعددةً، ربما المجاملة، وربما الاقتناع، وربما الإعجاب بالأستاذة الكبيرة في تخصصها العلمي ومهنتها ودورها الناشط كنقابية، وربما لأنهن الخريجات الجديدات، وعديمات الخبرة، وبنات منطقة جغرافية في الصعيد تتفق ثقافتها التقليدية كثيراً مع ما ذهبت إليه الدكتورة الشهيرة، وعلى كل حال فإن التصفيق ذاك لم يمنع الصدام في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وكما هو متوقع فقد انتقدت مؤسسات حقوق الإنسان والناشطات فيها تصريحات غالب، بينما أيّدها الأصوليون والمحافظون ورجال الدين، ووجد فيها البعض تشجيعاً على الفردية الأنانية، بينما تحدث محبّو إمساك العصا من المنتصف عن مشكلة السياق، عادّين أن العيب الوحيد في تصريحات غالب، هو أنها جاءت خلال حفل تخرج، أي في مناسبة مهنية بحتة، فبدت -في تفضيلها للبيت والأسرة- كمن يسكب دلواً بارداً على الحفل، أو يصادر مستقبل الخريجات.
معظم الانتقادات التي وُجّهت إلى خطاب الطبيبة شيرين، في محاولتها تفكيك منطقه أو العثور على ثغرات فيه أو إثبات خطئه، كانت تحاول إثبات أن الدور "الصحيح" للمرأة هو كذا وليس كذا، على طريقة "الشرع الصحيح" و"الدين الحقيقي"
لكن النقاش سرعان ما وقع في الفخ الذي نصبته الأصولية/ المحافظة، فمعظم الانتقادات التي وُجّهت إلى خطاب الطبيبة شيرين، في محاولتها تفكيك منطقه أو العثور على ثغرات فيه أو إثبات خطئه، كانت تحاول إثبات أن الدور "الصحيح" للمرأة هو كذا وليس كذا، على طريقة "الشرع الصحيح" و"الدين الحقيقي". إنه فخ قديم لطالما وقع فيه حتى من عدّوا أنفسهم في الماضي دعاة حقوق المرأة، لكنهم كانوا -على الأقل- معذورين بانتمائهم إلى زمن آخر كانت فيه المرأة المتعلمة أو العاملة -في شرقنا- محض أعجوبة، هكذا أنشد "شاعر النيل" حافظ إبراهيم، أبياته الشهيرة "الأم مدرسة إذا أعددتها... أعددت شعباً طيب الأعراق". تلك الأبيات الي درستها أجيال متعاقبة في المدارس ظلت، إلى الآن، تقدّم "التبرير" الأشهر لمسألة تعليم المرأة أو "إعدادها"، وهو أن ذلك "الإعداد" سوف يُنتج في النهاية "شعباً طيب الأعراق"، وهو هدف نبيل ولا شك في ذلك! لكنه يعني أن تعليم المرأة ليس إلا وسيلةً، والوسائل بطبيعتها يمكن استبدالها أو تطويرها أو حتى الاستغناء عنها إذا لزم الأمر.
بعبارة أخرى، لماذا يستطيع حافظ إبراهيم أن يكون شاعراً أو لا يكون، بينما ينبغي للمرأة أن تكون وسيلةً لتحقيق "هدف مهم"، سواء داخل البيت أو في مجال العمل؟
هكذا فإن النقاش دار حول أيهما "الأفضل": أن تعطي المرأة الأولوية لبيتها أو لعملها؟ لكن الأفضل لمن؟ لها أم للرجل والأسرة أم للشعب الطيب الأعراق؟ إنه المنطق نفسه الذي يمنع المرأة من العمل أو حتى التعليم تماماً في بعض البلدان، أو يقرر لها أنواع التعليم ومجالاته التي من "الأفضل" أن تلتحق بها في الجامعة، ويمنعها من مجالات وأقسام دراسية أخرى لأن التحاق المرأة بها "لن يفيد المجتمع".
وهكذا أيضاً دافع آخرون عن حق المرأة في تفضيل حياتها المهنية من أجل "حمايتها من شرور المجتمع"، كي "لا تجد نفسها في الشارع إذا طلّقها زوجها"، أو "لكيلا تضطر إلى العيشة المُرّة بسبب اضطرارها الاقتصادي". إن تلك الحجج سليمة بلا شك لكنها تبقى كذلك على أرضية حق المرأة في العمل كوسيلة لتحقيق هدف مهم وهو حماية المرأة من التجبر الذكوري أو الشدائد الاقتصادية، فماذا لو تم توفير تلك الحماية عبر تعديلات قانونية أو معاشات للضمان الاجتماعي، هل ينتفي أو يتراجع "مبرر" المرأة للعمل؟
لماذا لا تستطيع المرأة أن تقرر ليس فقط ما هو الأفضل، بل أن تقرر أنها لا تريد أن تختار الأفضل، لنفسها أو للمجتمع، وأن تعمل في مفاعل نووي أو تهيم على وجهها في الحدائق؟ فهي ليست شيئاً يعيش في عالم الرجال و"يصنع أسرهم"
بعبارة أخرى، لماذا يستطيع حافظ إبراهيم أن يكون شاعراً أو لا يكون، بينما ينبغي للمرأة أن تكون وسيلةً لتحقيق "هدف مهم"، سواء داخل البيت أو في مجال العمل؟ لماذا لا تستطيع المرأة أن تقرر ليس فقط ما هو الأفضل، بل أن تقرر أنها لا تريد أن تختار الأفضل، لنفسها أو للمجتمع، وأن تعمل في مفاعل نووي أو تهيم على وجهها في الحدائق؟ فهي ليست شيئاً يعيش في عالم الرجال و"يصنع أسرهم". إن لها منظورها المستقل، وحقها في عدم فعل شيء، وفي ألا تكون "مفيدةً"، يساوي تماماً حقها في فعل كل شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...