الوصمة السلبية التي لا تخلو من التهكم، والتي تُستقبل فيها النسويات، هو موضوع يطول الحديث عنه. لكن الغريب أنني أعجز تماماً عن تذكر الوقت الذي أصبحت فيه نسوية. يبدو كأن الأمر كان فطرياً، تماماً كتعلم اللغة الأم. لا تذكر حياتك قبله ولا يثير الموضوع أي تساؤل! لكنني أشك بأنني وحيدة في هذا، أو أقلية، بل على العكس، أنا أنتمي لأكثرية، أكثرية ساحقة. أستطيع أن أقول، بثقة يكاد ألا يشوبها شك، إن معظم نساء العالم نسويات، سواء تكنيّن بهذه الصفة أم لا (خوفاً من الوصمة)، وسواء أقريّن بهذا أم لا. يشبه الموضوع إلى حد ما تلقائية الشعور بالعنصرية، التي عاشها ذوو البشرة السوداء لعصور. وأستخدم هذا التشبيه من دون أي نية لتعظيم سوء حال النساء، أو تحقير حجم معاناة ذوي البشرة السوداء.
لكن لا يمكن إنكار حالة "المواطن درجة ثانية"، التي تعيشها النساء حول العالم. من التفاوت في الدخل والأعراف الاجتماعية المجحفة في أحسن الأحوال، وصولاً إلى التهميش والتعرض للعنف بل والقتل في أسوأ حالات التمييز الجنسي، التي تعاني منها الكثير من المجتمعات، مروراً بكل ما بينهما.
في مجتمعي، ليست المواليد من الإناث مرحباً بهن، بل تنخفض درجة الاحترام الاجتماعي للنساء والرجال، الذين لم يرزقوا بمولودٍ ذكر. حتى أن بعض المواويل الجبلية التي تترنم بها النساء في المناسبات، تستثني ذكر أسماء النسوة الحاضرات، اللواتي لم يرزقن ذكوراً. كان خالي الذي استمر بالإنجاب على ضيق حاله حتى يرزق "بالصبي" يُعيّر أحياناً بأنه "أبو البنات"، رغم أنه رزق بذكر في المحاولة السادسة. ولطالما رددت أمي، الخريجة الجامعية، من دون أي حرج، أنها حملت ثانية رغم أنف والدي لأنها أرادت ذكراً، وحصلت عليه. لمن تهمه معرفة تتمة القصة، وبقيت تعتبره مميزاً. في مجتمعي الأنثى عورة وفضيحة، ومع ذلك فهي هدف يومي للتحرش بكل أنواعه، من التحرش اللفظي العابر في الشارع، وصولاً إلى الاغتصاب المتكرر وكل ما بينهما. وإن تعرضت لأي من ذلك فهي المُلامة، أو على الأقل تحمل جزءاً من اللوم، كما يتفضل بعض المحافظين، الذين يدعون الانفتاح والذين أخرجوا عقولهم للتو من "باب الحارة". فالأخوات والأمهات هن شرف العائلة ومجرد ذكرهن في مجادلة حامية كافٍ بأن يشعلها إلى حرب دامية. ولكن على رفعة مقام فروجهن خارج المنزل، فإن مكانة شخوصهن في العائلة لا تزيد عن المواطن درجة ثانية، وتتدنى إلى ما دون ذلك في معظم الحالات.
نطقت الدكتورة وشعرت بمرارة في حلقي وبرود في أطرافي. كانت ابتسامتي مصطنعة، وحال زوجي كذلك... مولودي المنتظر أنثىمنذ فترة قريبة كنت في سهرة مع صديقاتي. كنا ست نساء تراوح أعمارنا بين 32 و42. جميعنا أمهات ونعرف بعضنا بعضاً منذ زمن طويل. دارت الأحاديث، وبدأنا بكثير من الفكاهة نقص حوادث التحرش التي تعرضنا لها في الباصات، وعلى الطرقات كمراهقات وطالبات مدرسة وجامعيات. لكن المؤلم كان عندما اكتشفنا أن لدى كل واحدة منا قصة واحدة على الأقل، عن حادثة تحرش جنسي تتعدى اللفظ والملامسة العَرَضية في الباص، إلى تحرش جنسي حميم وصل إلى الاغتصاب لدى البعض. جميع المعتدين كانوا من العائلة. وجميعنا تعرضنا للتحرش. جميعنا أتينا من بيوت مثقفة، متعلمة وعشنا ضمن عائلات متماسكة. لو كنا مجال دراسة ما واعتُبرنا عينة عشوائية، لكانت النتيجة 100% من الإناث في مجتمعي عرضة للتحرش الجنسي الحميم. أتوقف لحظة لأتساءل: تُرى ماذا سيقال عن مجتمعنا في عالم اليوم الذي أصبحت الكثير من دوله تقيس تقدمها الاجتماعي بمساواتها الجندرية؟ "لحسن الحظ" فإن حوادث التحرش الجنسي ليست حكراً على مجتمعاتنا العربية. وأقول إن حظنا كان حسناً هنا، لأننا نحمل خِراجاً من المشاكل الاجتماعية، والسياسية، التي تعكس عنا للعالم صورةً أقل ما يقال عنها إنها غير مشرقة. فالاغتصاب أصبح سمة مميزة للمجتمعات الهندية مثلاً، ونساء أفريقيا حملن اللواء قبل النساء الهنديات، وتعدت مآسيهن التعرض للعنف والصدمة، وإنجاب أطفال غير مرغوب فيهم، إلى دفعهن لحياتهن ثمناً للأوبئة التي نشرتها القضبان المسعورة لرجال الحرب الهمجيين. كنت أنظر إلى شاشة الإيكو أنتظر ما ستقوله الدكتورة. كان ذلك في بدايات حملي الثاني. لم أكن أتحرق حماسةً وشوقاً كما كان الحال في حملي الأول، لكنني مع ذلك كنت أود الاطمئنان على الجنين. ومعرفة جنسه. الكثيرون من العائلتين كانوا يودون ذلك أيضاً. فأنا متزوجة من الذكر الأول لعائلته، وهو الذي كُنّي باسم أبيه منذ طفولته، على ما جرت العادة. كان مولودنا الأول أنثى، ولتزداد الأمور تعقيداً، فإن والده يأتي من عائلة تشتهر، بل تُفاخِر بتفضيلها الشديد للذكور. ووالدته بالتالي تزهو بأنها أم لأربعة ذكور، وبأنها "لم تفشخ يوماً على بنت"، كما دعت لها حماتها، كارهة الإناث، أول زواجها. ونطقت الدكتورة وشعرت بمرارة في حلقي وبرود في أطرافي. كانت ابتسامتي مصطنعة، وحال زوجي كذلك. أكثر ما أكرهه عندما أتذكر تلك اللحظات هو إحساسي بالخيانة. خيانتي لمبادئي، ولنفسي كأنثى، والأهم خيانتي لطفلتي الرائعة التي لم تولد بعد. كرهت نفسي وحقدت على مجتمعي، الذي على الرغم من كل نسويتي، تمكن من زرع بذرته العفنة عميقاً في دماغي لتقفز في وجهي في لحظة مميزة جداً كتلك. زففنا الخبر للعائلتين، وتقبله الجميع بفرحٍ مصطنع ولسان حالهم يقول: احملي مجدداً! ولم تنته المعركة هنا، إذ مع مرور الأيام تحول تأنيب الضمير من خيانتي تلك، إلى دفاع مستميت عن طفلتي التي لم تر النور بعد. كنت أود أن ألكم كل من أعطاني تلك الابتسامة الجانبية، مع النظرة المنكسرة القائلة "بسيطة". كأنني أخبرتهم للتو بأنني حامل بمسخ مشوه. رغبت بمحو تلك العبارات التافهة، المبطنة، التي ألقيت على مسامعي بكل فتور، والتي تشير إلى سوء حظي والحاجة إلى إنجاب ذكر. حتى أظنني أصبت بحالة من العنصرية المضادة، فكنت أتفوه بسلاسل من الجمل غير الضرورية وغير المترابطة في كثير من الأحيان فور إخباري لسامعي أنني حامل بفتاةٍ ثانية، وكأنني متهم بحاجة لأن يبرر ويحاجج ويدافع. وللعلم فإنه ليس مجتمعي فقط من يحب الذكور، فأتتني ردود الفعل نفسها من فلبينيين وأفارقة وبريطانيين وهنود. أتوقف هنا لأذكّر: يا أيها الناس، كلنا وُلدنا من نساء. أنجبت طفلتي، مولودة صغيرة بكامل الصحة والعافية. عندما زارنا الناس للمباركة بولادتها، وفي ختام كل زيارة، كانوا يرددون عبارات مثل "عقبال ما تفرحيلهون بأخ"، و"عقبال ما تزينيهون بصبي". وكأن ابنتيّ ناقصتان، لا تكتمل أبوتنا لهما من دون مولود ذكر ولا تستوي حياتهما من دون أخ. لم تنته القصة هنا ولا أظن بأنها ستنتهي يوماً، فالعيون تتسع حين أسأل فأجاوب بأننا اكتفينا ولن ننجب المزيد من الأطفال. "والصبي؟". يبدو السؤال بديهياً جداً بالنسبة إليهم وغبياً جداً بالنسبة إلي. ولأن الحياة ترمينا بالتحديات دائماً ولأن المعارك لا تنتهي فقد انتهى وقت الإنجاب وحان وقت التربية، ويا له من تحدٍ. لم تكن التربية يوماً مهمة سهلة، ولكن في هذه الأوقات فإن الصعوبة تزداد أضعافاً. فقد نبذت البشرية عصر العصا في التربية، وقدمت الأساليب الرائعة والأكثر نجاعة، للتربية الحديثة. لكن، ترافق ذلك مع ثورة في عالم الاتصالات والميديا. الكثير من الميديا. أكثر مما نستطيع استيعابه أو السيطرة على تدفقه. وفي حين كان من الصعب سابقاً نشر الفكر، أي فكر، بوسائل الاتصال التقليدية كالصحف والراديو والتلفاز، فإن الأفكار والتوجهات والتيارات اليوم، تنتشر مثل النار في الهشيم، بسرعةٍ يعجز فيها حتى أصحاب هذا الفكر أنفسهم عن استيعابها، ونعجز نحن كآباء عن ردها والتصدي لها. فهي كالماء يتسرب من كل الشقوق. خسر جيلنا إذاً القدرة على الردع الأبوي بالعصا، وعليه الآن أن يخوض معارك يومية ضارية مع تيارات الماء التي تتسرب إلى عقول أطفالنا، والتي علينا أن نواجهها باللطف والسياسة. المشكلة في هذه التيارات أن الغلبة فيها ليس للمنطقي أكثر أو الإنساني أكثر، بل لمن يملك أكثر ويتحكم بخيوط اللعبة، وللأسف فإن جميع من يتحكمون بخيوط اللعبة ليسوا من معسكري. فبعد أن حملت، أنا النسوية، مسؤولية تربية طفلتين وجدت نفسي، بعيداً عن السياسة، أعارك تيارين قويين، من ضمن تيارات عدة، يؤثران في تربيتي لأطفالي. تياران يحملهما المجتمع إلى عتبة بيتي وتنقلهما وسائل الاتصال إلى عقر داري، وهما المجتمع الذكوري والتنميط الجنسي للنساء في الميديا. فنحن نعيش في مجتمع نمطي ذكوري يكاد يكون عنصرياً ضد النساء، فارضاً عليهن الالتفاف بالقماش من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، تحاشياً لعنفه الجنسي الذكوري، وليته كان دواءً ناجعاً. ويفرض المجتمع نفسه أدواراً نمطية محددة لكل من نسائه ورجاله، ويجلد كل من يعمل على كسرها، في حين يرسم هرميته بشكل يضع الرجل على الرأس. وفي الوقت نفسه، وعلى الطرف الآخر من الطيف، يجري تسويق المرأة كجسد وسلعة، وهو أمر كارثي. وطالما بقي من يتحكمون بالميديا غير مقتنعين بكارثية هذا التوجه، فلا أرى نهاية له تلوح في الأفق. مهما حاولت فرض رقابة صارمة على استهلاك الميديا في منزلي، فإن الأطفال سيجدون طريقهم إليها، وإن لم يجدوها عندي فسيرونها في منازل الأصدقاء والأقارب. وسيشاهدون دعايات عربية يتم فيها تكريس ذكورية المجتمع ونمطيته، حين تمشي المرأة وراء زوجها وليس بجواره، أو حين تحتل النساء دعايات مساحيق التنظيف، ويحتل الرجال دعايات السيارات. كما سيشاهدون برامج الواقع التي لا تتحدث إلا عن التبرج والأزياء، وسيشاهدون الصدور البلاستيكية والشفاه المنفوخة، والبنات شبه العاريات المتراقصات. أتوقف هنا لأوضح الفرق الهائل بين العري nudity والجنسية sexuality. ففي حين لا أنتفض إن شاهدت طفلتاي جسداً عارياً، أو قبلة أو حتى ملاطفات في السرير، فأوضح لهما بأنها أفعال مصدرها الحب، فإنني أشتعل غضباً حين تطل علينا مؤخرة كبيرة لامعة، لا تغطيها إلا أشباه خيطان تتراقص باستفزاز، محتلة شاشة التلفاز بأكملها وتلبس صاحبتها وجه الإغواء. ماذا يمكنني أن أوضح هنا؟ وأي هراء يمكنه أن يبرر قيام تلك الفتيات بهذه الحركات؟ لا يتوقف التحدي التربوي على حماية ابنتي من التيارات الخبيثة وأفكارها ولا على زرع القيم والأخلاق والأفكار والتوجهات، بل التحدي، كل التحدي، هو في تحقيق الهدف بتربية طفلتين تكبران لتصبحا امرأتين واثقتين بنفسيهما وبمقدراتهما وملكاتهما. ليس كافياً بالنسبة إلي أن أربي طفلتين قادرتين على تحقيق حلم فحسب، بل أريدهما أن تجرؤآ على الحلم من دون أي قيود أو حدود. أريد أن أربيهما على عكس ما يحاول المجتمع إقناعهما به: بأن الزهري للبنات والأزرق للصبيان، وبأن الباليه للبنات والكاراتيه للصبيان، وبأن الشعر الطويل للبنات والقصير للصبيان، وبأن عرض الأزياء للبنات وتصليح السيارات للصبيان، وبأن الدموع للبنات والعضلات للصبيان، وبأن العار للبنات والجنس للصبيان. أريد أن أربيهما على عكس ما يقوله الجميع: بأنهما مجرد جسَد وبأنهما ليستا كافيتين من دون ذكَر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...