في جامعة أسوان، كان اللقاء الأول بين الحبيبين. هي نوبية جاءت لتدرس في الجامعة بعد إنهائها المرحلة الثانوية، على أن تقضي سنوات الدراسة الأربع تحت رقابة الأسرة اللصيقة من خلال إقامتها في بيت عمها. أما هو، فيعمل معيداً بالجامعة نفسها، وتعود جذوره إلى محافظة الشرقية (شمال شرقي القاهرة). أعجب بها من أول لقاء وذهب على الفور لمقابلة عمها وطلب يدها للزواج من دون أن يفاتحها أولاً.
تحكي ميادة سليم*، 20 عاماً: "فوجئت بدخول عمي إلى غرفتي وعلى وجهه علامات الغضب، وكأنني أذنبت. وبدون مقدمات قال إن رجلاً تحدث معه ويريد خطبتي، وإنه قال له دون أن يستمع لآخر الحديث: ‘إحنا نوبيين مابناخدش غير بعضينا. بنتنا ما تطلعش بره النوبة". على الرغم من أنها لم تتبادل أية أحاديث مع المعيد الشاب لا تنكر أنه كان في قلبها ميل إليه، لهذا سألت ميادة عمها عن سر الإصرار الشديد على الرفض من دون استشارتها، فرد أن "الجوربتي مش هيحافظ عليكي ولا هيخاف من العيبة زي النوبي". واتفق أبوها مع رأي العم، وانتهت قصة الحب قبل أن تبدأ.
"ولا بنتي ولا أعرفك، لو خرجتي عن عادتنا وتقاليدنا". هكذا قال لها والدها وأعمامها، قبل 40 عاماً، عندما تحدتهم وأصرت على الزواج من زميلها في العمل. وسبب الرفض هو أن الرجل "جوربتّي"
"ولا بنتي ولا أعرفك، لو خرجتي عن عادتنا وتقاليدنا". هكذا قال لها والدها وأعمامها، قبل 40 عاماً، عندما تحدتهم شيماء أحمد*، 65 عاماً، وأصرت على الزواج من زميلها في العمل. وسبب الرفض هو أن الرجل غير نوبي، إنه "جوربتّي".
جاءت عائلة شيماء مع العائلات التي أجبرت على النزوح من أراضي النوبة خلال مشروع بناء السد العالي، الذي غرقت معه المساحة الأكبر من قرى النوبة تحت مجرى النهر. وأقامت شيماء مع والدها وإخوتها في القاهرة، بعيداً عن المجتمع النوبي الذي تربي فيه الأب. لم تتصور العائلة أن يأتي يوم وتتزوج إحدى بناتها من جوربتي وتخالف العادات والتقاليد النوبية.
قضت السيدة سنوات في محاولة إقناع ذويها بالموافقة على زواجها من حبيبها، مع تعهداته المتكررة الالتزام بجميع التقاليد النوبية، إلا أن العائلة لم تلن، وظلت ترفض زواجهما. أما شيماء وحبيبها فظلا "مضربين" عن الزواج عدة سنوات، إلى أن رضخت عائلتها خوفاً من أن "يفوتها قطار الزواج". لكن الأعمام والجد صمموا على رفض زواج ابنتهم من غريب.
وتحكي لرصيف22: "لم يستطع والدي الخروج على قرارات الجد والأعمام، لأن هذا ثمنه مقاطعة العائلة. لذا كانت عائلتي الصغيرة في حيرة من أمرها، بين مستقبلي ونظرة العائلة الكبيرة. لكن أبي اختارني وبارك الزواج عام 1982، لكن عاقبة الأمر كانت كبيرة، فتعرضنا لقطيعة من قبل أفراد العائلة ولم يحضر أحد منهم الفرح. ولكن الزمن أذاب هذا الفارق، خاصة بعدما لمسوا سعادتي مع زوجي".
وتوضح السيدة النوبية أن التحفظ الشديد الذي تواجه به العائلات النوبية رغبة بناتها في الزواج من "جوربتّي"، تضاءل مع مرور الزمن، لكنه لم يختفِ، وصار هناك وعي أكبر بأن بين غير النوبيين رجالاً طيبين يحترمون زوجاتهم، وأن جذور عائلة الشخص هي عامل وحيد في تشكيل شخصيته. وتضيف: "قديماً كان الأمر معقداً لعدة أسباب، من بينها الحفاظ على النسل النوبي، وعدم تعرض الفتاة للتنمر من قبل الزوج وأهله في المستقبل، والحفاظ على الفتاة من خلال زوج نوبي يصونها ويحترم تقاليدنا وعاداتنا".
سألت الفتاة عمها عن سر الإصرار الشديد على الرفض من دون استشارتها، فرد أن "الجوربتي مش هيحافظ عليكي ولا هيخاف من العيبة زي النوبي"
صعب تقبل العادات
"اللي نعرفه أحسن من اللي مانعرفهوش"، يفسر الحاج عبده صالح، أحد كبار إحدى عائلات النوبة رفض العائلات تزويج الفتيات النوبيات من غير النوبي، لكنه يؤكد أن الأمر اليوم "اختلف عن العصور السابقة، لأن تقاليد الزواج مختلفة تماماً. على سبيل المثال، ليس للعروس النوبية مهر ولا قايمة. المهر قليل جداً، والقايمة لا توجد في الأساس. وعندما يحدث خلاف بين الزوجين لا قضايا ولا محاكم، الكبار في العائلة هم الذين يتحدثون في الجلسات العرفية، التي هي ضمان لحقوق البنت في النوبة".
وعن الجلسات العرفية، يقول الحاج صالح: "لدى وقوع مشكلة بين الزوج والزوجة، الرجل ملزم بالجلوس مع كبار العائلة من أهل العروس ورجلين من أهله. ثم يتم الاتفاق على ما يرضي الطرفين. ويحكم كبير الجالسين سناً ومقاماً على العريس أو الزوج بما يحل المشكلة بينه وبين عروسه، وعلى الرجل تنفيذ القرار من دون مماطلة. والمجلس مسؤول عن متابعة تنفيذه هذا القرار".
ويواصل: "الغرض هو الحفاظ على هويتنا. لهذا لا نزوّج بناتنا من شباب خارجنا ولا العكس".
وتوكد السيدة رجاء حسن، 50 عاماً، ما ذهب إليه الحاج صالح، وتقول لرصيف22: "الوضع لم يعد مثل زمان في موضوع عادات وتقاليد الزواج الخاصة بنا. ماضياً كانت التكاليف أقل لرغم أن المطلوب لم يتغير. كان الفرح يدوم سبع ليال، والبنت لا تتحمل أي شيء في تجهيز البيت. حقيبة ملابسها فقط. ولم يكن هناك طلاق مثل الآن. وتضيف: "كمان كان العريس بيجيب ذهب أكتر للعروسة، حالياً بسبب الظروف الاقتصادية وغلو الذهب هناك عائلات داخل النوبة تكتفي بالسلسة والدبلة والخاتم".
منال نادر*، 30 عاماً، عانت المشكلة نفسها. لم يصمد زميلها الراغب في الزواج منها كما صمد زوج شيماء. تحكي لرصيف22: "أهلي استخدموا مع العريس الجوربتي أسلوب التطفيش، وتمت بنجاح للأسف. كان زميلي في العمل، وجاء لمقابلة والدي. قال له إن عادتنا في النوبة أن العريس يجهز البيت من الألف للياء والعروسة تخرج بشنطة هدومها، كمان عندنا دهب بالكيلو جرامات والفرح عليك. كما عليه ما يسمي (الشيلة) وهي حقيبة مليئة بالملابس والعطور مهداه للعروس". وتعلق: "طبعاً هذه الطلبات صعبة جداً على شاب في بداية حياته، ولم يتنازل أهلي عن أي منها، فغادر الزميل العريس ولم يعد".
وتروي هدير صالح*، 40 عاماً، أن أهلها رفضوا شباباً كثراً تقدموا إلى خطبتها لأنهم غير نوبيين. ورغم نجاحها في عملها كمرشدة سياحية وتعدد أسفارها، لا تخفي عدم قدرتها على مواجهة قرارات الأسرة. تقول: "يأتي الكثيرون لخطبتي، ولكن للأسف يرفض الأهل لأن الرجل غير نوبي، حتى فقدت الأمل في الزواج بسبب الفكر القديم". وتتمنى أن "يتغير هذا الفكر حتى تتزوج البنت من ترضى به خلقاً وديناً".
---------
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون