بطول 350 كيلو متراً مربعاً جنوب مصر، تمتد النوبة من قرية دابود حتى قرية أدندان. في تلك البقعة المتفردة من مصر، يبقى التاريخ حاضراً وكأن السنوات لم تمر، أو أنها مرت وأبى أهل النوبة أن يتركوا تفاصيلها تهرب من بين أيديهم.
هنا في النوبة يتخذ كل شيء منحى مختلفاً؛ الفنون، الصناعات، البيوت، وحتى الحياة نفسها. فقد اتفق أهل المنطقة أن تكون البهجة عنوان حياتهم الأول والأخير.
يؤكد لنا الحاج إبراهيم عوض (63 عاماً) أن المصريين القدماء عرفوا تلك المنطقة باسم "نوب" أو "نوبو"، بمعنى الذهب، أي أنها "بلاد الذهب"، وكان السبب الرئيس وراء تلك التسمية أن القرى التي يقيم بها أهل النوبة تجاور مناجم الذهب.
وعن حكاية البيوت النوبية التي تبقى معجزة فطرية أدهشت دارسي علوم الهندسة، يروي إبراهيم التفاصيلَ، ويقول: "بيوتنا عنوان للبهجة كما يقال دوماً وكما يشاع عنها، والبيت النوبي أشبه بالمصنع، فكل ما نحتاجه نصنعه في بيوتنا يدوياً حتى لا نحتاج إلى الغير".
ويحكي لنا التفاصيل ويقول: "تبدأ مرحلة بناء البيت بمزج الطين مع عصب زرع القمح بعد أن نطحنه بشكل جيد، ثم يُترك هذا المزيج لنحو شهر كامل، وربما نزيد على ذلك خمسة أيام أو عشرة، وبعدها نصنع من المزيج القوالب، التي لابد وأن يتم رصّها بشكل معين خلال البناء، حتى لا تتأثر بمياه الأمطار في فصل الشتاء، وبعد الانتهاء من رصّ القوالب نضع بعضاً من جريد النخيل، ثم القبة".
"بيوتنا جميعها بألوان الأحمر والأصفر والبرتقالي والأخضر والأرزق، إشارة إلى السماء والنيل والرمال والأرض الخضراء، وقد اخترنا تلك الألوان تحديداً لأنها تبعث على البهجة والمحبة، وتمنحنا الطاقة الإيجابية"
يكمل: "البيت من الداخل به 4 فتحات؛ 2 منها في بداية الحجرة، و2 في نهايتها، لتجديد الهواء بشكل مستمر، وكذلك لابد من وجود القباب للتغلب على درجات الحرارة المرتفعة، فدرجات الحرارة تصل هنا إلى 8 درجات في المنازل المبنية بالقباب عن مثيلتها التي تم تدشينها بشكل تقليدي اعتماداً على سقف أفقي. وقد رفضنا دعوات البعض لهدم تلك البيوت المكونة جميعها من طابق واحد، والإقامة في بيوت مشيدة حديثاً. فنحن نتمسك بأصلنا، وبيوتنا على هذا الشكل حتى تحول دون انتشار الأمراض، كما أنها بهذه الطريقة التي نشيدها بها لا تتأثر بحرارة الصيف، وتحمينا من برودة الشتاء، دون التأثر بالأمطار، بسبب القباب، لأنها مجوفة من الداخل ومرتفعة، وتوزع درجة الحرارة وهو ما يجعلنا نستغني عن أجهزة التكييف".
وعن فن اختيار الألوان والرسومات المنتشرة على جدارن بيوت النوبة يكمل العم خيري عبدالله (51 سنة)، الحكاية ويقول: "بيوتنا جميعها بألوان الأحمر والأصفر والبرتقالي والأخضر والأرزق، إشارة إلى السماء والنيل والرمال والأرض الخضراء، وقد اخترنا تلك الألوان تحديداً لأنها تبعث على البهجة والمحبة، وتمنحنا الطاقة الإيجابية. كما تنتشر أيضاً على جدران البيت الخارجية كثير من الرسومات ومنها المثلثات كونها ترجع لأصل البشرية والتي خرجت من أبناء سيدنا نوح (سام، حام، يافث)، وهو الرمز الذي نعتبره أيقونة لأصل البشرية، ونحرص على وجوده على واجهات المنازل".
ويضيف: "نجد كذلك على الجدارن الخارجية رسومات للسيف الذي يرمز إلى الشجاعة والبطولة، والهلال إشارة إلى التفاؤل، والأزهار للمحبة، والبومة للتشاؤم، والإبريق للطهارة. هناك أيضاً مركب مرسوم على كل بيت نوبي، يشير إلى سريان النيل الذي نعتز به كونه منا ونحن منه، بينما غية الحمام إشارة إلى العمل والجدّ والسلام، والكفوف دليل على الحرَف اليدوية التي نتميز بها. وعلى جدران البيت النوبي أيضاً لابد وأن تجدوا بعض التفاصيل الخاصة بنا، مثل وضع حدوة حصان على الجدار الخارجي للبيت لجلب الحظ، ووضع حيوانات محنطة. ويعود ذلك للقصص التراثية التي كان يرويها أهل النوبة الأوائل لأطفالهم، وأساطير الشجاعة ومحاربة الحيوانات المفترسة، بينما يكتب بعض الأهالي على جدارن البيوت أبياتاً من الشعر وأغاني لكبار نجوم النوبة وفي مقدمتهم أحمد منيب، وعبارات أخرى ترحب بالقادمين الجدد، أو تبعث برسالة ما إلى الزوار أو أهل المكان".
وإن كانت مهمة بناء البيت حكراً على الرجال، فإن تشكيل وصياغة معالم البيت من الداخل تبقى فنوناً نسائية بامتياز. تقول فرحة (34 سنة): "أغلب النساء هنا بارعات في صناعة الأواني الفخارية، وهي من الأساسيات في المطبخ عندنا، فهن يجدن صناعتها في كل مراحلها باستثناء مرحلة واحدة فقط، وهي الحرق حيث يقوم بها الرجال. وساعدنا على التفوق في هذه الصناعة وجود الطين الصلصالي بكثرة من حولنا".
وعن تفاصيل ومراحل صناعة الأواني تكمل لنا فرحة: "نبدأ بتشكيل الجزء السفلي من الأواني، وحين تجف تأتي مرحلة التلوين وفيها نعتمد على أكاسيد الحديد الحمراء التي تنتشر في النوبة بكثرة، ونحن نعدها بأنفسنا حيث نطحن أكسيد الحديد ونذيبه بالماء، ثم ندهن به الأواني. ثم يتم تعريض الأواني لحرارة عالية في المرحلة الأخيرة. أما الأطباق والسلال الموجودة في البيوت والزخارف والحلي، إلى جانب الرسومات التراثية الموجودة علي الجدران والمشغولات اليدوية المختلفة فنحن نصعنها أيضاً بأنفسنا من سعف النخيل، بينما يتولى الرجال صناعة الحصير الذي يتم وضعه على الأرض بديلاً للسجاد، وكل منتجاتنا بشهادة الأجانب والمصريين الذين يشترون منا، تتسم بالجودة والدقة".
على الجدارن الخارجية رسومات للسيف الذي يرمز إلى الشجاعة والبطولة، والهلال إشارة إلى التفاؤل، والزهور للمحبة، والبومة للتشاؤم، والإبريق للطهارة
وتروي فرحة: "يزيَّن البيت النوبي أيضاً بالأطباق المستديرة التي نصنعها من الخوص ونلونها بألوان زاهية لنجمل بها حوائط المنزل، وكل سيدة تحرص على أن تشتري تلك الألوان من السوق بنفسها. وهناك أيضاً المكنسة اليدوية التي نصنعها عادة من ليف النخيل، والمراوح الصغيرة بألوان الأخضر والأحمر والأرزق والبرتقالي، والأعلام المنسوجة، والتي نستخدمها للزينة على الجدران، وفي أحيان أخرى تحلّ محل المروحة اليدوية لجلب الهواء. كما تبرع المرأة النوبية في صناعة الحلي، مثل (قصة الرحمن)، وهو مثلث يرتكز على مستطيل ينتهي بحلقة مستديرة مفرغة، و(الرسن)، وهي سلسلة تتدلى منها 12 حبة من وحدات دائرية صغيرة، و(البييه)، وهي قلادة تلف حول العنق وتتدلى على الصدر، مكونة من 6 قطع، و(الجاكد)، وهي قلادة مكونة من 6 أقراص دون نقوش".
حول البعض من أبناء النوبة بيوتهم إلى دور ضيافة لاستقبال السيّاح الذين يحضرون إلى المكانة للاستمتاع بتلك الأجواء الفريدة، وزيارة المعابد المنتشرة بالمكان. تبدأ جولة السيّاح في المكان كما تخبرنا الست سيدة (49 عاماً)، بوصول السائح/ة على (ظهر الجمل) إلى بيت الضيافة، لتكون في استقبالهم مجموعة من النساء والأطفال، يرحبون بهم على طريقتهم الخاصة من خلال الأغاني والرقصات الفلكورية. بعدها يشربون الشاي والكركدية لأنها المشروبات المميزة في النوبة، ويبدأون في رسم الحناء على الكفوف.
بعد ذلك يأخذ السياحُ بالتجول في المعابد والبازارات لشراء كل ما يلزمهم، فيما يحرص البعض منهم على شراء بعض المشروبات والعطارة من غرب سهيل، وبعد العصر يعودون إلى البيت لتناول الطعام التي تعده سيدة وبناتها، وغالباً ما يكون من اللحوم والدجاج وبعض الخضروات التي يتمّ طهوها على الطريقة النوبية، فيما يستمتع الزوار بعدها بمشاهدة التماسيح النيلية الصغيرة التي تكون موضوعة في قفص حديدي، ويلتقط الزوار الصور التذكارية معها، وبعدها تبدأ الفقرة الفنية والتي تكون عبارة عن رقصات يقدمها الشباب، ومن بينهم عامر (23 عاماً)، الذي روى لنا تفاصيل تلك الفقرات وقال: "بلدنا من أكثر المناطق التي تهتم بالحرَف والفنون الشعبية، وقد شكلنا فريقاً من الراقصين يقدم الفقرات الاستعراضية لكلّ ضيوفنا ضمن برنامج نحدده سلفنا، يتضمن الرقصات الفلكورية إلى جانب الأغانى التي عُرفت بها النوبة والتي نقدمها منذ سنوات، وتحظى دوماً برضا وإعجاب الزوار، خصوصاً الأجانب".
يكمل: "لدينا في النوبة رقصات خاصة بطقوس الميلاد والزواج ومواسم الحصاد، ومن أشهر الرقصات التي تُعرف بها النوبة تلك الرقصة التي ينقسم فيها الراقصون إلى قمسين على يمين ويسار نارٍ مشتعلة، بحيث يكون الرجال في جانب معهم ما يشبه الحراب، بينما في الجانب المقابل نجد النساء يشاركن في الرقص بالدفوف، وهناك (رقصة الكف)، وتتم في دائرة نصفها من الرجال، بينما النصف الآخر من النساء، وفي منتصف الدائرة يقف المغنون، حيث يصفق الرجال ويضربون الأرض بأرجلهم بإيقاع منتظم بينما تنزل النساء إلى منتصف الحلقة في ثنائيات ليتمايلن بإيماءات بسيطة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...