شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
التحليل النفسي والإسلام... عيادةُ للنفس الأمّارة بالسوء

التحليل النفسي والإسلام... عيادةُ للنفس الأمّارة بالسوء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 16 نوفمبر 202201:33 م

يُتَّهم التحليل النفسي بأنه "علم يهودي" بسب مؤسسه سيغمود فرويد (1856-1939). ولا يقتصر الاتهام على النازيين الذين أحرقوا كتب صاحب "ما وراء مبدأ اللذة"، بل يمتد إلى قراءة تُراث فرويد ومرجعياته بوصفها محاولةً لخلق "برولتياريا يهوديّة". لن نخوض في تفسيرات المصطلح، لكن المعروف أن الدين من وجهة نظر صاحب "موسى والتوحيد"، ليس إلا شكلاً من أشكال العصاب أو الهذيان.

حاول فرويد تجنب إلصاق تهمة اليهوديّة بالتحليل النفسي، لجعله أكثرَ قرباً من السّياق التاريخي الذي ظهر فيه بدايةَ القرن العشرين. وإلى حدّ سعي فرويد نفسه، لتعيين كارل غوستاف يونغ (1875-1961)، ابن القسيس المسيحي، كأول رئيس لجمعية التحليل النفسي العالميّة عام 1910.

 الاتهامات السابقة لا تُؤخذ على محمل الجدّ، لكن لا ينفي ذلك تساؤلاتٍ حول التاريخ الثقافي للتحليل النفسي كنموذج لبناء الفرد، وعلاقته مع النماذج الأخرى، كالإسلام مثلاً، بوصفهما شبكةً من العلاقات والنماذج المتعددة التي تشكل وعيَ الفرد بذاته وعلاقته مع العالم ووجوده ضمنه.

نقرأ العلاقة بين التحليل النفسي و"الإسلام" في كتاب "التحليل النفسي الإسلامي والإسلام كتحليل نفسي-حوارات ثقافية وكلينيكيّة" الصادر عن دار روتليدج عام 2019. الكتاب نتيجة "المؤتمر الدولي للإسلام والتحليل النفسي" الذي نظمته جامعةُ التحليل النفسي في المملكة المتحدة. حاول المشاركون فيه قراءة تاريخ التحليل النفسي وأدواته بوصفها نماذجَ لبناء الفرد/الموضوع، وكيفية دخولها العالمَ الإسلامي، ومقارنتها مع نماذج "الإسلام" المختلفة، بوصفه أيضاً خطاباً يوفر أدواتٍ لتكوين الفرد.

هناك افتراض أن النفس الأمارة بالسوء تتشابه مع اللاوعي الفرويدي، لكن في أي عيادة يمكن لهذه النفس أن تطلق العنان لما يجول داخلها؟

المحرك الرئيسي لهذه القراءة الثقافية أو العابرة للثقافة، هو الحكم المسبق أو الفرضية التي ترى أن الإسلام لا يمكن أن يتوافق مع التحليل النفسي، أي بصورة ما، المسلم الملتزم إشكاليّ أمام المحلل الذي لن تنفع أدواته لـ"قراءة" و "تحليل" الأنا المؤمنة. ذات الأمر ينطبق على المُحلل المسلم الذي يعتبر "إيمانه" إشكالياً أمام موضوعه.

إشكالية التوحيد... الفرد مواطن مُطيع أم عبد صالح؟

لا ينظر الكتاب إلى الإسلام بوصفه كتلةً واحدة متماسكة، ولا إلى المسلمين كموضوعات متطابقة، بل يعتبر الإسلام بتنويعاته كنموذج لبناء الأنا وتقسيم مكوناتها والعلاقات بينها، ذات الرؤية تنطبق على التحليل النفسي بوصفه إطاراً للتقسيم وبناء الذات وضبط ما تحتويه.

الإشكالية بين النموذجين أن الإسلام، كدين توحيديّ، قائم على خضوع الفرد الله، ما يختلف جذرياً عن نموذج الفردانيّة الذي يراهن عليها التحليل النفسي. ناهيك أن مفهوم المراقبة الكليّة التي يمارسها لله على الفرد، قد لا يتوافق مع مفاهيم الدّور الاجتماعي المرتبط بالفردانية وكيفية بناء الذات دون الشعور بالذنب.

نقرأ مثلاً أن الإسلام يراهن على "الآن" وعلى "المستقبل" بوصفهما مساحاتٍ لأجل تكوين الذات وصَونها من الغواية، في حين أن التحليل النفسي، لا بدّ أن يعود في النهاية إلى الماضي. المنطق الاختزالي السابق لا يكفي للمقارنة بين النموذجين، وهنا تكمن الإشكالية، فشرعية النموذج الدينيّ تنبع من مصدر رباني، علويّ، الفرد فيه أدنى من خالقه. في حين أن نموذج الفرد في التحليل النفسي، إنساني، متفاوت؛ ما هو مجهول داخل الذات لا يحال إلى "الرّوح"، بل إلى نماذج غرائزية متعددة، قد تهدّد فرادة الإنسان نفسه، بعكس النموذج الإسلامي، حيث كل شيء ينبع من إرادة لا نستطيع معرفةَ جدواها.

لا نحاول في ما سبق أن ننتقد التوحيد أو الفردانية أو نفاضل بينهما كنماذج للوصول إلى التوازن، إن صح التعبير، بل الإشارة إلى الاختلاف الأبسيتمي بين الاثنين. فإن كانت العيادة مساحة الكلام ومقابلة الآخر في سبيل "سرد الذات"، فإن النموذج الإسلامي يحوي التوبة والصبر ومغالبة النفس، الأفعال الفرديّة البحتة، التي تقوم على المواجهة مع ذاك الكُليّ، العارف في بواطن النفوس.

بعض التعميمات ترى صعوبةَ تقارب نموذج الفرد الذي يفترضه التحليل النفسي مع ذاك الذي يقدمه الدين الإسلامي، ما يخلق إشكالية حول فائدة التحليل النفسي للفرد المؤمن

يشير الكتاب إلى بدايات توظيف التحليل النفسي في قراءة "الأنا" في المنطقة العربية، مستذكراً جورج طرابيشي، الذي وصف هزيمة حزيران بـ"الجرح النرجسي للأنا العربيّة". ترافق ذلك مع سقوط فكرة العروبة لتحلَّ مكانَها الوطنياتُ، وانهيارُ صورة القائد الأوحد، مخلص الجميع، المُتمثلة بعبد الناصر، وما سببته من ارتكاسات، لكن الجرح (وهنا رأينا)، لم يكن بالعمق الكافي لإعادة النظر في الذات في ظلّ حاكمية الله.

إن كانت لحظة "اكتشاف" اللاوعي مع فرويد مطلعَ العشرين ترافقت مع نيتشة وماركس وداروين، لتكوين الأنا الأوروبية، وخلق نموذج التحليل النفسي والعيادة كأداةٍ لإعادة رسم الأنا، اللحظة العربية إن سلمنا أنها لحظة الهزيمة، لم تنهر معها صورة "الأب" المتمثل بالله، أي لم تتعرض الثقافة الإسلامية إلى ذات القتل (لا نتبنى نموذج فرويد، بل نشير إلى مصطلحاته)، بل ظهر آباء جدد، على سبيل المثال لا الحصر: حافظ الأسد، حسني مبارك، آية الله الخميني، ما رسخ نموذج العبد الصالح/المواطن المطيع، واختفت مساحة التعبير عن الأنا دون قيود. ولا بد أن نشير إلى أن تبني قراءة طرابيشي قد يوصلنا إلى مغالطات ونتائج نظرية لا تصلح لقراءة الأنا، بل الظاهرة الثقافية.

أزمة النموذج... كيف تولد الأنا؟

إشكالية ثانية تطرح بخصوص الإسلام والتحليل النفسي تتعلق بالنماذج، أي الأُطر والرموز الثقافية التي يتمّ استخدامها للتفسير والتأويل. في القسم السابق استخدمنا مجاز نموذج الأب/الإله المستوحى من الفرويدية، ونموذج اللاوعي الجماعي المستمدّ من يونغ. وهنا تظهر الإشكالية، نعلم أن قتل أوديب لوالده لايوس يمثل لحظة تأسيس الأنا، النموذج الذي يتهمه جيل دولوز بـ"الظلم"، والذي تعرض للكثير من الانتقادات، بل استبدل لاحقاً بنماذج أبعد عن الأدب وأقرب للممارسات اليوميّة، لكن يبقى هناك نموذج، خريطة داخلية للفرد تضبط دوره ورغباته.

النماذج في السياق الإسلامي مختلفة، إذ استمدت مثلاً المحللة النفسية السورية رفاه ناشد من تاريخ الصوفية لمحاكاة مبدأ اللذة اللاكاني كمرجعية أو كأسلوب لبناء الأنا، لكن أليس خيار الصوفيّة هو الأشدّ أماناً  والأقل إثارة للجدل؟

 نقرأ  في الكتاب مثلاً أن التحليل النفسي في التجربة الإيرانيّة في ظل دولة شيعية مُسلمة يستمد من قصة الحسين نماذج لقراءة "الذات الإيرانية"، ونماذج من الأساطير الأقدم كقورش وداريوس، لكن في حالة الإسلام السنّي هناك تجنب لوضع نموذج؛ لمَ لا يُستمد النبي محمد ووالده عبد الله كنموذج قائم على اليتم؟ فالطفل فقد والده، وتعرض لعدة صدمات (ملاكان شقا صدره، خسر أسرته، انعزل في الكهف، ترك مدينته، إلخ). لا نمتلك إجابة، فالسؤال هنا شديد النظرية وتطبيقاته قد تفتح إشكالية حول السيرة النبوية نفسها.

أوجاع الرّوح... الوضوء أم التوبة؟

قدم التحليل النفسي العديد من الأساليب لتقسيم الذات والصراع بين مكوناتها (الوعي-اللا وعي-الأنا الأعلى أو الحقيقي-النظام المتخيل–النظام الرمزي) وغيرها من الخرائط الداخلية للأنا. إحدى المحاولات لتقديم نموذج بديل قامت بها الباحثة كيارا سباستياني، مستفيدة من تقسيمات الروح لدى ابن قيم الجوزية (1292-1350م)، تلميذ ابن تيمية (1263-1328م).

 ترى الباحثة أن مفهوم "القلب" في الإسلام، يشابه مفهوم الـ"Psyche" الفرويدي، وبناء على كتاب "الروح" لابن الجوزية نرى أنفسنا أمام خريطة للأنا مقسمة على الشكل التالي: "الروح، النفس، العقل"، حيث النفس والعقل "هي قدرات الإنسان المنطقية والواعية التي تتحكم بها الإرادة"، أما الروح، فتخضع لأمر الله وحده كونه يعرف بواطنَها، أي ما يمكن نعته باللاوعي.

الإشكالية الأولى في هذه التقسيمات توجد في أننا كيف نقرأ التراث؛ فهل نموذج الروح ضمن الحديث والقرآن، يُقرأ كتحدّ من اليهود لمحمد؟ أو كنصٍّ مقدّس نقتبس منه دون تهديده؟ لا إجابة. لكن تستطرد الكاتبة وتشير إلى الأنفُس الثلاث "الأمارة، اللوامة، المطمئنة"، ودور العقل الذي يتدخل ليحدّ الصراع بينها.

 ترى الباحثة أن مفهوم "القلب" في الإسلام، يشابه مفهوم الـ"Psyche" الفرويدي، وبناء على كتاب "الروح" لابن الجوزية نرى أنفسنا أمام خريطة للأنا مقسمة على الشكل التالي: "الروح، النفس، العقل"، حيث النفس والعقل "هي قدرات الإنسان المنطقية والواعية التي تتحكم بها الإرادة"، أما الروح، فتخضع لأمر الله وحده كونه يعرف بواطنَها، أي ما يمكن نعته باللاوعي

الملفت ضمن التقسيم السابق هو تحول الأدبيات الإسلاميّة لا النصوص العقائديّة، إلى مرجع لرسم خريطة النفس، ولا إشكال في ذلك، لكن إن تبنينا هذه المقاربة، يظهر سؤال الذنب، أو بصورة أخرى، كيف يمكن تفادي الذنب الذي توحي به النفسُ الأمّارة بالسوء/اللاوعي؟

الإجابة عن الذنب في حالة التحليل النفسي تتمّ عبر نطقه وسرده أمام آخر، بشريّ، لا يدّعي الكمال، ثم إعادة بنائه لتجاوزه أو عدم تجاوزه. في النموذج الإسلامي، الحلّ إما الوضوء، أو التوبة (العودة إلى الأصل لغةً)، بوصفها وسيلة لإعادة التوازن وهيمنة النفس المطمئنّة.

نعلم أن ما ينتج عن النفس الأمّارة بالسوء واللاوعي يقع عاتقه على الفرد، أي هو المسؤول، لكن الإشكاليّ أن التوبة فعل ذاتي، لا علاقة فيه مع الآخر، اليقين بحقيقتها تابع للشخص نفسه. يتشابه الأمر مع الخضوع، أو تأنيب الذات، أو عض جذع الشجرة إلى حين يأتي اليقين. لكن نموذج التحليل النفسي واللاوعي قابل للانفتاح أكثر كونه لا يحوي محرّماتٍ، في حين أن نموذج التوبة والنفس الأمّارة بالسوء، محدود، ولا بد من طرح  ثنائية الحرام والحلال، ما يشكك ببنيان الأنا المؤمنة نفسه.

العيادة... لا من يسمع ولا من يبصر

لا نحاول أن نفاضل بين النموذج الإسلامي ونموذج التحليل النفسي، لكن هناك فجوات لم يجب عنها الكتاب؛ مثلاً، العلاقة بين المُحلل النفسي و"موضوعه" تفترض الحياد، لكن يذكر الكتاب حادثةً عن محللة مسلمة في الهند وجدت نفسها أمام شخص هندوسي يكره المسلمين والمسلمات خصوصاً، وتصف كشفها لهويتها بالإشكاليّ، وتشير محللة أخرى أن حجابها هدّد مصداقية مريضها، وحولها إلى موضوعٍ لخطابِ كراهية من يخضع للتحليل.

ما نحاول قوله هو أن العيادة مساحة خصوصيّة، سريّة، ينتقل فيها اللاوعي إلى الوعي إن أردنا استخدام أبسط الكلمات، وفي الحالة الإسلاميّة محاولة إنتاج نموذج مشابه شأن شائك؛ فالنماذج النابعة من الثقافة الإسلاميّة، تلك التي تحوي شخصين، متحدثاً ومستمعاً، لا تفترض السرّية بالضرورة، وإن افترضتْها فهي تحوي حكماً (كحالة القاضي)، أو توبةً وذنباً (كحالة الفقيه أو الشيخ)، ناهيك أنه في حال توافق المنطلق الإيماني بين المُحلل وموضوعه، إن ذهب أولئك الذين أمرتهم نفسهم بالسوء، لحلّ هذه "المشكلة"، هل يمكن التحرر من الذنب القائم أمام السميع العليم؟ وهل يكفي الوضوء والتوبة؟ وما موقف المحلل هنا كمسلم ملتزم؟

نموذج المحلل النفسي و"المريض" ضمن الثقافة الإسلاميّة غير موجود إن أردنا المبالغة؛ هناك نموذج الشيخ والمريد، النبي والصحابي، الولي والتابع، وغيرها مما تفترض حكماً، بين صحيح وخاطئ، أي بين ما هو شرعي وما هو غير شرعي. أي أن هناك شكلاً ثابتاً للمؤمن إن تاه عنه، يستفتي، ثم يتوب. دون الغوص عميقاً في الدوافع والرغبات، الإشكالية هنا أننا أمام أحكام فقهية، أي أن اعتراف المريض أمام المحلل المسلم بارتكاب جريمة ما، ألا يُذنب المحلل إن لم يخبر عنه بوصفه مسلماً؟

لا يمكن تلخيص وحصر كلّ الاختلافات والصراعات، خصوصاً أننا نفترض ثبات المؤمن على دينه، مُحللاً كان أم موضوعاً للتحليل، بمعنى أننا نقع في فخ يفترض وجودَ نموذجٍ راسخ ومحدد، يتمثل بالمؤمن، والإيمان بوصفه شديد الفردانيّة، لا ينتمي إلى نظام النفس التي تختبر الحياة، بل الروح في علاقتها مع الكُلي والعلوي، وهذا ما لا يدخل ضمن ما سبق.

هامش:

استثنينا كلَّ انتقادات جوزيف مسعد للتحليل النفسي، والتي يمكن تلخيصها بما مفاده أن التحليل النفسي ليس إلا أداة غربية للاستعمار الجديد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard