شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لا قيمة لكل جلسات الطب النفسي إن لم تتغير ظروف بلادنا

لا قيمة لكل جلسات الطب النفسي إن لم تتغير ظروف بلادنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 27 مايو 202201:30 م

تنفرط الصداقات والعلاقات الأسرية كما تنفرط حبات المسبحة ،خاصة في الدول العربية التي ثارت فيها الشعوب ضد الاستبداد والظلم، وللأسف، انحرفت هذه الثورات عن أهدافها، سُرقت وتشيطنت وتأسلمت ولبست ثوب الإرهاب. ولأننا في عالمنا العربي لم نعرف الديمقراطية واحترام رأي الآخر المختلف ومناقشته، فإن كل خلاف في الرأي بين صديقين أو زوجين يؤدي للقطيعة، وكل يخوّن الآخر، لأن كل طرف يؤمن أنه يمتلك الحقيقة والآخر على ضلال.

"عايشين من قلة الموت"

لكن ما أريد التحدث عنه مؤلم ومُخزٍ، فبعد أكثر من عشر سنوات على بداية ثورات الربيع العربي، وصل جميع المواطنين، سواء كانوا موالين أو مُعارضين لنظام الحكم إلى حالة مزرية من التعب والاكتئاب وفقد الأحبة وهجرة الأبناء والفقر ، أي أن الكل خاسر. مات الكثير من الشبان، في المعتقلات والحروب والتفجيرات، في البحر وفي طرق الهروب، وبعضهم انتحر.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الوضع الكارثي، حيث الكل أشبه بقنبلة موقوتة تكاد تنفجر من تراكم الضغوط وتزايد بؤس العيش وانعدام شبه تام للأمل، حيث معظم المواطنين يقولون "عايشين من قلة الموت". تُرى ألا يُفترض بهؤلاء المنهكين من التعب واليأس والاكتئاب أن يؤازروا بعضهم وأن يواسوا بعضهم، فالمصاب واحد و"التعتير" واحد، وموت الأبناء واعتقالهم في معظم الأسر واحد. الانهيار الاقتصادي الذي أدى لسقوط الطبقة الوسطى بكاملها إلى مرتبة الفقر وصارت الشعوب شعوب طوابير الخبز والبنزين، ألا يفترض بهؤلاء الذين تجمعهم المصائب أن يتقاربوا ويواسوا بعضهم بعضاً؟

للوهلة الأولى نقول: أجل هذا هو المفروض، كما في التعازي حيث يواسي الناس أهل المتوفي. لكن ما يحصل هو العكس تماماً، إذ إن معظم المواطنين ينكفؤون كل منهم داخل شرنقة وحدته، غارقاً في اكتئاب ومرارة في الروح وقهر وفقر، يصبح ارتياد الأصدقاء المقاهي مُكلفاً ولا طاقة لهم عليه. أصبح سعر فنجان القهوة في مقاهٍ متوسطة وشعبية في سوريا مثلاً، من 2500 إلى 3000 ليرة سورية، وتقلصت المعايدات والمباركات في المناسبات السعيدة، لأن الكل لم يعد لديه القدرة على شراء هدية، فالنشاط الاجتماعي الوحيد هو التعازي، عبارة "الله يرحمه ويجعل مثواه الجنة" تفوقت على "صباح الخير" أو "مرحباً".

ماذا سيقدم الطبيب النفسي لأم أو أب مات ابنهم؟ ماذا سيقدم لأم أو أب يقضي يومه في انتظار ربطة الخبز، ليتفرج على أطفاله يبكون من الجوع، ولا يتحمل نظرات الحرمان في عيونهم، ويسمع قرقرة أمعائهم من الجوع؟ ماذا سيقدم الطب النفسي لموظف راتبه لا يساوي أي شيء؟

في الطب النفسي تُفسر هذه الظاهرة، أي هروب المكتئب وقطع علاقاته مع الأصدقاء الذين يعانون نفس معاناته، بأنه يرى في الآخر صورته أو مرآته، أي يصبح هذا الصديق كأنه ينكأ جروحاً وآلاماً لدى صديقه، أي أن الصديق يؤكد لصديقه أي بؤس وذل يعيشهما، فيهرب من هذا التأكيد ، يهرب من وجه كان ملاذه وفرحه وأمانه حين كان كل مواطن يشعر بكرامته، ولو كانت منقوصة. يتنكر لسنوات من الصداقة والمحبة والمؤازرة ومتعة المشاركة، ويهرب من الصديق الذي هو بدوره فقد الفرح والأمان وتمرمر بذل العيش، حين يُصبح الإنسان هيكلاً لليأس وانعدام الأمل. معظم الأسر فقدت ابناً أو اثنين، وأحياناً ثلاثة أبناء. الآباء انكسروا ولم يخجلوا من البكاء، والأمهات ماتت أرواحهن من الحزن. كيف يمكن لإنسان أذله العيش والقهر واليأس أن يعطي بارقة أمل لآخر، روحه وظروفه طبق الأصل عنه.

إحدى الصديقات بكت وهي تحكي لي أن أغلى صديقة لديها ما عادت تُطيق أن تسمعها، كلما حاولت أن تحكي لها وجعاً أو أي حديث تتأفف صديقتها وتقول لها بنفاذ صبر: "هاتي الحديث من الآخر"، أي "اختصري قدر الإمكان حديثك، والأفضل ألا تحكي". صار الكلام يجرح حتى لو كان شكوى من البرد أو قطع الكهرباء أو الغلاء، الاحتياطي من الصبر نفد من الأرواح. أصبحت الروح بئراً جافة، عبارة "هاتي الحديث من آخره" أكثر ما تُعبر عن القهر والاكتئاب الذين استحوذا على الشخص، فما عاد قادراً على سماع أي شيء مُزعج.

البعض فقد قدرته على الضحك، وكل البرامج التي تدعو المكتئبين والمصابين بانهيار عصبي أو على وشك الإصابة به، كل تلك البرامج التي يُروّجون لها في الإعلام من دعم نفسي والاتصال برقم هاتف إسعافي ليفضفض المواطن الكئيب أحزانه، بل إن بعض البرامج تؤكد أنها تقي الناس من الانهيار أو الانتحار. وقد تابعت من خلال صداقتي مع العديد من الأطباء النفسانيين في سوريا، حالات لأشخاص كانوا يتمتعون بشخصية قوية لكنهم انكسروا، لأن لا أحد جبار، فالظروف المعيشية والقهر بتنوعاته تجعل أقوياء الشخصية ينكسرون. ماذا سيقدم الطبيب النفسي لأم أو أب مات ابنهم؟ ماذا سيقدم لأم أو أب يقضي يومه في انتظار ربطة الخبز، ليتفرج على أطفاله يبكون من الجوع، ولا يتحمل نظرات الحرمان في عيونهم، ويسمع قرقرة أمعائهم من الجوع؟ ماذا سيقدم الطب النفسي لموظف راتبه لا يساوي أي شيء؟

لا قيمة لكل جلسات الطب النفسي إن لم تتغير الظروف، ويصبح العيش كريماً والمواطن يشعر بكرامته ويؤمن حاجيات أولاده. كل الأطباء النفسانيين الأصدقاء قالوا لي: لا نملك شيئاً تجاه هذه الظروف وحشية القسوة سوى أن نعطي دواء مضاداً للاكتئاب تكون له آثار جانبية سيئة غالباً

اكتئاب لا تنفع معه الأدوية

لا قيمة لكل جلسات الطب النفسي إن لم تتغير الظروف، ويصبح العيش كريماً والمواطن يشعر بكرامته ويؤمن حاجيات أولاده. كل الأطباء النفسانيين الأصدقاء قالوا لي: لا نملك شيئاً تجاه هذه الظروف وحشية القسوة سوى أن نعطي دواء مضاداً للاكتئاب تكون له آثار جانبية سيئة غالباً، ومعظم الأدوية المضادة للاكتئاب رديئة باعتراف الأطباء النفسانيين في سوريا واعتراف الصيادلة، وهي غير متوفرة إلا بكميات قليلة، وأحياناً تنقطع لشهور، كنت شاهدة على حالات لأشخاص يشعرون بالنصر وأنهم حققوا إنجازاً إذا استطاعوا تأمين دواء منوم أو ليكزوتان أو دواء مضاد للاكتئاب، هذه الأدوية تساعد على زيادة هرمون السيروتونين في الدماغ، ويُسمى هورمون السعادة، ويؤدي نقصانه الشديد إلى الاكتئاب.

أيّ مضاد للاكتئاب يستطيع رفع مستوى هرمون السعادة في جهنم التي نعيش فيها وتعيش فينا؟

لكن في حال مأساة شعب، كما في سوريا ولبنان واليمن والعراق وغيرها حيث أغلب المواطنين بحالة لا تطاق من القهر والخسارة وفقدان الأمل ونفاذ احتياطي الصبر من نفوسهم، ماذا سيفعل هرمون السيروتونين؟ هو، برأيي، لا يحسن حالة المكتئب، لأن الظروف المعيشية مُروعة، باعتراف بعض الحكام أن الشعب يعيش في جهنم، أي وهم أن دواء سيئاً مضاداً للاكتئاب سوف يرفع مستوى هرمون السعادة في جهنم؟ إن لم تتغير الظروف وتزول أسباب الظلم والفقر وكبت الحريات سيبقى أغلب المواطنين ضحايا اكتئاب حاد، وسيصبح الصديق مرآة القهر والتعتير حين ينظر في وجه صديقه، فينطوي على أحزانه وقهره ويلازم بيته. خسارة كبيرة انهيار العلاقات الإنسانية، انهيار صداقات كانت متينة ومُبهجة وداعمة.

الإنسان السعيد قوي ويخشاه الديكتاتور، كل الديكتوريات تخشى من الإنسان السعيد، لأنه يملك الأمل والقوة والعزم لبناء وطن الحرية والكرامة، أما الإنسان الكئيب الذي يتساوى الموت عنده مع الحياة، وتصبح أيامه وسنوات حياته أشبه بأسطورة سيزيف، كل يوم عليه أن يحمل صخرة ثقيلة من القهر ليكمل يومه، يوم ككل يوم وشهر ككل شهر وسنة ككل سنة، من تزايد القهر والذل وقمع الحريات والاعتقالات، أكثر من عشر سنوات جهنمية مرت على ثورات الربيع العربي، جففت نبع الأمل لدى المواطنين. لكن دوماً ثمة أقوياء يخلقون الأمل من قاع اليأس، يحبون شعبهم ومستعدون للموت في سبيل الحرية والعيش الكريم. هؤلاء نأمل أن يكونوا نواة التغيير، هؤلاء القادة الذين يحتاجهم الشعب المقهور. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard