الاعتياد قاتل. اعتياد أخبار الفظائع يقبرها، ولو كانت عن مقابر جماعية. الضحايا أرقام، ما لم تكن لهم أسماء وأهل ودولة. وما أكثر الأرقام في مسلسلات الكوارث، ضحايا حوادث الطرق، والتعذيب، والقتل خارج القانون، وجرائم الحرب المصنفة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وتُستأنس باعتياد احترافي يفرّغ الكلام من طاقته التعبيرية. إذا كنت كنزاً استراتيجياً للعدوّ فلا ثمن لضحاياك. إسرائيل وصفت حسني مبارك بأنه كنزها، والباقي بالرضا الإسرائيلي تجاهَل إعلان عسكريين إسرائيليين متقاعدين عن قتل العشرات من الأسرى في سيناء، عام 1956. أمِنوا رد الفعل "القانوني" والمحاسبة، فانفتحت شهيتهم. يضحك قاتلان شاركا في مذبحة الطنطورة، في أيار/مايو 1948. حصدا مدنيين لا أسرى.
كم من فلسطينيين وعرب نُسي ذكرُهم؟
أنا رجل ضعيف الذاكرة. أتأثر مثل غيري بطوفان من جرائم ينسي بعضها بعضاً. أنسَتني جرائمُ الأمريكان في أفغانستان والعراق تفاصيلَ فيتنام، وبقيت تاريخاً أو أفلاماً. كم من فلسطينيين وعرب نُسي ذكرُهم. فاتَهم نصيبُ أصاب محمد الدرة عام 2000، أنقذته مصادفة المصور الفرنسي شارل إندرلان، فصار للضحية اسمٌ وأهل. انتبه متابعو صورة القتل إلى أن الصبيَّ الشهيد ليس رقماً. هم لا يعرفون الأسماء المتراصة في قوائم السجلات المفتوحة تنتظر المزيد. صار محمد الدرة عنوانَ إدانة لجيش عدوٍّ يتساوى عنده الكبار والصغار، المسلحون والمدنيون. انتقل محمد الدرة من الضيق الفلسطيني إلى فضاء الضمير العالمي، واستقرّ في الذاكرة الشعبية العربية رمزاً يدين الاحتلال.
سيأتي خبر مقبرة أخرى أو كارثة محلية، فننسى السابقة، وننشغل مؤقتاً بالكارثة الطازجة، ثم تطوى طي السجل
في 9 شباط/فبراير 2002 كتبتُ في صحيفة "العربي" مقالاً عنوانه "عن زمن بلا خيال... حين تصبح المقبرة باتساع الوطن". لم أتخيل أن أشهد زمناً آخر حظُّه من الخيال أكثر فقراً، وتتسع المقبرة، حقيقةً لا مجازاً، ولا تؤنسها شجيرة صبار، وتخلو الطرق إليها من الظلّ، وتتواصل مذابح حدائق وأشجار تشوّش الرؤية على كاميرات المراقبة. انتقام من الجمال، ورغبة في التصحير. ثور هائج يثيره اللون الأخضر فيبيده. أعداء الخيال يستبدلون بالأخصر حصائر أسفلتية تقتحم الشرفاتِ بتماسّها مع الكباري. يتشممون شوارع القاهرة، وكلما وجدوا فراغاً سقّفوه بكوبري. نمضي في العتمة والغبار والخوف، وفوقنا الكباري تتلوى وتستطيل حركاتها الثعبانية. وتفاجئنا إسرائيل بجريمة جديدة.
محرقة 80 جندياً مصرياً
إسرائيل وصفت حسني مبارك بأنه كنزها
محرقة لثمانين جندياً مصرياً في حرب 1967، في منطقة اللطرون الفلسطينية. في الأسبوع الأول من تموز/يوليو 2022، نشرت صحافة إسرائيل عن إحراقهم أحياء. ترك الجيش الإسرائيلي جثثهم بضعة أيام، ودفنهم في مقبرة طولها عشرون متراً، "بعد أن شكا المستوطنون من رائحة الجثث". رقابة الجيش الإسرائيلي تكتمت تفاصيل المحرقة منذ وقوعها.
وفي عام 2002، اعترف بالواقعة زئيف بلوخ قائد القوات التي ارتكبت الجريمة، فأمرت الحكومة ببناء متنزه سياحي اسمه "ميني إسرائيل"، فوق المقبرة. هم من ارتكبوا المحرقة، هم من نشروها، ولم يكذبها مصدر عسكري أو دبلوماسي هناك. وكان العجز هنا يوجب إعلان الحداد، واتخاذ موقف يليق بتضحية جنود مجهولين بلا أسماء.
لا تتهاون إسرائيل في الثأر، ولا تتورع عن القتل، وترهن سمعتها بقدرتها على الانتقام. يذكر جوردون توماس في كتابه "جواسيس جدعون... التاريخ السرّي للموساد" أن عقيدة إسرائيل التي ينفذها جهاز الموساد "ألا تبدو أعمالنا كإرهاب دولة ولكن كأعلى قرار قضائي، ودورنا لا يختلف عن أي رجل ينفذ أي قرار قضائي بالإعدام". وكان رفائيل إيتان، الجاسوس ذو القناع الحديدي، قد "سنحت له الفرصة لتذكير العالم بأن أي نازي سابق لن يكون بأمان". وفي عام 1957 تلقوا نبأ صاعقاً من الأرجنتين بوجود أدولف إيخمان. (صديقي المترجم سمير جريس يصحح لي قائلاً إن الصواب هو "إيشمان". إيخمان يوجد فقط باللغة العربية). فليكن إيشمان.
في الأسبوع الأول من تموز/يوليو 2022، نشرت صحافة إسرائيل عن إحراق 80 جندياً مصرياً أحياء في حرب 1967، في منطقة اللطرون الفلسطينية. ترك الجيش الاسرائيلي جثثهم بضعة أيام، ودفنهم في مقبرة طولها عشرون متراً، بعد أن شكا المستوطنون من رائحة الجثث
إيتان "قطع نصف العالم" للقبض على إيشمان. أمروه بالتعرّي، لأخذ مقاسات جسده، ومقارنتها بمقاساته في ملف الاستخبارات النازية (ss). تطابق، باستثناء إزالته وشمَ ss عن ذراعه. نجحت عملية الاصطياد. "بعد محاكمات طويلة، وُجد إيشمان مذنباً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية"، وأعدم وبني فرنٌ خاص لحرق جثته، ونثر رماده في البحر، وأمر بن جوريون ألا يبقى له أثر يدعو المتعاطفين معه لتحويله إلى معبود نازي. ويوثق توماس في الكتاب تفاصيل دقيقة عن تدمير إسرائيل للمفاعل النووي العراقي عام 1981. وفي العام السابق، أرسل العراق عالم الذرة المصري يحيى المشد، للإشراف على شحن الوقود النووي في بغداد، فقرر إسحاق هوفي رئيس الموساد اغتياله.
فريق الاغتيال راقب محيط الفندق، وتمكن اثنان من دخول غرفة المشد بمفتاح "ماستر". ذبحاه، وطعناه في القلب، ونهبا الغرفة لتبدو كعملية سرقة. وسمعت فتاةُ ليل في الغرفة المجاورة حركةً غير عادية في غرفة المشد، وبعد ساعات من الإدلاء بشهادتها قُتلت "بسيارة مجهولة لم يتم العثور عليها"، ولحق فريق القتل برحلة شركة العال، عائداً إلى تل أبيب. وثائق لا يكذبونها، واقعة جرت عام 1980 يعتبرونها من الأدلة على الذراع الطولى. ولعلها تستأهل رد فعل مصرياً لن نشهده في هذا الجيل، إذ قوبل ردُّ الفعل الرئاسي المصري على حرق الجنود من رئيس وزراء العدو بأنه "أوعز إلى سكرتيره العسكري بفحص هذه القضية".
يوثق توماس تفاصيل دقيقة عن تدمير إسرائيل للمفاعل النووي العراقي عام 1981. وفي العام السابق، أرسل العراق عالم الذرة المصري يحيى المشد، للإشراف على شحن الوقود النووي إلى بغداد، فقرر إسحاق هوفي رئيس الموساد اغتياله
مضى شهران من الصمت. لا إفادة بنتيجة "إيعاز" رئيس وزراء إسرائيل إلى سكرتيره ببحث القضية. سيأتي خبر مقبرة أخرى، وربما كارثة محلية، فننسى السابقة، وننشغل مؤقتاً بالكارثة الطازجة، ثم تطوى طيّ السجل. لكن عضو البرلمان محمد سعد الصمودي، تقدم في 25 آب/أغسطس 2022 بسؤال إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، عن نتائج التحقيقات التي أجرتها إسرائيل بشأن الواقعة. قال النائب إنه منذ إثارة إسرائيل للقضية "لم نر أي معلومات أو مخاطبات من الجانب الإسرائيلي حول ما توصلت إليه التحقيقات في هذه الواقعة، ولم يتم موافاة الجانب المصري بأي مستجدات". إسرائيل تقول إن الضحايا من جنود النخبة، "الصاعقة". فماذا عن غيرهم؟
كنت نائباً لرئيس المخابرات
يرسم عبد الفتاح أبو الفضل في كتابه "كنت نائباً لرئيس المخابرات" لوحة لمقدمات الهزيمة. في 22 أيار/مايو 1967 رأى في محطة القنطرة فوضى "يعجز الإنسان عن وصفها"، تلك قوات الاحتياط المتوجهة إلى سيناء، "والمفروض أنها على وشك الاشتراك في الجبهة. كان الكل في ملابس مدنية ومعظمهم بجلابيبهم الريفية ويحملون بنادقهم... جمعوا من قراهم على عجل ودون أي ترتيبات إدارية، وتسلموا أسلحتهم... وشحنوا في السكة الحديد كالدواب دون أي تجهيز أو ترتيب إداري من مأكل أو مشرب... كانوا يتدافعون لشراء طعامهم من الباعة الجائلين بالمحطة في فوضى شاملة... حشد هائل من الشباب والرجال الضائعين نتيجة إهمال واستهتار سلطات القوات المسلحة بآدميتهم".
كان أبو الفضل، في ذلك اليوم، عائداً من مؤتمر شعبي بالعريش، بحضور الشاعر محمود حسن إسماعيل. وتوقف في القنطرة شرق المطلة على قناة السويس، وفوجئ بالفوضى. ولعل الشاعر كتب شيئاً عن الذين لا شك أنهم مفقودون، وأسماؤهم أيضاً مفقودة. في نهاية فيلم "المومياء" يستلهم شادي عبد السلام روح كتاب "الخروج إلى النهار" الشهير بـ"كتاب الموتى": "انهض، فلن تفنى. لقد نوديت باسمك، لقد بُعثت". لا ذكر لإنسان مجهول الاسم. وفي الفيلم الأمريكي "صمت الحملان" تظهر السيناتور روث مارتن في برنامج تلفزيوني، تستحث إنسانية خاطف ابنتها "كاثرين". تكرّر اسم كاثرين كثيراً، فلا تكون الصبية المخطوفة مجردَ رقم في قائمة ضحايا القاتل المتسلسل.
تنهي الأم نداءها متوسلة: "كاثرين ابنتي"، فتعلق آرديليا عميلة المباحث الفيدرالية: "هذا نداء زكي، يا إلهي، هذا ذكاء حقاً". فهل يوجد ما يمنع استخدام بعض الذكاء، وتُستفز عائلات الجنود الثمانين ضحايا محرقة اللطرون الفلسطينية، وتنشر صورهم وأسماءهم، في الفيسبوك وتويتر وغيرهما مما لا أعرفه من وسائل التواصل الاجتماعي؟
ويلي ذلك قيام أهالي مفقودي حربي 1956 و1967 بنشر صورهم وأسمائهم، وينشط الأحياء من أصدقائهم، بنشر خطاباتهم من الجبهة وصور تجمعهم بالأبيض والأسود، ولا يتركون فراغاً في الفضاء الأزرق إلا ملأوه بتفاصيلَ تؤكد أن هؤلاء لم يعودوا أرقاماً، لكنهم آدميون قبرت أحلامهم. آن لهم أن يبعثوا، فقد نودوا بأسمائهم. سيكون يوماً أزرق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون