تمّ افتتاح معرض الفنان التشكيلي والحروفي السوري خالد الساعي في صالة "نصف العالم" في مدينة سومور (Saumur) الفرنسية، وكان الحضور غفيراً ونوعياً، وقد حضر عمدة المدينة المعرض إضافة الى مديرة الإقليم وعدد من الفنانين والمهتمين وأبناء المدينة، التي تتصف بأنها مدينة نوعية راقية.
المعرض هو الأول من نوعه لفنان عربي في هذه الصالة العريقة، وأول معرض عما يسمى بالحروفية العربية.
يستمر المعرض حتى أول شهر تشرين الأول/أكتوبر، وهذه فرصة لمن يزورون المدينة التي تعج بالسياح أن يحضروا هذا المعرض الهام والذي تعتبره قيّمة المعرض السيدة ماريان Marine Chevalier المعرض المحوري أو الرئيسي للصالة في هذا الموسم.
معرض الفنان التشكيلي والحروفي السوري خالد الساعي في صالة "نصف العالم" في مدينة سومور الفرنسية هو المعرض الأول من نوعه لفنان عربي في هذه الصالة العريقة، وأول معرض عما يسمى بالحروفية العربية
المعرض يضم 24 عملاً فنياً، تتفاوت فيها المقاسات من المقاس المتوسط إلى الكبير. كما تتنوع فيها الخامات من الاشتغال على الورق إلى الاشتغال على القماش أو القماش الشفاف.
"انتظرْها" لمحمود درويش. حبر وأكريليك على ورق
وتمثل التقنيات التي اعتمدها الفنان في إنجاز هذه الأعمال حدثاً ملفتاً من ناحية التنوع والجودة العالية، فقد اشتغل بالصباغ الطبيعية والأحبار وألوان الأكريليك على الورق. كما اشتغل بتقنيات الكولاج الورقي والقماشي على حدٍ سواء، مما أعطى مساحة كبيرة لاستعراض المواد وإمكاناتها وقدرتها على التعبير تحت دراية وحنكة الفنان.
لا شيء مثل النبيذ والحب والياسمين لتمضية الوقت كعنقود عنبٍ... بودلير
ولعل موضوعة المعرض التي شغل عليها الفنان فريدة وذات دلالات واسعة، إذ اشتغل فيها على مقابلات من الشعر العربي والشعر الفرنسي عن موضوعات معينة، فقد تقابل شعر أبي نواس مع شعر الفرنسي بودلير على تفاوت حقبتيهما الزمنية ونوعية شعرهما، على أنهما خلصا إلى نتيجة متطابقة، وهي أن الخمر له روح، وهذه الروح تنتقل إلى روح الشاربين، وتضاعفها:
ومازلتُ أستلّ روح الدّنِّ في لطَفٍ
واستقي دمَه من جوفِ مجروحِ
حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدٍ
وَالدَّنُّ مُنطَرِحٌ جِسماً بِلا روحِ
ومازلت استلّ روحَ الدنّ في لطف
وهذه تحمل ذات معنى قصيدة بودلير "روحُ الخمر":
غنّت روحُ الخمر في القنيناتِ ذاتَ مساء
يا إنسان، اندفعْ نحوَك يا عزيزي المحروم
في سجني الزجاجي وشموعي الوردية
أغنية مليئةً نوراً وأخوية
موضوعة المعرض التي شغلت خالد الساعي فريدة وذات دلالات واسعة، إذ اشتغل على مقابلات من الشعر العربي والشعر الفرنسي
ونرى كيف تتألق قصائد المتنبي، وجلال الدين الرومي، ودرويش، ومحمد صارم، ونوري الجراح، وغيرهم في فضاءات المعرض. تقابلها قصائد أبولينير، وإيف بونفوا، وسان جون بيرس، بشكل أخّاذ.
لكن المغزى من تلك المقابلة هو أن تجارب الشعراء تلتقي في رؤاها وإن اختلف المكان والزمان. فهي تجارب فنية تشتغل على إعطاء معانٍ بعيدة ورمزية لمفهوم الشراب، فمن البعد المادي للنشوة كما يقول ابن عبد ربه: "ناول الكأسَ واستمالَ بلحظٍ/فسقتني عيناه قبل يديه"، إلى البعد التأويلي كما يقول البسطامي: "شربتُ الحبّ كأساً بعد كأسٍ/ فما نفد الشراب ولا رويتُ"، إلى البعد الروحي، كما يقول جلال الدين الرومي: "إن ظللتَ ثملاً بالمادة فانتَ أعمى عن كأس الرّوح".
وشربت الفجر خمراً في كؤوسٍ من أثير. جبران خليل جبران- أكرليك وفضة على قماش
فمفهوم الشراب مفهوم مفتوح على التأويل، وللشراب اشتراطات كثيرة ومن جملتها الجوّ والمحيط المناسب له، وحضور النديم. فقد تحدث نشوة الشراب من وجه حسن أو حديث جميل رائق أو ربما من بيت شعر أو نسمة عليلة.
الاختيارات الشعرية كانت دقيقة، وتكاد تكون قد أحاطت بمعظم تجليات الشراب ومفاهيمه.
إن ظللتَ ثملاً بالمادة فانتَ أعمى عن كأس الرّوح
لكن الأهم كيف استطاع الفنان اصطياد صور المعاني، والتعامل مع جوهر النص وإعطاءه بعداً فنياً مذهلاً حتى لكأننا نرى المعاني تسبح في ضوء أو مياه زهرية اللون فهناك عناقيد جبران تتدلى وكأس الأثير. والبدر يتحول الى كأس. ونرى قصيدة (انتظرها) لدرويش تتجلى والكأس تلتمع فيها مشعلةً الحواس الخمس معها.
اعتمد الفنان خالد الساعي على خبرة طويلة مع التشكيل والخط والحرف العربي على استنطاق تلك الملكات، والارتقاء بها إلى مناخات تتجاوز المعنى والشعر، وتضع المتلقين في جملة بصرية موسيقية متناهية الحساسية على أن المتلقين سيضمنون الدهشة والتنوع في أعمال المعرض. لكن اللوحات لن تبوح بمكنوناتها دفعة واحدة، بل كلّ زيارة ستنطوي على قراءة جديدة وبوح جديد.
عن اختياره للحرف وليس لوحة التشكيل، يقول الفنان خالد الساعي لرصيف22: "اخترت اللوحة الحروفية، لوحة الخط المعاصر لأنها تمثل دمجة بين الخط واللوحة بالوقت نفسه. وتلك اللوحة تضمن الهوية والفرادة والخصوصية. سابقاً كانت لدي حيرة: أين تتحقق الذات. إلى أن التقت لوحة الخط مع لوحة التشكيل، واصبحتا لوحةً مضاعفة.
"اعتمدتُ بشكل أساسي على نوعين من أنواع الخط العربي، هما خطّا الثلث والديواني الجلي، لما يتيحانه لي من إمكانية كبيرة في اللعب بأشكال الحروف والكلمات وتعدد الصيغ المتاحة من أشكال تلك الحروف"... خالد الساعي
"أين تجد لوحاتك صدى أكبر؟ عند المتلقين العرب أم الغربيين والأوربيين؟ إذ نلاحظ أن معظم معارضك في الغرب". عن هذا السؤال يردّ الساعي: "حقيقة، أنا عرضت بمعظم العواصم العربية والمهرجانات والمتاحف، ولم تكن لي قطيعة مع المتلقين العرب. لكن أرى أن خطابي أوسع من الخطاب المحلي، وأن الغرب يحتاج إلى أن يرى نتاجاً مختلفاً عن الذي عهده باللوحة الخطية القديمة. إضافة إلى أنني أرى أن المتلقين الغربيين يتمتعون بذائقة متطورة ومتطلبة، وهذا يمثل حافزاً ومحرضاً بالنسبة لي. في حين أن المتلقي العربي لا يزال متردداً بين فهم الحداثة، والميل إلى الفن التقليدي، وطبعاً لا أعمم ذلك. لكنها حاله يتصف بها الوعي العربي في الفن".
وعن علاقته الكبيرة بالشعر، يقول: "بالنسبة لي، الشعر مادة ملهمة وذات عدة أبعاد ومستويات، فهي أوسع من الصورة، وهي تُبقي الباب مفتوحاً على التصور والتخيل. وشكل الكلمة بحد ذاته يشكل مادة تجريدية تصويرية، إضافة إلى قيمة المعنى فيها. وبالتالي فإن الشعر وعلاقته مع الكلمة وبالتالي الحرف، هي علاقة قوية متعددة الوشائج. الصورة محدودة، أما الكلمة فهي مفتوحة على التخيل والتأويل، وغير مؤطرة، بل حرة و أثيرية".
24 لوحةً فنية لن تبوح بمكنوناتها دفعة واحدة. كلّ زيارة ستنطوي على قراءة جديدة وبوح جديد
"نرى أنك تتنقل بين التقنيات و طرق إنتاج العمل الفني"، فيردّ الساعي: "الحقيقة أنني أسعى باستمرار على تطوير عملي من الناحية التقنية، وعلى استنطاق الخامات. فالاشتغال على الألوان المائية والأكريليك والأحبار هو بمثابة بحر، ودوماً ما تستوعب البحث والاكتشاف والجديد. لكنني لم أتوقف عندها في هذا المعرض، فاستخدمت الصباغ الطبيعية والتراب والرمل. ومن ناحية أخرى استخدمتُ الفضة السائلة، والتي أعطت الألوان غنىً و تنوعاً في الملمس والكثافة. إضافة لبعض الأعمال التي اشتغلتُها بكل التقنيات الممكنة والكولاج. معرفة التقنيات بشكل واسع، تعطي للفنان مجالاُ أوسع في التعبير وتحقيق رؤى الفنان".
عن الخطوط التي استخدمها خالد الساعي في هذا المعرض قال لنا: "اعتمدتُ بشكل أساسي على نوعين من أنواع الخط العربي، هما خطّا الثلث والديواني الجلي، لما يتيحانه لي من إمكانية كبيرة في اللعب بأشكال الحروف والكلمات وتعدد الصيغ المتاحة من أشكال تلك الحروف. إضافة إلى الطاقة التعبيرية لذينك الخطين. ولكنني اشتغلت بنسبة أقل على خط النسخ وخط الإجازة وخط الديواني العادي، وذلك لإثراء المساحات الصغيرة من اللوحات بحركيات خطية مغايرة عن الخطوط الكبيرة. وبالتالي تخلق معها مناخاً ثرياً من الأشكال اللانهائية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...