صور فوتوغرافية أقرب للوحات تجريدية، توضع في العرض على شكل ثلاثي المجموعات، تبدو بعضها لبيوت معتمة، وأخرى تجريداً لأشخاص، وصور أخرى لكتل ضوئية شاحبة مختلطة الألوان الأبيض والأسود. فيقف الزائر أمام معرض مقسّم بين ثلاث صور فوتوغرافية فنية مصفوفة على نفس الترتيب: بيت معتم من الخارج، أشباه شخوص، وكتل ضوئية دون تفاصيل كأنها حرقت في الكاميرا قبل اكتمالها. مواضيع تم التقاطها بعدسة كاميرا ثم التحرك فوق سطحها بخيوط تشبه التطريز اليدوي؛ صور لا تمتلك من التفاصيل والملامح الأولية للحظة الالتقاط إلا القليل المُبهم، لكن بالمقابل تتمتع بتقنية تجريد تحمل بدورها عزم لتمثيل شائك ومركب.
هو مشروع فوتوغرافي للفنانة اللبنانية-الأرمنية راشيل بريطمان، عرض في مونتريال (مساحة بار كواليس) خلال الشهر الماضي. حيث نقرأ في موقعها الإلكتروني أنها أتمت مشروعها بعد انفجار المرفأ وخلال الجائحة. فنكون في تفاعل مع تمثيلات لمدينة منكوبة إثر كارثة حدثت؛ في تفاعل مع عمل يحمل عبء محاولة تشكيل تمثيل يخص المدينة الناجية من كارثة بأضرار صارخة.
كيف نصور علاقتنا مع مدينة ناجية من الفناء؟ الفنانة اللبنانية-الأرمنية راشيل بريطمان تجيب في مشروع فوتوغرافي عن بيروت عُرض في مونتريال
أشد ما يثير الانتباه في المشروع هو عدم إرضاء توقعات الزائر عن طبيعة الوسيط الفني، حيث، ومع دخول المعرض، يتداعى ما توقعناه عن صور فوتوغرافية تفترض موضوعات واضحة حبست من لحظة زمنية ما. لكن، وللمفارقة، نكون في مواجهة صور تشبه الأعمال المجردة؛ صور فوتوغرافية غير واضحة ببعديها الزمني والمكاني، إنما أضواء وتكتلات لونية وخيوط، لنكون أبعد ما نظن عن الواقع وأقرب للمفاهيمي المركب. في هذا الصدد يكون الخيار الفني مسألة تستحق التأمل والتفكير، فالعمل يدفعنا بعيداً عن الـ "ماذا" الأنطولوجية المشتبكة مع الموضوعات، لنبني تساؤلنا عن الـ "كيف" المتعلقة بالشكل والأسلوب، حيث يمكننا التساؤل: كيف نصور علاقتنا مع مدينة ناجية من الفناء؟
عن تجريد الكارثة
عند المرور على كل مجموعة من الصور، يبدو للزائر أنه على وشك فهم قصة مصورة عبر الكاميرا مخربة للشكل، لكن ما أن تتلاشى القصة مع المضي بالمشاهدة، لنكون في نهاية المعرض على تماس مع حكاية غير مكتملة. تقول الفنانة في تعريف سريع للمشروع على موقعها "عندما يقطع التهديد كل الخيوط الرفيعة التي تربطك بأحلامك وبيروت". بربط هذه الجملة الصغيرة مع ملامح البيت وسياق المشروع الزمني (بعد تفجير المرفأ)، ندرك أن أسلوب التمثيل يتناسب مع طبيعة الموضوع وحساسيته. حيث إنها تتعامل مع موضوعة/مدينة ناجية من الفناء. فإن البيوت المعتمة في صور المعرض تثير تساؤلات حول سلامة البيت، حول أوضاع ساكنيه، حول ما إن كان لا يزال مسكن، أو أصبح "مسكوناً"، أو أنه أصبح من علامات ما بعد الكارثة. لا وضوح لأي شيء من ذلك.
بيوت بيروت المعتمة في صور المعرض تثير تساؤلات حول سلامة البيت، حول أوضاع ساكنيه، حول ما إن كان لا يزال مسكن، أو أصبح "مسكوناً"، أو أنه أصبح من علامات ما بعد الكارثة. لا وضوح لأي شيء من ذلك
بعد زيارته لألمانيا المدمرة من الحرب، كتب تيودور أدورنو أن أي نوع من الفنون التصورية هي خيانة للضحية. فكل تصوير لما تم انتهاكه هو قبول بدخول الموضوع الفني، والمادة/الضحية، في سياقات السوق وسياسات عرضه، وتحديق المتفرج المتخاذل، وقيمة السوق المزعزعة لقيمة العمل الفني. ويكمل أدورنو أن التجريد هو الالتفاف على هذا المأزق بالاتجاه نحو تمثيل الفظاعة والصراع خارج المباشر المُصَمَم لتحديق العين الكسولة. إنما تكوينات وألوان وضروب فرشات تمثل فظاعة دون وضعها في معرض التحديق. كتب أدورنو هذا بالتزامن مع بروز مدرسة التجريد، التي بدأت منذ بداية القرن الماضي وامتدت إلى الستينيات، والتي اعتمدها الكثير من الفنانين والتيارات الطليعية، في التعامل مع فظاعات الشموليات الأوربية والحروب. ليعيدوا تعريف فن الرسم بأنه لم يعد معني بالتصوير، إنما التمثيل عبر التجريد.
يذكرنا معرض برطميان بزيارة أدورنو لألمانيا بعد الحرب. حيث أن المدينة لم تكن مادة فنية تلتزم بحداثتها، إنما حالة استثناء تتسم بالفظيع المستحب تجريده. لم يكن البيت الناجي من الفناء في موضع علامة على الكارثة في صور المعرض، إنما تصوير للمدينة نفترض أنها متقطعة؛ بيت بدون دلائل واضحة على السلامة أو الضرر، فالكارثة كانت عشوائية، كل البيوت مستهدفة وكلها ناجية في ذات الوقت. لكن ما تمكنت منه صور البيوت المعتمة وغير الواضحة هو دلالة على الحيرة التي شكلتها الكارثة على تفاعل الفنانة مع مدينتها. إن لطخات الضوء وتشويه الظل والنور تمثيل لعلاقة قلقة مع مدينة ناجية محاصرة ببقايا الكارثة.
يذكرنا معرض برطميان بزيارة أدورنو لألمانيا بعد الحرب. حيث أن المدينة لم تكن مادة فنية تلتزم بحداثتها، إنما حالة استثناء تتسم بالفظيع المستحب تجريده
الملمح الثاني هو الشخوص المجردة، أو المشوشة، في كل من المجموعات الثلاثية للصور. تبدو كمحاولة من الفنانة لتكميل تصوير علاقتها مع المدينة وأثر الكارثة عليها. حيث أنها تنقلنا من الخارج العام إلى الداخل الخصوصي؛ من الموضوعات إلى الذوات وتقلبات النفس التي شهدت الفناء. يتمكن الزائر من التفاعل مع هذا الشكل على أنه ملامح لشخص في لوحة ضوئية تجريدية. هنا الضحية ليس في معرض عين الزائر، إنما مختبئ خلف تمثيلات الضوء والظل ومتكسرات اللون، التي بدورها كانت قادرة على ترك انطباع درامي لما يمكن تسميته "مخاض النجاة" عند الشاهد على كارثة المدينة.
تتصاعد الانطباعات الدرامية لعلاقة النفس مع المدينة في أشكال أكثر تجريداً مع المرور بالمعرض. تعبير عن فقدان ملامح ذوات ومواضيع الحكاية بشكل كامل؛ بمثابة توصيف لعدم اكتمال رحلة الفنانة في مدينتها، وكأنها مرت بمراحل لاستيعاب الفظاعة كانت نهايتها توجب التجريد وقطع أي سبل لتصوير الموضوعات باي فعلية. فنكون بمواجهة كتل ضوئية مستتبة واهمة إيانا أننا بملكوت حلم شخص ما، نفترض أنه ناج لكننا غير متأكدين.
من انفعالات الصورة الى تعبيرات اللغة
من الملاحظ خيار الخطوط الملونة التي تدل على تدخل تعديل الحاسوب على الصور ليس فقط خصائص الكاميرا. تشكل تلك الخطوط بُعداً غير مفهوم بدقة في العمل، إلا إذا عدنا إلى الجملة المكتوبة في موقع الفنانة: "عندما يقطع التهديد كل الخيوط الرفيعة التي تربطك بأحلامك وبيروت"، وتذكر أن مواد عملها هي "التطريز على الصور". هذا التطريز تمثيل لخيوط واصلة بين المدينة وأحلام ذاتية، لكن في المقابل، من المثير للاهتمام هو خيار شكل الخطوط الذي يضفي طابعاً سيبري أكثر منه تطريزي دخيل نسبياً على طبيعة مُنتج الكاميرا الأخير، أي الصورة.
إقحام ذلك الشكل من الخيوط هو تعبير عن حبكة معقدة من العلاقات بين المكان والذات المتمثلة بخيوط التطريز. يكتمل البعد التطريزي هذا في نهاية المعرض، حيث تعلق أعمال صغيرة على شكل دوائر ومربعات، تحمل كلمات مطرزة مثل: "ثورة، خرق، حب، صبر، قدر، إضراب"، لتنتهي المجموعات الثلاثية للصور بتعبيرات منفعلة. يبدوا هذا الانتقال من تجريد مرئي إلى كلام مباشر الدلالات على أنه حشو غير مفهوم للوهلة الأولى، انقطاع لسرد اللامنطقي المركب للتجربة التجريدية بعقلانية اللغة. لكن في ذات الوقت، يبدو أنه بمثابة دعوة من الفنانة للعودة للواقع، كأنها بعد عبورها بتجربة التهديد الوجودي للفناء وانعكاساته القلقة والقاسية على نفسها، انتهى بها المسار في ترديد ما هو ضروري في الواقع من سياسي ثوري، وعاطفي واقعي مباشر. لتشكل الخيوط العشوائية على لوحاتها المجردة كلمات تحمل معاني أخيرة لرحلة تجريد فوتوغرافية، لم تعد فوتوغرافية ولا مجردة، إنما أصوات وكلام واضحة بعلاماتها وملحّة بواقعيتها.
تحركت راشيل بريطمان فوق الصور الفوتوغرافية كسطح يحتمل بعض العبث من أجل المقدرة على مقاربة المأساة عبر الصور، لا استثمار بجماليات المدمر أو بقايا ضرر ما، وهو ما يتيح التأمل في كارثة المدينة والقلق الناتج عنه، وما تبقى من ذكريات تصل بنفوسنا، وصدمة بمجاورة الفناء والعودة لبر النجاة، ولو نسبياً
عن الفوتوغرافي كتجريد
المفارقة الأهم في معرض راشيل يكمن بين الوسيط والشكل. كان لكثير من الرسامين اعتماد التجريد منذ مطلع القرن الماضي، كرد فعل على انتشار الكاميرا التي أتاحت التقاط صور الدمار المباشرة في الحروب. لكن كان لصاحبة المعرض أنها اتبعت التجريد كشكل فني عبر استخدامها وسيط الكاميرا المعد لتصوير المباشر للمحيط. لنقف أمام لطخات ضوء وملامح شاحبة تتشكل من أجل تمثيل بعد مفاهيمي عن علاقة بمدينة في موقع شائك. حيث أننا نمر من بيت إلى شخص إلى أضواء كالأحلام، لتكون الكاميرا غير مستهلكة للأجساد، أو جماليات الأنقاض، كمادة مضمونة لجذب المحدقين، إنما وسيط لتفكير بالكارثة والناجين وأحلامهم المهددة بأهوال ما بعد الكارثة.
الخيار الفني المعتمد في هذا السياق يحمل خصوصيته التجريدية عبر الضوء والابتعاد عن التصوير كاحتفاظ باللحظة. يحلينا ذلك إلى استحضار جملة رولان بارت الشهيرة بخصوص فن التصوير الضوئي بأنه تكرار ميكانيكي لما لا يمكن تكراره وجودياً. يمكن دحض هذه الفكرة عند بارت، فالمصورة هنا لم تحمل عبء النقل والتكرار للحدث، إنما طوعت وسيط ميكانيكي لتمثيل كارثة اصطدمت بفظاعتها. أي بدل تكرارها عملت على التمثيل الفني لمحاكات لاواقعية وحشيتها وغرابة حدوثها. لنكون في تقابل مع محاولة تحتمل تأويلات عديدة وأماكن كثيرة، لكن أيضاً ضرباً من الوجودية والقلق الوجودي المتجليين في الشكل والأسلوب المتبع.
هذه الحكاية المحملة بتساؤلات السلامة والنجاة والضرر، تحولت في النهاية لعمل فني لا يدعي تصوير أي من هذه التساؤلات، كباقي صور الكاميرات التي انتشرت عن كارثة المرفأ، إنما تمثيل للفظاعة بين تمثلات عديدة ممكنة. حيث إن المصورة تحركت فوق الصور الفوتوغرافية كسطح يحتمل بعض العبث من أجل المقدرة على مقاربة المأساة عبر الصور، لا استثمار بجماليات المدمر أو بقايا ضرر ما. ما يتيح التأمل في كارثة المدينة والقلق الناتج عنه، وما تبقى من ذكريات تصل بنفوسنا، وصدمة بمجاورة الفناء والعودة لبر النجاة، ولو نسبياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 11 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت