للوهلة الأولى، تشعر بأنك دخلت قائمة انتظار يتم ترتيبها ليمر الموت ويختار من بينها ما يشاء، هنا أتحدث عن الحرب، ولطالما اقترنت هذه الكلمة بقطاع غزة خلال الـ15 عاماً الأخيرة، ويظن البعض أن هنالك ست حروب، لكنها حرب واحدة مستمرة منذ ذلك الموعد، فالمرء في غزة ما إن تتوقف جولات القتال، حتى يتجه للنصف الآخر من الحرب، التي هي برأيي أكثر قسوة من جولات القتال، فالجروح والكسور والحروق في الجسد، يبتدئ معها الألم بعد أن تبرد حرارة الجسم.
الشعور الأول للإنسان عندما تبدأ الحرب، هو استدراك قسوة الحياة، واستحضار تلك الحالة التي تبدي بدائية الحياة، فليس من مكونات الحضارة الإنسانية المدعاة، فكرة الحرب من الأصل، وإن الحرب في هذا المكان، غزة، لا تعطي للناس الخيارات، كأن يتمكن الخائفون من السفر عبر الحدود، أو أن يتجه كل من يتمسك بالبقاء إلى الملاجئ، فلا بنية تحتية في غزة تعين المدنيين على الاختباء خلال القتال، وكل ما يمكن فعله خلال المواجهات، هو البقاء في المنزل، والتفاوض مع الصدفة لمئات المرات، من أجل النجاة من الصواريخ الثقيلة المتساقطة بشكل عشوائي.
كهرباء في الجسد
تجددت الاشتباكات بين إسرائيل والفصائل الفسطينية في آب/ أغسطس 2022، فجأة ودون سابق إنذار، نتيجة اغتيال ناشط فلسطيني في حركة الجهاد الإسلامي، وكان خبر بدء الحرب من جديد، محبطاً للجميع، فلم تلتئم بعد جروح المواجهة الماضية في 2021، ولم يذهب الخوف بعيداً.
تقول آلاء الزعيم (34 عاماً) لرصيف22: "حينما سمعت خبر بدء الجولة الجديدة من الحرب، اهتزت مفاصلي، وسرت كهرباء في جسدي بأكمله، فيما شعرت بخيبة أمل شديدة من استمرار الحياة في غزة. أخذت أنظر لوجه زوجي وعيون أطفالي، وصرخت فجأة: والله تعبنا".
لا بنية تحتية في غزة تعين المدنيين على الاختباء خلال القتال، وكل ما يمكن فعله خلال المواجهات، هو البقاء في المنزل، والتفاوض مع الصدفة لمئات المرات، من أجل النجاة من الصواريخ الثقيلة المتساقطة بشكل عشوائي
تكمل الزعيم: "كانت نظرات ابنتي إليّ تعبر عن الخذلان، فكنت أطمئنها بعد توقف الجولة السابقة من القتال، بأن هذه آخر مرة ستزورنا الحرب، وقد خضعت لعلاج نفسي مطول، لتجاوز الآلام النفسية جراء أصوات الصواريخ المُهشّمة للجسد، والمشاهد المرعبة للشهداء والمصابين والمنازل المهدمة، ولطالما طالبتني بضرورة السفر والعيش في مكان آخر، بعيداً عن هذه المدينة".
تستطرد الأم: "أخشى على ابنتي من الدخول في حالة اكتئاب بفعل ما يحدث بشكل متكرر في غزة من عنف وحروب، وهي بالفعل تخضع لرحلة علاج نفسي مرة أخرى".
دون إيقاع
والحالة النشاز تبقى دوماً دون إيقاع أو سلوك محدد، لذا تستمر الحرب في خداع المشاعر والجسد، وتسيطر بشكل لا يمكن التعود عليه على الحواس، مثلما تفعل "كلبشات" شرطي الأمن مع الأيدي، والجنازير في الزنزانة مع الأرجل.
وفي كل مرة يمكن للمرء أن يلمح اقتراب الخطر أكثر، بمجرد تناقص عدد احتمالات النرد مع المأساة، فحروب خمس تقلل من فرصة الإبقاء على شخص نجا منها بطبيعة الحال.
تقول الزعيم:" في كل مرة أُفاجأ بمشاعر جديدة مع الحرب، فليس الخوف هو ذاته الخوف الناجم عن المواجهات الماضية، وهو ليس بأقل، ولا قابل للتعود عليه، بالعكس أشعر في كل مرة بأن هذه المرة جاءت الحرب لتحصدنا كلنا، بما أننا نجونا في مرات سابقة".
ويبدو الليل في حرب غزة بشخصية الشرير لو افترضنا أن الحرب دراما دموية، فلا يمكن للمرء الغزي أن يشعر بالأمان، بمجرد دخول ساعات الليل، إذ تشتد الهجمات الصاروخية الإسرائيلية، وتزداد الخطورة، وما إلى ذلك من مشاعر الرعب والشعور بالعجز أمام الموت، بالحجارة التي تحمي الجسد من الحرارة والبرد والرطوبة والحشرات والطيور في الوضع الاعتيادي، لربما تتحول أداة لتدميره في لحظة، حين يترطم بها الصاروخ الثقيل المُوجّه من الطائرة الإسرائيلية.
تضيف الزعيم: "ذاكرتي مع ليل الحرب سيئة جداً، وبالرغم من توقف القتال، أشعر بقلق شديد في نفس التوقيت من كل يوم، العاشرة مساءً، وما بعدها، فسماع أصوات الزنانات (طائرات حربية إسرائيلية مسيرة في سماء غزة، لرصد الأهداف، وتطلق أيضاً صواريخ تحذيرية لبعض الأهداف تمهيداً لقصفها بطائرة F16) مع الهدوء الإجباري في الليل، يجعل هواجس الخطر مضاعفة، ويشعرنا جميعاً باقتراب الموت".
وتكمل: "ما نفعله في هذا الوقت تحديداً، هو التجمع كعائلة، في مكان بعيد عن الشبابيك، لتجنب إيذاء الشظايا المتطايرة من الصواريخ، وننام جميعاً في ممر الغرف داخل المنزل".
في الحرب تفاصيل كثيرة لامتناهية، لكن النظرات بعد القصف هي اللغة الأكثر انتشاراً بين السكان هنا، فمن هول الصدمة يكون من الصعب على المرء أن يتألم، ينظر فقط، ربما يواسي من حوله بقليل من الأمان، أو يطلب النجدة بالفعل، وهذه اللغة المنطلقة بين الآباء والأبناء الصغار تتكرر في غالبية بيوت غزة.
ما نفعله في هذا الوقت تحديداً، هو التجمع كعائلة، في مكان بعيد عن الشبابيك، لتجنب إيذاء الشظايا المتطايرة من الصواريخ، وننام جميعاً في ممر الغرف داخل المنزل
يقول عادل عبيد، (39 سنة) وهو أب لطفلتين: "تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني عندما رأيت بناتي خايفات… نحن كآباء في المجتمع الشرقي، نواجه إشكالية أننا رجال، ولنا هيبة، ولا يجب أن نخاف، وهي أمور يمكن التعايش معها في الوضع الاعتيادي، لكن في الحرب، نصبح جميعنا متساوين في الخوف، فثقل القنابل والصواريخ حين يترطم بالباطون أو التراب، لا يمكن تحمله. نعم أخاف، وأخجل أن أقول لبناتي هذا الكلام، أخاف مثلهن تماماً، لكنني أتظاهر بالتماسك، ولربما يحتضنني من أجل نيل أمان أفقده أنا بالأساس، لحظة القصف، إنها معادلة صعبة، ومثلما قالوا: "فاقد الشيء لا يعطيه".
ولا يمكن أن تمر الحرب دون أن تحشو طنينها في الذاكرة، ذلك الحشر المقزز الذي يجعل من حياة الإنسان غير مستقرة، ولا آمنة، بفعل ردات فعل هي في الأصل عبارة عن انفجارات الألغام داخل الجسد.
يقول الأب: "شيء غير مستساغ أن تنشأ بناتي بذاكرة تحمل داخلها ست حروب، وحقيقة لا أعرف هل تتحمل أعصابهن هذا الصوت الرهيب؟ لا أظن أن الحرب تبقينا أصحاء".
مرور نفس السكين على المشاعر
وتبقى تجربة الإنسان مع الفقد في أوقات الحرب مفجعة، فما بالك أن تتكرر ذكرى الحادثة مراراً وتكراراً، فتمر نفس السكين على المشاعر، وبنفس الأسلوب مستعيدة الذكرى القاسية، لتتسبب بجرح أبدي، تأبى الحرب بشراستها، أن تجعله في طيات النسيان.
يقول عادل الذي فقد زوجته في حرب 2014 لرصيف22: "ذبحتني الحرب قبل ثماني سنوات بالتسبب في فقدان زوجتي، لقد تركت لي شريكة حياتي طفلتين في عمر الورد، لأعتنى بهما، واللعنة في توالي الحروب على غزة، يعزز في داخلهما وداخلي، قسوة غياب الأم، وفي حرب 2019، سألتني ابنتي الصغيرة: مش هادي هي الحرب الي اخدت أمي زمان، شو بده الاحتلال كمان؟".
يكمل عادل: "أتظاهر بالقوة أمام ابنتي، لكنّي مجروح من داخلي وضعيف بفعل الفقد، وبفعل تألمي على صغيرتي، وكذلك بما أراه من مشاهد مؤلمة، أراها في كل حرب جديدة".
إن المعضلة مع الاختباء والنجاة بأي وسيلة، عوضاً عن الخوف، خلال الحرب، هي المشاعر الأكثر حيرة وبشاعة، والسؤال أي الأماكن أكثر أماناً في المدينة، أي الأماكن لا يجلب الموت، ويغفل الصدفة المتوقعة؟
عن هذا تقول أماني العلمي ( 24 عاماً): "أقضي معظم أوقات الحرب في "قُرنة" خاصة، (زاوية في البيت)، هي في المكان الأبعد من المنزل، واتجاهها غربي جنوبي، لأنها المكان الأكثر بعداً عن اتجاهات الشظايا، فمنزلي يواجه قطعة أرض غير مبنية، على بعد مئة متر، يتم قصفها بشكل متكرر من قبل طائرات الاحتلال، وتتطاير الشظايا بشكل عشوائي داخل منزلنا من الجهة الشمالية للمنزل".
وتكمل:"شعوري في هذا الركن من المنزل يمكن من خلاله نسيان الخوف قليلاً، وأقوم بشكل شبه دائم بوضع سماعات "الإيربودز" في أذني، وأسمع الأغاني والموسيقى، لتجنب سماع أصوات الانفجارات".
لا حياة، لا موت
ولا يمكن تخيل غير مرارة الوقت في ظل الاحتجاز القسري للإنسان، وإبقائه مُعلّقاً، فلا حياة ولا موت، وما بينهما صناديق إسمنتية ممتلئة بالخوف والترقب، والخيالات المتضخمة حد الرعب، لكن ثمّة ساعة في ليل غزة كانت تحددها حركة الجهاد، هي التاسعة مساءً، ففي تلك اللحظة تنطلق عشرات الصواريخ من أرض غزة من بين المباني السكنية إلى الأرض المحتلة، وبطبيعة الحال، تتسبب الصواريخ لحظة انطلاقها، كونها بدائية، بأصوات انفجارات وشظايا شديدة الأثر على الإنسان الغزي.
أتظاهر بالقوة أمام ابنتي، لكنّي مجروح من داخلي وضعيف بفعل الفقد، وبفعل تألمي على صغيرتي، وكذلك بما أراه من مشاهد مؤلمة، أراها في كل حرب جديدة
تقول العلمي: "خوفي من الصواريخ المنطلقة من غزة، أكبر من الضربات المتساقطة عليها، وفي الحالتين هناك خطر، ولك أن تتخيل مشهد السماء في غزة لحظة انطلاق الصواريخ المحلية، إنه صوت شديد الرعب، وكأنه يسحب القلب من مكانه، أو يضغط النخاع الشوكي كله ليصل إلى منطقة العنق في لحظة واحدة، كما أن الشظايا المتطايرة في السماء لحظتها، هي قطع حديد وحجارة ملتهبة، لربما تقتل الإنسان في أية لحظة".
وتكمل الشابة العشرينية: "كنت أتمنى لو أن ثمّة ملاجئ لنا كمدنيين، نلجأ إليها خلال جولات القتال، لربما كانت الحرب أقل خسارة ورعباً، لكننا نواجه ما لا يمكننا تحمله بفعل الحرب".
وبعد توقف القتال، تبدأ مواجهة الذات مع آلام الجسد، ورهبته من المستقبل، فيكون على الوعي أن يستعيد ما كان قبل المواجهة القتالية من هدوء، وأن يدرب عقله على نسيان مشاهد الخوف والقتل والدمار، هذا كله يحدث في ظل حالة رفض الجسد لكافة الأصوات من حوله.
تقول العلمي: "خرجت ثاني أيام توقف القتال لكافيه الباقة على شاطئ غزة، كان الجميع يجلسون على الطاولات حزينين شاحبين، لربما كلمات قليلة تدور بينهم، فجميعهم خرج في هذا الوقت تحديداً للاستشفاء من الضجيج الداخلي وأصوات الحرب. وليس غريباً أن صوت احتكاك الطاولة بالأرض، كان يتسبب بالرعب للجميع، كما أن انطلاق صوت المقدح المفاجئ لعامل الصيانة، يظنه الجميع صوت ضربة جوية جديدة، ويبدأ كل واحد يتلفت حوله خائفاً".
وحين يرفضنا من نحب، يكون الأمر أكثر مشقة على الإنسان، فغزة بطبيعتها الجميلة وبحرها الرائع، وجوها المعتدل، وطيبة ناسها، لطالما منحت سكانها وضيوفها مساحة من المتعة والألفة، لكن ظروفها الأمنية جعلت الكثير من سكانها يفكرون في الهرب لمكان يضمن لهم بصيصاً من الحياة فيما تبقى.
تقول العلمي: "نحن نحب غزة، لكنها لا تحبنا. ففي كل مرة أقول سأهاجر، لكن حبي لغزة وأهلها يجلعني أتمسك بالبقاء، فقضيتنا بوجودنا على هذه الأرض، ولا أخفي عليكم، تراودني فكرة السفر بقوة بعد نهاية هذه الجولة".
وتكمل: "يعز عليّ قول هذا الكلام، لكن صرت أخاف أن أنجب الأطفال في المستقبل، كي لا أراهم يتساقطون مع الموت، أو يخافون من القصف أمام عيني، لقد بات صعباً تخيل مستقبل مشرق في هذا المكان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ اسبوعينمقال رائع فعلا وواقعي