شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الفتاوى العاطفية

الفتاوى العاطفية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

الأربعاء 24 أغسطس 202202:25 م


"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) —           صفحة تحررها مريم حيدري


هذا نصّ لبودكاست، أعده إحسان عبدي بور، الكاتب والمخرج الإيراني الذي لأعماله صدى جميل وواسع بين متابعيه الذين يفوق عددهم الآلاف. ما يميز عمل عبدي بور هو أنه بلغته الحميمة وطريقة أدائه وسرده للمواضيع، وبلكنته الجنوبية المحببة التي يزينها أحياناً ببعض الفكاهة، يتحدث عن مفاهيم كبيرة جعل متابعيه يشملون زمرة السامعين والقارئين الجادين للأدب إلى جانب أناس من الوسط العام في المجتمع. يتجنب هذا الكاتب التكلّف، وينتمي إلى الإنسان البسيط الذي يفكّر ويهمّ ويطمح لحياة أقل وطأة. كثيراً ما شاهدتُ ونحن نسير في الشوارع في أنحاء إيران أن اعترض طريقَه واحد/واحدة ليذكَر أو تذكر عنوان بودكاست له قائلاً/ة: "هذا غيّر حياتي"، "نحن نحبّك كثيراً"، "ننتظر الجديد"، فيردّ مطأطأ الرأس وبتواضعه المعتاد: "من لطفك"، فقط.

أخرج إحسان عبدي بور عدة أفلام سينمائية، كما أنه يكتب القصة القصيرة، ويدرّس كتابة القصة بطريقته الخاصة أيضاً، حيث يركّز في ذلك، في أغلب الأحيان، على أحداث حياة طلّابه، فتبدو صفوفه وكأنها جلسات علاج نفسي حميمة تنتهي بقصة قصيرة.

هذا البودكاست أعدّه قبل عامين كقراءة في قصائد الشاعر الفلسطيني السوري غياث المدهون، وكنتُ قد ترجمت له المقاطع إلى الفارسية. سَمع هذا البودكاست آلاف من المستمعين بالفارسية في داخل إيران وخارجها، وأخبرني الشاعر غياث بعد ذلك أنه تصله عشرات الرسائل من الإيرانيين الذين قد سمعوا صوته وشعره، وقد سمعتُ كثيراً من قال إني سمعتُه عشرات المرّات.

عنوان البودكاست (الفتاوى العاطفية) مقتبس من تعبير "أسباب عاطفية" في شعر غياث المدهون، حيث تحول في الترجمة إلى "فتاوى عاطفية". ومن الجميل الاستماعُ إلى البودكاست لتعيشوا أصوات الشاعر والمؤدي والموسيقى والجو:



عُلّمت المقاطع الشعرية في النص بالخطّ المائل. يبدأ البودكاست بصوت غياث المدهون:

"تماماً، كما لو أنَّكَ تأكلُ أصابعَ حبيبتكَ، تماماً كما لو أنَّكَ ترضعُ سلكَ الكهرباء، كما لو أنَّكَ تأخذُ لُقاحاً ضدَّ الشظايا، كما لو أنَّكَ لِصُّ ذكرياتٍ، تعال لِنُمسك عن الشِّعر…"

لي أخٌ لم أره أبداً، اسمُه غياث. مثل من يجمعون الطوابع أو النقود، لي إخوة وأخوات، وُلد كلٌّ منا في جهة من الجهات الأربع في هذا العالم، من آباء مختلفين. لدينا رؤساء مختلفون، أعلام مختلفة، ألوان عيون مختلفة، وكلمات قريبة. نحن نصل إلى رحِمٍ مشترك عبر DNA الكلمات.

إنه أخي، حتى إن كان نطفة لرجلٍ فلسطينيّ مشرّد وفتاة سورية خجولة، قد انعقدت في نوفمبر 1978 خلف سياج مخيّم اللاجئين في دمشق.

لي أخٌ لم أره أبداً، اسمُه غياث. مثل من يجمعون الطوابع أو النقود، لي إخوة وأخوات، وُلد كلٌّ منا في جهة من الجهات الأربع في هذا العالم، من آباء مختلفين. لدينا رؤساء مختلفون، أعلام مختلفة، ألوان عيون مختلفة، وكلمات قريبة... غياث المدهون وإحسان عبدي بور في مجاز الخطّ الثالث

لا ضرورة أن تخرج حروف كلماته من حنجرة الجنوب الإيراني لأناديه "خويا"؛ من سوريا البعيدة التي كان فيها، ومن السويد المرّة التي يقطنها اليوم، تصل يداي لأحضنه.

إن كنتُ في قدَرٍ آخر قد تشرّدتُ من وطني، وأصبحتُ حائراً في مكان ما من هذا العالم، بعد ثورةٍ محبطةٍ ومنهزمة، فلا شكّ أن الأنين الذي كان يخرج من بين شفتيّ، يخرج هكذا تماماً، مثلما كتب غياث المدهون.

في مكان ما، في حوارٍ، يقول إن الحربَ في وطني أصبحت فطوري، والسلام في ستوكهولم عشائي. أنا مثل هذا التناقض. ثمّ، شيئاً فشيئاً، يصبح ذلك شعراً، فيواصل:

حزين جداً

لأن المدينةَ التي أسكُنُها لا تشبهُ المدينةَ التي تسكُنُنّي!

*

أنا اللاجئُ الفلسطينيُّ السوريُّ السويديُّ، أرتدي جينزاً ماركة ليفايز ابتكرَهُ مهاجرٌ يهوديٌ من ألمانيا في سان فرانسيسكو، وأملأُ كاميرتي بالصورِ كما تملأُ فلاحةٌ من روسيا سطلَ الحليبِ تحتَ بقرتها، هازَّاً رأسي بالإيجابِ كمن استوعبَ الدرسَ، درسَ الحربِ، أنا الفلسطينيُّ الموزعُ على عدةِ مجازرَ، أقفُ هنا عارياً، محاولاً أنْ ألبسَ قصيدتي علَّها تُخفي جراحي

....

كتبتُ هذه القصيدة لامرأةٍ أحببتُها، وافترقنا، هي الآن لديها رجلٌ آخر، وأنا لديّ هذه القصيدة.

في تلك اللحظة التي يصبحُ فيها الوقت داكناً مثل لوحات رامبرانت،

ويسبح الإحساسُ بارداً مثل جثث أصدقائي،

تخرجين من وراء الكواليس،

تخرجين هكذا،

دون مقدماتٍ

أو شروح

أو تفسير منطقي

وتمنحينني لجوءاً لأسبابٍ عاطفية

حتّى تاريخ كتابة هذا النصّ لم تتوصّل أجهزة الاستشعار في الفيزياء الحديثة إلى أجوبة مقنعة حول التأثير الذي أحدثتْه الأمواج الصوتية لكلماتِكِ في أذنيّ على الشعر في الشرق الأوسط

أنا اللاجئُ الفلسطينيُّ السّوريُّ السويديُّ، أرتدي جينزًا ماركة ليڤايز، ابتكرَهُ مهاجرٌ يهوديُّ من ألمانيا في سان فرانسيسكو، وأملأُ كاميرتي بالصورِ، كما تملأُ فلاحةٌ من روسيا سطلَ الحليبِ تحتَ بقرتها، هازًّا رأسي بالإيجابِ كَمَن استوعبَ الدرسَ، درسَ الحربِ. أنا الفلسطينيُّ الموزَّعُ على عدّةِ مجازرَ، أقفُ هنا عاريًا، محاولًا أنْ ألبسَ قصيدتي،

كتبتُ هذه القصيدة لامرأةٍ أحببتُها، وافترقنا، هي الآن لديها رجلٌ آخر، وأنا لديّ هذه القصيدة.

......

حتّى تاريخ كتابة هذا النصّ لم تتوصّل أجهزة الاستشعار في الفيزياء الحديثة إلى أجوبة مقنعة حول التأثير الذي أحدثتْه الأمواج الصوتية لكلماتِكِ في أذنيّ على الشعر في الشرق الأوسط

ويمكن أيضاً أنْ أحبّكِ بلا أسبابٍ مُقْنِعةٍ

أو أنْ ألتقيكِ قبل الرجل الذي لمسَ قلبَكِ بخمس دقائق، لو كنتُ أملكُ جواز سفرٍ معترَفًا به في تلك الأيّام

وقد لا أجد تبريرات لرجل الأمن في المطار حول نحولي عن الصورة في جواز السفر إلاكِ

جدّتي لم تتمتع بقدمين يمكن إطلاق "القدمين" عليهما. الحياةُ كانت قد استرجعت منها مفاصل ركبتيها. كانت تسير متألمة؛ تتدحرج مع كلّ خطوة. ذات يوم، لأول مرة شاهدت البطريق على شاشة التلفاز. قالت: أتوجعهنّ أقدامهنّ؟

قلتُ: لا.

قالت: إذاً، كيف يمشين مثلي يا يمّا؟ وضحكتْ.

مثل أجمل بطريق في القطب الجنوبيّ ضحكتْ.

جدّتي كانت مكتنزة وثقيلة الوزن، تجرّ خطواتها حين تسير. لعشرين عاماً، كانت تذهب كلّ شهرٍ لتسدّد ديونها للأطباء في شارع "سَنگي"، وتعود إلى البيت. وفي النهاية، تركت العالم بنقطة ضعفِه في علاج الركبتين والمفاصل وآلامها، ورحلت. ضحكت وذهبت إلى النوم.

جدّتي كانت تنهض بعناء. لم تشرب الماء إلى أن ينهض أحدٌ ما نحو حاوية الماء البارد، فيناولها كأساً. لكنّ هذه المرأة، في عزّ الحرارة الساخنة، كانت تذهب مشياً على الأقدام إلى "ظُلم آباد"، إلى "خشم تُركا"، إلى "هزار دسْتگاه"، إن كانوا قد أخبروها أن هناك مريضاً، أو أحداً قد تطلقت ابنته، أو أخذوا ابنه إلى العسكرية ولا يكفّ عن البكاء، أو قيل لزوج إحداهنّ في العمل إنه لا حاجة له بعد اليوم.

جدّتي كانت تأخذ حصّتها من آلام الناس، تذهب قبل أيّ أحد لتأخذها منهم، فلم تعد الركبتان، ولهيب الحرارة التي كان قد قيل في التلفاز في ذلك اليوم إنه قد يقتل البطاريق، أعذاراً وحججاً مانعة لها. ثمة وحيدٌ، ثمة من تتألم، وكان على العجوز أن تصل لها، وله.

حين قال غياث: "كلُّ قذيفةٍ تسقطُ على دمشقَ، إنَّمَا تُمَزِّق صفحةً من كتاب ديكارت"، شعرتُ أنه وحيدٌ، وعليّ أن أذهب لآخذ حصّتي من الألم. فهمت أنه قد جعل من ديكارت حجة ليوصل صوتَه هاتفاً أن المدفعيات أخذت تمزّق كتاب ديكارت ورقةً ورقة.

أفكّر أنه ليس أنا وحدي، بل كلّنا علينا أن نجلس على طريق كلماته، ليُصبنا رصاصُ خوف ذلك اليوم الذي نصبح مشرّدين مثله؛ يصيبنا الآن، في الجانب الأيسر من صدورنا، فيصل إلى أكتافنا، وأطراف كل اصبع في أيادينا، فتحسّ أسناننا بالوخز.

...

أتعرفُ لمَ يموتُ الناسُ حين تثقبهم رصاصة؟

لأن 70% من جسمِ الإنسانِ يتكوَّنُ من الماء

تماماً كما لو أنَّكَ تُحدثُ ثقباً في خزان ماء.

أكانَ اشتباكاً اعتباطياً يرقصُ في رأسِ الحارةِ حين مَرَرْتُ؟

- أمي وحدَها من عرفتْ أنَّني لن أعود،

أمي وحدها من عرفتْ

حزين جداً
لأن المدينةَ التي أسكُنُها لا تشبهُ المدينةَ التي تسكُنُنّي

كنتُ أبحثُ عن الفرقِ بين الثورةِ والحربِ عندما عبرتْ رصاصةٌ جسدي،

ذلك الثقبُ الصغير

المتبقي بعد مرورِ الرصاصة

أفرَغَ محتوياتي

لقد كانَ كلُّ شيءٍ يتسرَّبُ بهدوء

الذكرياتُ

أسماء الأصدقاءِ

فيتامين C

أغاني الأعراس

القاموسُ العربي

درجةُ حرارةِ 37

حمضُ البول

قصائدُ أبي نواس

ودَمِي.

الشابّ الذي يكون الدمُ آخرَ ما يخرج من جسمه حين يصاب بالرصاص، الشابّ الذي يقف طيلة النهار على أعلى هضبة تطلّ على دمشق في ستوكهولم، وينظر إلى انهيار السقوف، ورفاقه النازحين يشرئبون من أعماق البحر المتوسط، ثم يجلس في المساء لينسج الشعرَ بما رأى، لا يعمّر كثيراً. شاعر هذا الدّمار كلّه، هو أكبر مشاغب في الأدب. يضع حزن المشرّدين بيدٍ، وحزن المسجونين في وطنه بيده الأخرى، ويبذل ما بوسعه ليؤجّل انهيار روحه.

صديقه، فرج بيرقدار، قد قضى أربعة عشر عاماً من حياته في السجن، وهو قد جلس ليعدّ تلك الأيام، ما ذهب فيها وما بقي:

4979

ليس رقماً لحسابٍ سريّ

ولا ناتجَ مُعادلةٍ من الدرجةِ الثالثة

أؤكِّدُ لكم أنَّه ليسَ رقماً اعتباطياً مُجرَّداً من الحكمةِ

أو نتيجةَ مُصادفةٍ صَنعتها دواليبُ اليانصيب

إنَّهُ رقمٌ لزج

أنْ تكسبَ 4979 يوماً

يعني أنْ تخسرَ ثلاث عشرة امرأة غير مشروعةٍ

وسبعاً وثلاثين علاقة عابرة

وطفلين لم يولدا

أنْ تكسبَ هذه الـ 4979 يوماً

يعني أن تخسر 465 ألف و328 خطوةً في أزقةِ الشامِ القديمة

و114 مجلس عزاءٍ تم بغيابك

و13 ألف و712 زجاجة بيرة

ثلاثٌ منها فاسدة.

يعني ألا يفوتكَ الباصُ 271 مرة

وألا تربحَ ثمنَ ورقةِ اليانصيبِ إحدى عشرة مرة.

4979

يعني أنْ يفوتكَ كأسُ العالمِ ثلاثَ مراتٍ ونصف

وليلةَ رأسِ السنةِ أربع عشرة مرةً

وانهيارَ الاتحادِ السوفيتي مرةً واحدة

تخيلْ

مرةً واحدةً فقط.

(صوت غياث، ثم صوت إحسان): أُفكرُ بفلسطين، البلادُ التي اخترعتْ اللهَ فتسببتْ بسفكِ ملايين الأرواحِ بإسم الله، بلادُ الحليبِ والعسلِ، التي لا يوجدُ فيها لا حليبٌ ولا عسلٌ، البلادُ المقدسةُ، التي خُضنا من أجلها حروباً مقدسةً، وهُزمنا فيها هزائمَ مقدسةً، وهُجِّرْنَا منها تهجيراً مقدساً، وسكنا من أجلها في مخيماتِ لجوءٍ مقدسةٍ، ومُتنا من أجلها موتاً مقدساً… ولا زلت أتساءَل: أيُّهما أبعدُ عن الأرض؟ كوكب المشتري؟ أم حل الدولتين؟ أيهما أقربُ إلى روحي؟ جنديٌ من بلدي؟ أم شاعرٌ من أعدائي؟ ما هو أسوأُ شيءٍ قامَ به ألفريد نوبل؟ الديناميت؟ أم جائزةُ نوبل؟

تتّهمينَنِي بعدمِ الموضوعيةِ في قصائدي، حسناً، لم أكنْ موضوعياً طوالَ حياتي، لقد كنتُ دائماً منحازاً، وأكيلُ بمكيالَين، كنتُ منحازاً للسودِ أمام العنصرية، للمقاومةِ أمام المحتلّين، للميليشياتِ أمام الجيوش، كنتُ منحازاً للهنودِ الحُمرِ أمام الرجالِ البيض، لليهودِ أمام النازيّين، للفلسطينيّين أمام الإسرائيليّين، للمهاجرين أمام النازيّين الجُدُد، للغجرِ أمام الحدود، للسّكّانِ الأصليّين أمام المستعمرين، للعِلْمِ أمام الدين، للحاضرِ أمام الماضي، للنسويةِ أمام البطريركية، للنساءِ أمام الرجال، لكِ أمَامَ النساء، لكافكا أمام الروتين، للشعرِ أمامَ الفيزياء...

الفيزياء

لعنةُ اللهِ على الفيزياء

لماذا يغرقُ المهاجرونَ، وبعدَ أنْ يلفظوا أنفاسَهُم الأخيرة يطفونَ فوقَ وجهِ الماءِ؟

لماذا لا يحدثُ العكسُ؟

لماذا لا يطفو الإنسانُ حين يكونُ حيّاً، ويغرقُ حين يموتُ؟

حتّى في أسوأ كوابيسي، لم يخطرْ لي 
أنَّنِي في يومٍ من الأيّامِ.
سأقولُ في قصيدةٍ:
أغرقُ فيكِ، كما يغرقُ السوريّونَ في البحار

...

غرفتي وقعتْ بحبِّ حذائِكِ الأخضر.

أنا أغرقُ فيكِ، كما يغرقُ السوريّونَ في البحارِ.

يا إلهي

انظري إلى أين أوصلتْنا الحرب.

حتّى في أسوأ كوابيسي، لم يخطرْ لي

أنَّنِي في يومٍ من الأيّامِ.

سأقولُ في قصيدةٍ:

أغرقُ فيكِ، كما يغرقُ السوريّونَ في البحار.

المجزرة مجازٌ ميتٌ يأكل أصدقائي، يأكلهم بلا ملحٍ،

"يعبرون الجسر في الصبح خفافاً"، ويموتون خارج التغطية،

المجزرةُ تصحو باكراً، تحمّمُ أصدقائي بالماء البارد والدم، تغسلُ ملابسهم الداخلية وتعدُّ لهم الخبز والشاي

المجزرة أحنُّ على أصدقائي من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فتحتْ لهم الباب حين غُلِّقتْ الأبواب، ونادتهم بأسمائهم حين كانت نشراتُ الأخبار تبحث عن عدد الضحايا، المجزرة هي الوحيدةُ التي منحتهم اللجوء بغض النظر عن خلفياتهم، لم يهمها وضعهم الاقتصادي، لم يهمها إنْ كانوا مثقفين أو شعراء، إنها تنظر إلى الأشياء من زاوية محايدة

الوطن، في أيام العواصف والبارود، يحتاج إلى الشعراء أكثر من الأعلام. كلّ شيء ينفجر إلا قصائد الشعراء. حين يسقط الجنودُ والضباط، وحدهم الشعراء، باعثو الأمل، من يلفون الوطن بين القصائد والأغاني، فيبعدونه عن مرمى الرّصاص

غياث، شابّ حزينٌ ووسيم. من أولئك الذين يحتاج كلُّ قومٍ إلى بضعة منهم من أجل أيامه العسيرة؛ أيام السير الطائش في البحر المتوسط وأمواجه المتلاطمة، أيام التسكع في منحدر جبل قاسيون، والتسوّل بعلب الببسي كولا في أرصفة أوروبا حيث تفوح رائحة البول.

الوطن، في أيام العواصف والبارود، يحتاج إلى الشعراء أكثر من الأعلام. كلّ شيء ينفجر إلا قصائد الشعراء. حين يسقط الجنود والضباط، وحدهم الشعراء، باعثو الأمل، من يلفون الوطن بين القصائد والأغاني، فيبعدونه عن مرمى الرّصاص، كما أبعد غياثُ دمشقَ، وكما أبعد أحدُهم بيروتَ، وآخرُ من أبعد روما، وبرلين.

غياث المدهون غائب في دمشق بشكلٍ لا يمكن لأحد أن يكون فيها أكثر من هذا.

في الشمالِ، بالقربِ من سياجِ الله، مستمتعاً بالتطوّرِ الحضاري وسحرِ التكنولوجيا، وبآخرِ ما توصلتْ إليهِ البشريةُ من أساليبِ التمدن، وتحتَ التأثيرِ المخدرِ الذي يمنحهُ الأمانُ والتأمينُ الصحيُّ والضمانُ الاجتماعي وحريةُ التعبير، أتمدَّدُ تحتَ شمس الصيفِ كأنَّني رجلٌ أبيض، وأفكرُ بالجنوب.... وأؤلفُ قصصاً مزيفةً كي أُغطي على غيابي، وكيفَ أنَّني لا أستطيعُ الحضور.

***

نعم، لا أستطيعُ الحضور، فالطريقُ بين قصيدتي ودمشق مقطوعةٌ لأسباب ما بعد حداثية، منها أنَّ أصدقائي يصعدون إلى الله بتسارعٍ مُضطردٍ أعلى من سرعةِ مُعالجِ كمبيوتري.... وبعضها متعلقٌ بحوضِ السمكِ الذي لنْ يجدَ منْ يطعِمَهُ في غيابي.

ليس هذا ما يمنعني من الحضور، سأخبركَ الحقيقة، لقد أمسكتني دمشقُ مع امرأةٍ أُخرى في الفراش، حاولتُ أنْ أُصلحَ الموقف، وأنَّ ما جرى نزوةَ ليس إلا، وأنَّها لن تتكرر، أقسمتُ بكلِّ شيء، بالقمر، بالألعابِ النارية، بأصابعِ النساء، لكنَّ كلَّ شيءٍ كانَ قد انتهى، فهربتُ إلى الشمال...

إنَّ غيابي مصادفةٌ مخططٌ لها بعنايةٍ بالغة...

أقسمُ... أنَّ تصريحَ الإقامةِ في أوروبا قد يباعد ما بيننا وبين الموتِ بالرصاص، لكنَّه يقاربُ ما بيننا وبين الانتحار

***

ليس هذا ما يمنعني من الحضور، سأخبركَ الحقيقة، أنا ميِّت، نعم، لقد توفيتُ منذ عدةِ سنوات…

يقتلونَ الغابةَ

يرتكبون المجزرةَ في وضحِ النّهار

مسلَّحينَ بالفؤوسِ…

المزارعون.

يشقّون اللّحمَ الآدميّ

ويستنشقون بُخارَ الماءِ المالح

حين ينتفضُ الدّمُ الساخن…

الجرّاحون.

يتقلّدون الأوسمةَ…

الجنود.

ينامون وحيدين

ويأكلونَ وحيدين

ويمارسون الجنسَ وحيدين…

المشاهير.

يكذبون...

الشعراء.

يفعلنَ كلَّ شيء

يرتّبن كلَّ شيء

يعملن كلّ شيء

ينفخن الحياةَ في كلّ شيء

يصبرن على كلّ شيء…

النساء.

يحصدونّ كلَّ شيء…

الرّجال.

يحبّونكِ…

أنا.

ما أجملَ الحياة

لو أنّ في جيبي هويةً شخصية

أسافر بها إلى أمّي في درعا

لو أصحو من النّوم

فأجدُ نفسي بدوياً في صحراء ما

مع قليلٍ من التنباك

وكثيرٍ من الحرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard