شيوع الأخبار حول تناقضات داخل معسكر الرئيس التونسي قيس سعيد ليس جديداً. خلافات الرئيس مع أركان نظامه منذ صعوده إلى رأس السلطة لا تتوقف، حتى أنها بلغت الإدارة الرئاسية وتجلت في استقالات عدّة قدمها مستشارون، وصولاً إلى الخروج الغامض لمديرة الديوان الرئاسي، نادية عكاشة، بداية العام الحالي، بعد أن كانت أكثر الشخصيات قرباً من الرئيس.
لكن التناقض الجديد بين سعيد وجزء مهم من الجهاز الأمني، تمثله النقابات الأمنية، ليس مجرد شائعةً، بل خلاف معلن لا أحد يدري كيف وإلى أين سينتهي، في ظل غموض سياسة الرئيس، وما يبدو أنه مواقف متصلبة من قيادة هذه النقابات.
الواضح حتى الآن من طبيعة هذا الخلاف، أو الصراع، أنه يدور على أرضية صراع النفوذ وليس له علاقة بخطاب "إصلاح الجهاز الأمني" الذي نسمع به منذ الثورة ولم نرَ منه شئياً، ولا على أرضية خطاب الحريات، الذي ينادي به المجتمع المدني في ظل ممارسات الجهاز الأمني ودفاع النقابات عنها.
في العاشر من آب/ أغسطس الماضي، دعا الرئيس التونسي في مقابلة مع وزير الداخلية إلى "توحيد نقابات الأمن الداخلي في هيكل واحد يقوم على أساس الانتخاب ويقتصر على الجوانب الاجتماعية دون سواها"، مذكراً بأنه تقدّم بهذا المقترح منذ سنة 2012 لإنشاء هيكل نقابي موحد هو الاتحاد العام التونسي لقوات الأمن الداخلي.
كلام الرئيس جاء بعد يومين من هجوم قامت به عناصر نقابية أمنية ضد ممثل كوميدي على مسرح مدينة صفاقس. ومع ذلك لم يفوت الفرصة في المقابلة نفسها للتنويه بـ"الجهود التي تبذلها قوات الأمن للحفاظ على الأشخاص والممتلكات، وللحفاظ أيضاً على حرية التعبير".
لكن ذلك التنويه لم يمنع النقابات الأمنية من إبداء رد فعل قوي ضد دعوة سعيد إلى "إنشاء هيكل نقابي موحد". في اليوم نفسه، أصدرت نقابات عدة بيانات معارضة اعتبرت فيها أن الدعوة الرئاسية إلى التوحيد "محاولة لتركيعها"، لترد وزارة الداخلية على هذا الموقف النقابي بعد أيام من خلال إعلانها ''اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد بعض أعوان الأمن من المنتسبين إلى النقابات الأمنية من تجاوزات تمس بالسير العادي للعمل وواجب الانضباط والجدية وتتبعهم تأديبياً وجزائياً.''
النقابات وتسييس الوظيفة الأمنية
تأسست أولى النقابات الأمنية أياماً قليلةً بعد هروب الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين علي عام 2011. كان ذلك أول رد فعل أمني ضد الثورة التي كانت الممارسة القمعية للأجهزة الأمنية أحد دوافعها الرئيسية. في ذلك الوقت، غيّر الخوف معسكره. ساد جو من الرعب في صفوف العناصر الأمنية، وسط حالة من الفوضى وإحراق مراكز الشرطة ومطالب ذوي الشهداء والجرحى بمحاسبة القتلة.
في هذا السياق، بدأت العناصر الأمنية في تنظيم نفسها، بعد أن تخلت عنها العناصر الإدارية في وزارة الداخلية. وبعد استقرار الأوضاع، أصبحت هذه النقابات أحد مراكز القوة داخل الأجهزة الأمنية، في دولة قامت منذ استقلالها، في نموذجها السلطوي، على قوة الجهاز الأمني بوصفه مركز القوة الأول في البلاد، ويظهر ذلك بوضوح في كثرة وتعدد هذه الأجهزة: الأمن العمومي، المصالح المختصة (المخابرات الداخلية)، الأمن الخارجي، الحرس الوطني (جهاز أمني ذو طبيعة عسكرية)، فرقة مكافحة الإرهاب. وكل جهاز من هذه الأجهزة لديه فرع تحقيق وجهاز إداري وعناصر ميدانية. لكن كل هذه الأجهزة تُقاد بشكل مركزي من وزارة الداخلية، وتحديداً من إدارة الأمن الوطني. وداخل الوزارة نفسها، توجد أجهزة ذات طبيعة غير أمنية مثل الدفاع المدني، والجماعات المحلية، كالبلديات والولايات (المحافظات)، أي أنها تسيطر منفردة على الجزء الأكبر والأهم من الجهاز البيروقراطي للدولة. هذا الاتساع جعلها دائماً مصدر صراع منذ عهد بورقيبة وصولاً إلى اليوم.
"يدور الصراع بين قيس سعيد والنقابات الأمنية على أرضية صراع النفوذ، وليس له علاقة بخطاب ‘إصلاح الجهاز الأمني’ الذي نسمع به منذ الثورة ولم نرَ منه شئياً، ولا على أرضية خطاب الحريات الذي ينادي به المجتمع المدني"
في المطلق، لا يمكن الحديث عن فصل بين السياسة والجهاز الأمني، باعتبار هذا الجهاز جزءاً رئيسياً من أدوات السلطة السياسية في السيطرة على السكان والمجال. لكن في المقابل، من الوجاهة الحديث عن الفصل بين الأحزاب السياسية والجهاز الأمني. تؤكد المنظمات النقابية على استقلاليتها دائماً وخاصة على استقلاليتها تجاه الأحزاب، مما يمكّنها من إدارة تنوع أعضائها، بشكل مستقل عن آرائهم السياسية.
في دراسة حول علاقة نقابات الشرطة بالسياسة، يذهب الباحث الفرنسي في العلوم السياسية بنجامين بابيون إلى أنه من التبسيط للغاية النظر في العلاقة بين النقابات والسياسة فقط من خلال الخطاب الذي تنقله المنظمات النقابية. في الواقع، لفهم التعقيد الكامل لعلاقة النقابات الأمنية بالسياسة، من الضروري الاهتمام بالممارسات الفردية والجماعية التي تكشف عن علاقة متناقضة بالسياسات الحزبية. وينعكس هذا بشكل خاص من خلال الميول السياسية الواضحة للكثيرين من النقابيين، خاصة بين عاميْ 2011 و2021، إذ أظهر العديد من القيادات النقابية مواقف مساندة أو معارضة لقوى سياسية في السلطة أو في المعارضة.
ويشير بابيون إلى أنه يمكن أيضاً تحليل العلاقة بين النقابات الشرطية والمجال الحزبي من خلال عكس التركيز: كيف تسعى الأحزاب السياسية إلى كسب الجهاز الأمني من خلال النقابات المهنية؟ فقد كان واضحاً أن الأحزاب المتحدرة من النظام القديم كانت دائماً داعمةً لمطالب النقابات الأمنية، لجهة التقارب بينهما في الحنين إلى الدولة الأمنية التي سقطت في 2011 نسبياً.
جذور التناقض
قبل انقلاب 25 تموز/ يوليو بأشهر قليلة، قال الرئيس التونسي إن رئيس الجمهورية ليس القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية فحسب، وإنما هو أيضاً القائد الأعلى لكل القوات المسلحة، العسكرية والشرطة والجمارك. كان كلام سعيد في سياق صراع دائر بينه وبين رئيس حكومته هشام المشيشي حينذاك، ومن ورائه حركة النهضة. وخلال احتفال جمعه بعدد من القيادات الأمنية، أكد أن "رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية. فليكن هذا الأمر واضحاً بالنسبة إلى كل التونسيين في أي موقع كائن... لا أميل إلى احتكار هذه القوات لكن وجب احترام الدستور".
ثم جاءت لحظة الانقلاب، والتي أثبت فيها سعيد أنه فعلاً قائد للجيش والشرطة معاً، فقد نجح في تحييد خصومه قسراً اعتماداً على ولاء ومساندة الجيش والأجهزة الأمنية، رغم المساندة الشعبية الواضحة له في ذلك الوقت. ثم شرع في إجراء تغييرات جوهرية داخل الوزارة قبل أن يعيّن رئيساً للحكومة، من خلال تعيين مستشاره الأمني رضا غرسلاوي لتسييرها. وفي اليوم نفسه، أقال المدير العام للمصالح المختصة (المخابرات) الأزهر لونقو، من مهماته، ووضع مكانه محمد الشريف. وجرت كل هذه التغييرات وسط رضا النقابات الأمنية. في الوقت نفسه، كان الرئيس يلوّح بمحاسبة الفاسدين والذين أجرموا خلال العشرية الماضية، دون أن يتحدث ولو لمرة واحدة عن انتهاكات الجهاز الأمني خلال هذه العشرية في عهد حركة النهضة وحركة نداء تونس، في ما كان مؤشراً واضحاً على أن العناصر الأمنية استعادت ثقتها وسطوتها في الفضاء العام بعد الانقلاب.
"الطبيعية الفردية الشخصية للنظام التونسي الجديد، ذات شهوة لا تتوقف، ولها من مركزية الشخصنة ما يجعلها تريد فرض فرديتها على الأجهزة الأمنية، إذ سيكون من المستحيل إقامة نظام رئاسوي شديد التمركز حول الرئيس دون وضع جميع هذه الأجهزة في يد سلطة الفرد"
خلال عام كامل، كانت أجهزة الدولة العنفية (الجيش والأمن) المساند الأبرز للرئيس سعيد في مسار بناء نظام سياسي يقوم على "الرئيس الفرد"، وكان هذا الإسناد واضحاً في معركته مع القضاء وأكثر وضوحاً في قمع أي حراك معارض في الشارع، وعلى نحو لامرئي في تكثيف وظائف المراقبة والعقاب.
لكن هذه الطبيعية الفردية الشخصية للنظام الجديد، ذات شهوة لا تتوقف، ولها من مركزية الشخصنة ما يجعلها تريد فرض فرديتها على هذه الأجهزة، إذ سيكون من المستحيل إقامة نظام رئاسوي شديد التمركز حول الرئيس دون وضع جميع هذه الأجهزة في يد سلطة الفرد. فقد دأبت القيادات العليا في وزارة الداخلية منذ 2011 وحتى 2021 على السعي إلى الدفع بتعدد النقابات الأمنية، كي تنجح في السيطرة عليها، أو في أقل الأحوال سوءاً كي لا تجعل منها قوة يمكن أن تهدد مركزية القرار الأمني. كان ذلك متناسقاً مع طبيعة النظام السياسي الذي يتميز بتشتت السلطة بين قوى متفرقة. أما اليوم، وفي ظل نظام سياسي تتجمع خيوطه المركزية في يد شخص واحد، يسعى الرئيس إلى تجميع هذه النقابات داخل هيكل واحد كي يسهل عليه السيطرة عليها، وتالياً ينجح في مركزة القرار الأمني دون منغصات.
الطابع الشخصي للسلطة
على أهميته، لا يتعلق الأمر فقط بالجهاز الأمني، عند الحديث عن محاولات الرئيس سعيد إضفاء الطابع الشخصي على النشاط العام. يسود هذا الطابع في سياسات الرئيس من خلال القوة الكاريزيمة والعلاقات الشخصية التي يحافظ عليها مع أعضاء الإدارة، لا سيما وزير الداخلية، أحد أصدقائه قبل السلطة.
في دراستها الرائدة حول "الشعبوية الاستبدادية"، تفسر الباحثة الفرنسية في العلوم السياسية، والمتخصصة في شؤون أوروبا الشرقية، ألكسندرا غوجون هذه الظاهرة بغياب القواعد المؤسسية التي تنطبق بشكل منصف على النخبة الحاكمة. يعتمد النظام السياسي السلطوي/ الفردي، دائماً على حسن نية الرئيس الذي ينظم الحياة السياسية من خلال الإدارة الشخصية للموظفين السياسيين واستخدام المراسيم كمصدر أساسي للشرعية، وهكذا تصبح سلطة الرئيس أقرب إلى "السلطنة"، كما يعرفها ماكس فيبر بوصفها "الهيمنة التي تتحرك بشكل رئيسي في مجال تعسفي".
وترى غوجون التي كانت تشتغل في سياق تحليل ظاهرة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أن القرارات السياسية المهمة ومهام الوزراء، تقوم في الواقع على الإرادة الحرة للرئيس، الذي من مصادر شرعيته ما يسمى بمعرفته بمصالح الشعب. ومفهوم التعسف لا يعني أن كل النشاط السياسي يخضع لسيطرة الرئيس، بل يعني أنه في جميع الأحوال يمكنه التدخل في تنظيمه وسلوكه بتعديل تعسفي لقواعد اللعبة.
هذا التعسف الرئاسي/ الطابع الشخصي للسلطة، هو الذي دفع الرئيس للدعوة إلى توحيد النقابات الأمنية ضمن هيكل نقابي واحد، معيداً التذكير بمقترح له في هذا الشأن كان قد طرحه منذ عشر سنوات، شأنه شأن الدستور الذي طرح أبرز ملامحه قبل عشر سنوات وعاد من بعيد لتحقيقه.
وهنا، يتجلى الجانب الشخصي في طبيعة إدارة الرئيس سعيد للدولة، إذ تتفوق رغباته وأفكاره ومقترحاته، حتى القديمة منها، على الواقع الموضوعي المتغير بشكل واضح وتفرض نفسها. كما يبدو الجانب الشخصي في ممارسة السلطة أكثر وضوحاً – وفقاً لألكسندرا غوجون من خلال تقييم المسؤولية الفردية للرئيس في مجالات العمل المختلفة، حيث يُظهر الرئيس بانتظام مشاركته الشخصية في حل المشكلات المجتمعية، مما يعمل على تعزيز حجته الشعبوية وشرعيته الكاريزمية.
كما تشير غوجون إلى أن علاقات القوة داخل الإدارة الرئاسية تظل سرية نسبياً لأنها تكشف عن القضايا المطروحة في صنع القرار السياسي، وهذا واضح في تونس لجهة غياب المعلومات من خلال رفض الرئيس إجراء مقابلات صحافية أو وجود ناطق رسمي باسم الرئاسة. وفي المقابل، تحولت الإدارة الرئاسية إلى نوع من حكومة مزدوجة أشبه بالمكتب السياسي للحزب في الأنظمة الشمولية، فهي المكان المفضل لتجربة إضفاء الطابع الشخصي على النشاط السياسي.
وفي حالة الرئيس سعيد، يظهر الطابع الشخصي للسلطة أيضاً في صراعات كثيرة مع أفراد من جهازه الإداري لعل أبرزهم رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي، الذي كان مستشاراً قانونياً لسعيد ثم عيّنه رئيساً للحكومة، وكذلك مديرة الديوان الرئاسي السابق، وهم يمثلون كبش فداء في عملية تبرير فشل السياسات. وهي استراتيجية كانت شائعة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، تحت شعار "الرجال الذين خانوا ثقة الرئيس"، من خلال عزل الوزراء والمسوؤلين لتبرير الفشل أو الخشية من الهبّات الشعبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم