شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
البحث عن شيء من الأمل الخجول...

البحث عن شيء من الأمل الخجول... "احتضار الفرس"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 8 سبتمبر 202203:33 م

رواية "احتضار الفرس"، رسالة عزاء مطولة كتبها خليل صويلح في محاولة للتخلّص من الموت؛ تقرير مطوّل عن مآسٍ لا يبدو أنها ترضى بالتوقف عند حدٍّ ما، لم يكتبه صويلح فضحاً لواقع الحرب في سوريا الذي صرنا رغما عنّا نعرفه ونشاهد فظائعه كل يوم إلى درجة التعوّد عليه، بل كتبه شهادةً سردية بحسّ استثنائي لن تحسن نقلَها إلينا التقارير الصحافية والإخبارية المصوّرة كما فعلته هذه الرواية؛ سردية تفرض على قرائها من أوّل سطر، أن يدخلوا نفقاً مظلماً، لا هداية لهم فيه إلا أصوات الموتى وصراخ البائسين وعويل المشردين من أرضهم، وأحياناً، أحياناً فقط، أصوات أملٍ خافت بالكاد يسمع داخل الـ159 صفحة المشكلة لهذا العمل الصادر مؤخراً عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.


بطل الرواية

لعب بطل الرواية/الراوي دور الملتقط البصري الذي من خلال مشاهداته، سواء في رحلته لزيارة قبر أمه بعد بلوغه خبر وفاتها، أو في رحلته المراتونية إلى دمشق، يرجع بنا إلى أحداث مأساوية تعصف بالعقل السويّ،؛ مشاهد مرعبة، اغتيال مبرمج للعقل، طعن مفضوح بل ومشرعن أيضاً لحضارة تكاد تكون أقدم من القدم، التقاط بصريّ وظف فيه خليل صويلح بتكثيفٍ واحترافيةِ تمكِّنه الواضح من أسلوب الكتابة الصحفية المعتمدة على الجملة الأدبية المتقنة.

هي رسالة عزاء مطولة كتبها خليل صويلح في محاولة للتخلّص من الموت، أو تقرير مطوّل عن مآسٍ لا يبدو أنها ترضى بالتوقف عند حدٍّ ما... رواية "احتضار الفرس"

يسافر بطل "احتضار الفرس" إلى قريته بعد بلوغه خبرَ موت أمه، تماماً كما فعل بطل "الغريب" لألبير كامو، لكن الفرق بينهما، أن الأول سافر لزيارة قبر ناءٍ فحسب، أما الثاني فسافر لدفنِ أمّه، فقد قررت المشيئة ألا ينعم حتى برؤية وجهها قبل أن يواريها التراب، لم يشارك في تكفينٍ أو غسل أو دفن، لم تتح له حتى فرصة البكاء وأخذ العزاء في كائن ارتبط به رغم المسافة والنأي الإجباري الذي جعله لا يرى أمّه لسنوات طويلة بسبب الحرب.

خليل صويلح

أما بطل كامو فقد كان أكثر حظاً منه، حيث حضر جنازتها التي لم يرتّبها بنفسه، ومُكّن من فرصةٍ لرؤية وجهِ أمِّه، لكنه امتنع، وأعطيَ فرصة للحداد والحزن والبكاء، ولكنه لم يفعل. ربما كان ذلك جانباً يسيراً من عدالة السماء، عادلة حتى في ظلمها.

أجاد خليل صويلح في فقرات قليلة التمييزَ بين بطله وبطل كامو، ولعلّ هذا ما جعله يستحضره في نصه، ليقينه أنهما مختلفان، وأن علاقة بطله بأمّه هي علاقته بوطنِه، سوريا؛ علاقة حب استحالت بسبب الموت ولكنها تصرّ على البقاء، حميمية تقمعها الحربُ لتفرضها رغماً عنها الذكرياتُ، أمل ينبت في صدر بالكاد يسمع نبض قلبه، كوردة تنبث تحت آلاف الجثث، وهي علاقة بلا شك لا تشبه في شيء علاقةَ بطلِ كامو بأمِّه الباردة كقطعة جليد.

يبث خليل صويلح رغم سوداوية روايته "احتضار الفرس" شيئاً من الأمل الخجول المتواري خلف آلاف الجثث، المختبئ في أكثر زوايا القبر ظلمةً، وهو يقرّ بداية من العنوان أن الفرس لم تمت بعد، ربما هي تحتضر ولكنها لم تمت 

هذه العلاقة التي أجاد صويلح رسم معالمها منذ بداية النص ليست بهذه البساطة، إنها تتعدى إلى روح تحالفت الحرب واللامبالاة في اغتيالها، وإن لم تنجح في ذلك بعد، ما دام ثمة ذاكرة وتاريخ يحفظان وجوهَ من قتلوا، يملكان القدرة على توزيع الأيادي المبتورة والرؤوس المقطوعة على جثث وصلت ذويها لتُدفن بلا أيادٍ ورؤوس. ذاكرة تستحضر شعراءَ وكتاباً ورسامين قتلوا أو انتحروا أو اندثروا بسبب الحرب والموت المنظم والمتعدد، لتعيد بعث أمة لا تكتفي الحرب بقتل أفرادها، بل تسعى لمحوها أيضاً من الذاكرة بسرقة آثارها أو تدمير معالمها.

بعض من الأمل الخجول

يبث خليل صويلح رغم سوداوية روايته "احتضار الفرس" شيئاً من الأمل الخجول المتواري خلف آلاف الجثث، المختبئ في أكثر زوايا القبر ظلمةً، وهو يقرّ بداية من العنوان أن الفرس لم تمت بعد، ربما هي تحتضر، ولكنها لم تمت بعد، وثمة أمل في استمرارها على قيد الحياة؛ فتمثال المعري الذي اختفى رأسُه وتمّ تشويهه باسم دينٍ لا يقول بذلك، ليس هو أبا العلاء الذي لا أحد بمقدوره شطبُ اسمه من التاريخ، والرسامة التي انتحرت باقية رغم موتها ولو بلوحة بومة يتشاءم منها الناس..

ربما تكون رواية "احتضار الفرس" رواية بحثٍ غير مجدٍ كالذي خاضته رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو، وعودة إلى أصول ما، لكنها لم تخض في البحث عن أشباح لا يقين على وجودهم، كما أنها ليست بحثاً عن أصلٍ غامض وضبابي؛ إنها رواية بحث عن الضمير الصامت بحياء لا معنى له، بحث عن حياة موجودة خلف سياج الموت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image