يندرج المقال في ملف "تحت العريشة" من إعداد وتحرير زينة قنواتي
في كل مرّة، ترى أمي عريشة ورق عنب في طريق ما في ألمانيا، تقفز وهي تردد: “يسعد الله... يسعد الله".
تقف وتقطف ما تستطيع، ثم تمضي سعيدة ولو حصلت على ورقتين فقط. كنت أخاف أن تُتهم يوماً بسرقة أوراق عريشة أحدهم، فأبعدها ولكنها تعود وتقترب.
لم أكن أفهم تماماً لماذا تفرح أمي لهذا الحد بورق العريش، تفرح فرحة من وجد مثلاً ألف يورو على الأرض صدفة.
هنا في ألمانيا لا يعطي الألمان أي اهتمام للعريشة سوى أنهم يجنون العنب منها، أما الورق فمصيره الإصفرار، على عكس الأتراك الذين يزرعونها تحت شبابيكهم.
عند وصولي إلى ألمانيا لم تكن المحال العربية قد افتتحت كما هي الآن، فكان الحصول على طبق "ورق عنب بالعصاصيص" أمنية صعبة المنال.
لم أكن أفهم لماذا تفرح أمي لهذا الحد بورق العريش، تفرح فرحة من وجد مثلاً ألف يورو على الأرض صدفة
بدأ السوريون استئجار مزارع صغيرة من البلديات في أطراف المدينة، زرعوها بالعرائش والجرجير والنعنع والبقدونس، منهم من زرعها كوسا سورية صغيرة وخياراً بلدياً.
وأصبح لكل عائلة تقريباً مكان أخضر تنزوي فيه من صخب الغربة.
النباتات هنا هي صديقة الغريب، وعلى الرغم من امتداد المساحات الخضراء حول ألمانيا نبحث عن مساحاتنا المعتادة التي تحفر في ذاكراتنا، نبحث عن نبتة "السجادة" أو "الكاليوس" التي كانت قد لا تخلو منها شرفة في شوارعنا، يبحث عنها أبناء جلدتنا بنهم ويحوطون بها الشبابيك، ويفتقدون" الياسمين"، لأنها نبتة من الصعب أن تنمو بجو بارد مثل جو ألمانيا.
الكاتبة "تغريد دوّاس" تقلم العريشة التي وجدتها في حديقتها في ألمانيا.
كانت جدتي "هند" تملك شرفة كبيرة تمتد حول المنزل من أربع جهات، تطل على شارع عام في مخيم اليرموك، تحيط بالشرفة أحواض الزريعة والورد الجوري والياسمين.
ترفع جدتي فستانها مرتين في الأسبوع وتثني بنطالها الداخلي وتحمل خرطوم المياه من آخر البيت حتى باب الشرفة لتسقي زريعتها، لم أتذكر مرة أنها سمحت لأي أحد منا نحن الأحفاد أن يخطو صوب باب الشرفة، التي كانت مكانها الخاص.
بعد وفاة جدتي وهجرتنا، اكتشفت أنها كانت قد دفنت في أحواض الزريعة أجنتها التي أجهضتهم على مر السنوات.
بعد وفاتها وهجرتنا اكتشفت أنها كانت قد دفنت في أحواض الزريعة أجنتها التي أجهضتهم على مر سنوات. فكانت الأحواض تعني لها أكثر مما تبدو عليه.
أمي التي تركض خلف العرائش والنباتات هي ابنة "هند" التي كانت تعامل ورودها بمطلق الحنان، تحدثها مع فنجان القهوة وتشتاق لها وتحفظها وردة وردة وغصناً غصناً.
ماتت جدتي وقصفت شرفتها بما فيها، وأصبحت أمي وحيدة في بلاد لا تملك فيها شرفة، لكنها تلهث خلف الأحواض، تجمع الورورد على ضفاف الشبابيك.
أكاد أجزم أن لكل واحد منا على الأقل نبتة بدأ بتربيتها منذ استقراره الأول هنا، واحد منا على الأقل حاول أن يزرع فلفلاً أخضر أو عريشة أو نعنعاً في مطبخه.
لأن النباتات تشبهنا بطريقة ما، إنها الشيء الحي الذي يحاول التعايش مع الأمكنة الجديدة والظروف الجديدة، تفرح وتحزن وتعبر بصمت مبالغ فيه. فإن وضعتها بزاوية لم تعجبها أسدلت أوراقها وإن فرحت تبدو وكأنها تغني.
قبل عامين استأجرت حديقة من البلدية بجانب منزلي، حديقة مهجورة منذ عشرات السنين، نصحني الموظف المسؤول أن أتركها لأنها قد تحتاج عامين من العمل لتصبح حديقة لكنها كانت الأكبر والأقرب فأخذتها. كان نبات القريص ينمو فيها لدرجة أنه أطول مني ولا معلم من تفاصيلها واضح ولا مساحتها حتى، بدأنا نعمل بها ونلتقط حشرات القراد من ثنايا أجسادنا ونقص ونحرث حتى وصلنا لحائطها فوجدنا المفاجأة.
صورة للعريشة التي وجدتها الكاتبة "تغريد دواس" في حديقتها في ألمانيا
عريشة ممتدة بشكل عشوائي لأكثر من ثمانية أمتار! عندها لا أعرف كيف بدأت أقفز، شيء ما جعلني أشعر كأنني وجدت كنزاً.
عريشة ورق عنب أخضر في حديقتي من زرعها ربما يكون بعمر جدي.
لورق العريش حالة مميزة في بيوتنا.
منذ دخوله للمنزل وهو في الصناديق الخشبية "السحارات" إلى عملية تنظيفه من العيدان، وجمعتنا حول الشرشف ومن ثم سلقه و طبخه.
بدأنا نتعامل معها بحرص مبالغ به، نقص حولها ولا نقترب منها، نرفعها بعناية، وإن أرادت قبلتها لا مشكلة لدي، المهم أن تبقى سعيدة ومرتاحة.
فجأة عادت لي ذاكرتي، أن ورق العريش لا يشكل لنا فقط ورقة تطبخ بطبق مميز شهي، بل أكثر من ذلك، لورق العريش حالة مميزة في بيوتنا.
منذ دخوله للمنزل وهو في الصناديق الخشبية "السحارات" إلى عملية تنظيفه من العيدان، وجمعتنا حول الشرشف ومن ثم سلقه وتفريزه أو طبخه.
حالة من الألفة والجو العائلي، فمن الممكن أن من يشتهي طبق يبرق هنا يشتهي ما هو أبعد من ذلك.
ركضته من باب البيت نحو المطبخ، سرقة أصابع اليبرق وأكلها وهي ما زالت تغلي.
خطوات أمّنا وهي تحمل صحناً صغيراً فيه منه: "حبيبي ماما يرضى عليك شفلي الرز استوى".
تكمن طبخة اليبرق في دفئها وزيارة خالتك الصباحية لتساعد بلف الوليمة.
لا يعرف الألمان بشكل عام طبخة اليبرق وفي المرة الأولى التي اخذت فيها صحن "سكبة" لجاري إيركا وفرانك. ظهرت على وجهيهما ملامح إعجاب وقالا لي: "كيف خطر في بالكم أن هذا الورق يوضع فيه أرز ولحمة ويلف ويطبخ". اليوم تجلس إيركا على طاولتي وتلف اليبرق.
حكى لي صديقي بسام، عن المرة الأولى له في ألمانيا عندما حاول لف الورق، لم يستطع، فاخترع طبخة جديدة في الصينية.
فرد اللحمة والعظم ومن ثم ورق العنب ثم الرز واللحم ثم طبقة ورق وطبخها في الفرن، كان سعيداً بقدرته على خلق طعمة مماثلة لطبق أمه، بينما آخرون استغلوا معرفتهم بلف السجائر و"الجوينتات" وبدأوا يطبقون الطريقة بحرفية على ورق العريش، ونجحوا بذلك.
في المرة الأولى التي أخذت فيها صحن "سكبة" من اليبرق لجارَي الألمانيين. ظهر عليهما الإعجاب وقالا: "كيف خطر في بالكم أن هذا الورق يوضع فيه أرز ولحمة ويلف ويطبخ". اليوم تجلس جارتي إيركا على طاولتي وتلف اليبرق
اليوم نحن في ألمانيا لسنا بحاجة للمونة، يتوفر ورق العريش في المحال التركية والعربية بأسعار مناسبة.
وفي دمشق يبدو أن طقس المونة بدأ يندثر، فمن سيجازف بأربعة رواتب ليشتري مونة ويضعها بثلاجة بلا كهرباء؟!
لكنه كطقس ما زال عالقاً في رؤوسنا، يأخذنا نحو البيت وهو مفروش بملاءات بيضاء عليها الملوخية الخضراء والنعنع والبازيلا والفول.
نعصر الليمون، نجفف الفلفل الأخضر والأحمر، نفرد المربيات على الأسطوح ونعصر الطماطم.
نعلق باقات الثوم الأخضر على الشرفات بجانبها الباذنجان المجفف والبامية
تربطتنا علاقة غريبة بالنباتات والخضراوات وتذهب لما هو أبعد من طعمات ونكهات بل تدخل أيضاً بالأغاني الشعبية والغزل والحب والتخفي البريء.
غنت فيروز:
تحت العريشة قعدنا سوى
وقلنا
كرم المحبة استوى
وخبى منازلنا
//
يا كرم العلالي عنقودك لنا ويا حلو ياغالي شو بحبك أنا
أما شريفة فاضل فقد غنت: ورق العنب ضلل على شباكنا، اللي قصاده جدع حليوة شبكنا
نحن نحب العنب وزبيبه ودواليه ورمزياته وأغانيه وذكرياته وعند أول ورقة نلفها، تتحول أيدينا لأيادي جداتنا وأمهاتنا وتسكن المنزل روائحهن فيحضرن بكامل الذكريات.
وهناك أيضاً أغنية فيلم أنا وبناتي للجميلة هند رستم:
بيت العز يا بيتنا
على بابك عنبتنا
لها خضرة وضليلة
بترفرف على العيلة
وبتضلل
يا حليلة يا حليلة
نحن نحب العنب وزبيبه وأوراقه ودواليه وفيئه ورمزياته وأغانيه وذكرياته وعند أول ورقة نلفها، تتحول أيدينا لأيادي جداتنا وأمهاتنا وتسكن المنزل روائحهن فيحضرن بكامل الذكريات.
أضع الطنجرة على الغاز فتحضر ضحكة جدتي وهي تقول : "إنت وجهك لف يبرق؟؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...