شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"كل شي فوق راسي"... أنا البنت الكبرى في العائلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن وحرية التجمع

الاثنين 22 أغسطس 202201:18 م

نحن الأبكار لنا قصةٌ مختلفة خاصة، فعندما وُلدنا غيّرنا كل شيء من حولنا، وانقلبت حياة والدينا رأساً على عقب، ربما قرأوا بعض الكتب حول تربية الأطفال، وربما أخذوا بعض النصائح من أقربائهم أو أصدقائهم ممن سبقوهم إلى عالم الأطفال والتربية.

لكنّ كل هذا في حقيقة الأمر لا يعني شيئاً، الحقيقة أنّ معظم الآباء والأمهات لم يكن لديهم أدنى فكرة عن تربية الأطفال وعمّا يجب عليهم عمله مع هذا الكائن الصغير المستجد على الحياة، فالتربية أشبه بتعلم الطهو من كتاب الطبخ، وأول طبخة لن تكون لذيذةً بالطبع.
ليس بالضرورة أن تكون مثقفاً لتعلم عن فضل الوالدين، فـ"الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق"، و"بالوالدين إحسانا"، و"الجنة تحت أقدام الأمهات"، لكن السرديات الأدبية والدينية لم تقل أو توثق -على الأقل تلك التي قرأتها- أي مقولات تمجد الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى، وإن كانت بعض التلميحات موجودة في بعض الزوايا فإنها لا تُضاهي مديح الأب والأم، حتى الكتب السماوية مرت بهما مرور الكرام. 

الطفل الأول كالطبخة الأولى، لا بدّ أن تحترق قليلاً

تقول سهام (26 عاماً) وهو اسم مستعار لمرشدة نفسية تخرجت من جامعة تشرين في اللاذقية: "قمتُ بمراجعة ما تكرّمت به ذاكرتي عليّ من أحداث الطفولة، ويمكنني القول بصفتي الطفل الأول في العائلة، بأنّ تربيتي كانت مزيجاً من الغريزة والتجربة والخطأ، وقادتها العاطفة لا العقل، فقد كان القلق يعتري أبي وأمي بأن يكونا في قمة القلق والتوجس، أو أن يفشلا في تربيتي، أو أن يكونا أبوين سيئين، لذا كانا يفرطان في وضع القواعد الصارمة".

نحن الأبكار لنا قصةٌ مختلفة خاصة، فعندما وُلدنا غيّرنا كل شيء من حولنا، وانقلبت حياة والدينا رأساً على عقب

لا تزال سهاد تتذكر كلمات أمها حين أخبرتها أنها قد حصلت على تسع درجات وثلاثة أرباع الدرجة من أصل عشرة في اختبار الرياضيات، تقول: "حين أخبرتها قالت لي: ليش لتخسري هالربع، لو كانت علامتك عشرة من عشرة أديش كانت حلوة، من هنا بدأت عصابيتي، لقد أصبحتُ أكثر بحثاً عن الكمال، ولا أرضى بالقليل، ربما أوصلني ذلك إلى مراتب كنتُ أحلم بالوصول إليها، ولكنه بلا شك جعل طريقي أكثر إرهاقاً، وأقل فرحاً حتى بوجود أسباب الفرح".
يتحمل الأهل مسؤوليات هائلة ونظراً لكونها بديهية فهي مسؤوليات بدون بطولة، فتربية الأطفال والاعتناء بأمور البيت من تنظيف وطبخ وترتيب، إلى جانب مسؤوليات العمل في الخارج، هي في مجملها من أكثر المهام إرهاقاً على الإطلاق.
ما لا يعرفه الكثيرون هو أن "للصبر حدود" كما تقول أم كلثوم، وتنتهي حدود هذا الصبر عند الأهل حين يشتد عود طفلهم الأكبر، عندها يمارسون النكوص على أصوله، وتعود بهم الذكريات إلى اللحظة التي كانوا هم فيها أطفالاً لا همّ لهم ولا غم، يرمون الحياة على عاتق أهلهم.

أنا الأخت الكبرى، وأنا الأم والأب

مي هي الأخت الكبرى في عائلتها أيضاً، وهي حالياً طبيبة في الطب المخبري، تقول: "عندما كنتُ طالبةً في السنة الخامسة في كلية الطب في اللاذقية، كنت كأي طالبة لا تعرف من الطب سوى المحاضرات وبعض الصور وفيديوهات اليوتيوب، ولكن عندما كُسرت قدم أختي الصغرى، تفاجأتُ بأنّ الأدوار المنزلية قد انقلبت وتحوّل أمي وأبي إلى طفلين في حضني".
وتكمل: "أبي أصابه الإحباط من فكرة المرض أو ربما من عقوده الخمسة، وأمي تعاني من فوبيا المستشفيات مذ كانت صغيرة، تخليتُ عن محاضراتي ودخلتُ في دهاليز المستشفيات والمختبرات وعيادات الأطباء لأتابع حالة أختى الصغرى، وأصبحت سجلات مكالماتي مليئة بأرقام الأطباء بدلاً من أرقام أصدقائي وصديقاتي".

عندما كُسرت قدم أختي الصغرى، تفاجأتُ بأنّ الأدوار المنزلية قد انقلبت وتحوّل أمي وأبي إلى طفلين في حضني

وتضيف: "تذكرتُ كلام إخوتي الصغار "نيالك إنتي كبيرة"، وتساءلتُ في نفسي، أليس من الأفضل أن نبقى صغاراً، نلعب ونركض ونقع ونخرّب دونما ذنب، يقتصر تعاملنا مع المشكلات على البكاء، حتى يأتينا الحل ممن هو أكبر".
تشير مي إلى أن التعب الجسدي الذي عانته فترتذاك لم يكن العبء الأكبر، بل الإحساس بالمسؤولية تجاه أختها، تقول: "كنتُ أشعر وكأنّ البيت بكل أثاثه وسكانه في راحة تامة أو ربما في غيبوبة، وحدي أنا يأكلني القلق ليس فقط على مرض أختي، بل لأني أدركتُ أنّ أبي وأمي سيضغطان زر النكوص عند أول مشكلة تدق باب المنزل، من قال إنّ آلة السفر عبر الزمن محض خرافة؟ يوجد نقطةٌ ما يتحول عندها الآباء إلى أطفال لا يعرفون من الدنيا شيئاً، ويتحول فيها الطفل الأكبر إلى أبٍ وأمٍ في آنٍ واحد".
عند ولادة طفل ثانٍ في العائلة، يميل الطفل الأكبر إلى تولي دور الأب الثاني، هنا تقول مستشارة الأسرة والزواج الدكتورة سارة سالمون: "يطور الطفل الأول درجات متقدمة من الوعي، حيث ينشغل الوالدان بالمسؤوليات الأخرى، مما يدفع الطفل  الأكبر إلى مساعدة أشقائه الأصغر في إطعامهم واللعب معهم من منطلق شعوره بأنه مسؤول عن حمايتهم".

يوجد نقطةٌ ما يتحول عندها الآباء إلى أطفال لا يعرفون من الدنيا شيئاً، ويتحول فيها الطفل الأكبر إلى أبٍ وأمٍ في آنٍ واحد

وتضيف: "الطفل الأول يشعر بفرحة عارمة لدى شعوره بالسيطرة، وهنا تتشكل لديه شخصية القائد القوي، التي تدفعه إلى المبادرة دائماً وتحمل المسؤولية داخل وخارج المنزل من أجل كسب ود الوالدين والحصول على المديح من قبل الأصدقاء والمعارف، صحيح أنّ هذا السلوك موجود لدى معظم البشر ولكنه أكثر وضوحاً لدى الطفل البكر في العائلة".

يكسرون جناحي اللذين كنتُ أحملهم بهما

هزار (29 عاماً) هي خريجة كلية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في جامعة طرطوس، مرضت أختها واضطرت أن تدخل إلى المستشفى ومن بعدها عانت من اضطراباتٍ نفسية تمنعها من التركيز.

يطوّر الطفل الأول درجات متقدمة من الوعي، حيث ينشغل الوالدان بالمسؤوليات الأخرى، مما يدفع الطفل  الأكبر إلى مساعدة أشقائه الأصغر في إطعامهم واللعب معهم من منطلق شعوره بأنه مسؤول عن حمايتهم

تقول: "اضطرت أن أتحمل كلّ هلع العائلة على أختي، وكل قلقهم وعصبيتهم الزائدة التي كانوا يفرغونها في مشاحنات أقل ما يُقال عن أسبابها أنها تافهة أو سخيفة، لم يكتفِ والدي بالطلب المتكرر والتوسل إليّ كي أجلس مع أختي وأدرس معها مقرراتها الجامعية، التي كانت صعبةً بالنسبة إليّ، وبعيدةً كل البعد عن مجال دراستي الجامعية، ولكني في عُرف أهلي ابنتهم الكبرى، التي يجب أن تتحمل مسؤولياتها تجاه إخوتها، ربما اعتقدوا أنني درستُ "غوغل" من الجلدة للجلدة، ربما ذلك لأنهم لم يفلحوا في إنهم ينجبون صبياً كما يرغبون".

تصف هزار حالتها تلك بأن الفرح كان محرّماً عليها حتى لو على شكل نزهة مع أصدقائها، وكأنها محكومةٌ بالبؤس، فأي ابتسامة هي جريمة، وأي فسحة هي خيانة لحزن المنزل، وحتى مع خروجها خلسة كان وقع كلمات أمها يلاحقها: "إييييه ما بيهمك غير حالك وتطلعي مع رفقاتك، ما راحت غير على إختك يلي ما عندها حدا".
تقول هزار: "لم تكن عائلتي قادرة على استيعاب حاجتي لنزهة بين الحين والآخر كي أكمل معهم هذا الطريق الشاق، فكانوا بكل بساطة يكسرون جناحي اللذين كنتُ أحملهم بهما، ولا يكتفون بذلك، بل يكررون جملاً من نوع (قضينا هالعمر نربي فيكن ولما احتجناكم ما لقيناكم) هل يُعقل أن أكون ابنةً عاقةً رغم كل ما أقدمه؟".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image