يبدأ وعي المرأة بجسدها كرمز لشرف القبيلة منذ بداية نشأتها، وتتبلور هذه الفكرة في مرحلة البلوغ، وعندما تساعدها الظروف على العيش بعيداً عن عائلاتها، وتختفي الرقابة الأبوية على جسدها، ينشأ صراعها الداخلي بين حماية قدسية جسدها وبين رغباتها الداخلية.
رياح دمشق
تتنقل العديد من الطالبات بين المحافظات السورية، ويعشن بعيداً عن عائلاتهن بهدف الدراسة، خاصة أن معظم الأقسام والكليات متوفرة في جامعة دمشق، منهنّ من تحوّل جسدها إلى مصيدة، ومنهن من أصبح وسيلتها للعبور إلى الحرية.
تُحرك لينا (27عاماً) حجابها الأبيض، وتقول لرصيف22: "خرجت من قرية صغيرة في ريف حمص إلى مجتمع دمشق الكبير، الذي لا مكان فيه للدراويش، وشيئاً فشيئاً بدأت رياح دمشق تعصف بجسدي، وتنقله من رجل الى آخر".
عاشت لينا في دمشق أربع سنوات، أقامت خلالها عدة علاقات جنسية، تقول: "جئت هنا وأنا سعيدة لأنني سأتخلص من رقابة والدي الذي كان قاسياً، إذ منعني من مشاهدة أُغنية على التلفاز، أو الخروج من المنزل إلا مع أمي، لكنه توفي أثناء تحضيري لامتحان الثانوية العامة، رغم حزني عليه، مكان ما في داخلي كان سعيداً برحيله".
وخلال عامها الدراسي الثاني، تعرفت لينا بشاب يرفع شعارات ليبرالية، تقول: "حدثني عن حرية المرأة، وحقها في ممارسة الجنس، وإرضاء رغباتها، إلى أن قضيت ليلتي الأولى معه، لكنه بعد عدة أشهر بدأ يتهرب من لقائي، ثم اختفى تماماً".
نظرة دونية
لا يهتم المجتمع في دمشق بأمر الفتيات اللواتي يأتين للدراسة من محافظة أخرى، ينظر لهن نظرة دونية، فهن عاهرات أو فقيرات من الريف البعيد، بحسب لينا، وتشرح: "لا أحد يهتم أين تنامين؟ أو مع من؟ يصبح الفضاء بأكمله بين يديك، ويتنفس جسدك الصعداء، تشعرين أنك قادرة على تجريب القبلة التي لطالما شاهدتها خلْسةً على التلفاز، وممارسة الجنس مع شاب بدلاً من ممارسته مع نفسك".
من جهة أخرى، تشعر لينا باستياء حيال "استغلال الشباب لجسدها"، وتحاول نسيان هذا الجانب من العلاقات.
"توفي والدي أثناء تحضيري لامتحان الثانوية، مكان ما في داخلي كان سعيداً برحيله، وبعدها سافرت إلى دمشق، وتعرفت على شاب ليبرالي، وقضيت ليلتي الأولى معه"
تعيش لينا الآن في مدينة حمص، حصلت على شهادة جامعية في اللغة العربية، تزوجت ووضعت الحجاب، تقول: "أردت النسيان، تزعجني الذكريات التي تراودني عن الرجال الذين استغلوا جسدي لإرضاء غريزتهم فقط".
رغبات مدفونة
تحمل ديما حقيبتها، تصعد إلى الطابق الثالث في الوحدة السكنية المخصصة للطالبات في المدينة الجامعية وسط دمشق، تبحث عن الغرفة رقم 360 التي هي مكان سكنها الجديد، بعد أن حصلت على شهادة الثالث الثانوي الأدبي، وسجلت في كلية الإعلام في جامعة دمشق.
تطرق الباب، تظهر أمامها فتاة سمراء طويلة، تحمل علبة معدنية يخرج من طرفها كيلوت نسائي تتساقط منه قطرات المياه الممزوجة بمسحوق الغسيل، بينما تجلس فتاة بثيابها الداخلية على السرير، ورائحة الشيشة تملأ الغرفة.
تقول ديما (26 عاما) لرصيف22: "هكذا استقبلتني العاصمة، أدركت بعد هذا المشهد استحالة السكن في هذه الغرفة، كان الإيجار الخيار الوحيد أمامي، انتقلت إلى منطقة باب توما في دمشق القديمة، اخترتها لأن غالبية سكانها من الطائفة المسيحية، إنها منطقة منفتحة على الآخر وقريبة من بيئتي".
كبرت ديما في منزل هادئ في مدينة السويداء، لا تعكر صفوه المشكلات أو الاختلاف في وجهات النظر.
على عكس لينا، تحمل ديما مشاعر إيجابية قوية حيال والدها، تقول: "ما زلت أذكر كلمات والدي: لن أسألك يوماً ماذا فعلتِ، لكن أريدك فقط ألا تكسري كل ما هو جميل بداخلك، وتحافظي على نقاوة روحك".
تعمل ديما الآن في إحدى المحطات التلفزيونية، تقول: "حصلت على شهادة في الإعلام وبدأت العمل، أعطتني حياتي بعيداً عن العائلة مساحتي الخاصة، والتجارب التي عشتها صقلت شخصيتي، وجعلتني فتاة حرة مستقلة واعية لرغبات جسدها".
ترى ديما أن الحياة بعيداً عن العائلة أزالت عن كاهلها بعض القيود المجتمعية والعائلية الصارمة، فهي الآن قادرة على السهر إلى وقت متأخر في الليل، وتناول كأس من البيرة في أحد البارات، واستقبال الاصدقاء الشبان في المنزل، وتضيف: "كلها قيود فرضها المجتمع، ليرسم صورته النمطية عن المرأة الشريفة".
تعيش ديما علاقة عاطفية مع شاب من عمرها، تقول: "حبنا بدأ منذ نحو ثلاثة أعوام، لدينا اهتمامات مشتركة، وأصدقاء مشتركون، نمارس الجنس من وقت لآخر، لكنه ليس قوام علاقتنا، أحياناً يمضي شهر دون أن نمارسه".
الخوف على الجسد
على عكس ديما، نفرت رهف من أجواء التحرر لزميلاتها في السكن الجامعي، ورسمت حدوداً واضحة.
تعيش رهف منذ عامين في المدينة الجامعية في دمشق، جاءت إلى العاصمة لدراسة الرياضيات، تعود بذاكرتها إلى يومها الأول في السكن الجامعي، تقول: "وصلت إلى الوحدة السكنية، وضعت حقيبتي في الغرفة، وخرجت لقضاء حاجتي، عندما فتحت الباب فوجئت بفتاتين تتبادلن القبل داخل الحمّام، وتضع إحداهما يدها على مؤخرة الثانية".
صُدمت رهف، الفتاة التي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها بما رأته، تقول: "شاهدتُ أيضاً فتيات يتناولن الكحول ليلاً في السر عن مسؤولة الوحدة، ويخرجن للسهر ولا يعدن إلا صباحاً، ورغم أن تربيتنا راسخة في داخلنا، شعرت بالخوف على جسدي. التأثر بالمحيط أمر طبيعي، لذلك وضعت خطوطاً حمراء وقطعت عهداً على نفسي ألا أتجاوزها".
"كانت والدتي تضربني عند الخطأ".
وتضيف: "خرجت من مجتمع منغلق في محافظة دير الزور، لا يعطي المرأة حريتها حتى في اختيار ملابسها، وكانت والدتي تضربني عند الخطأ، رغم ذلك لم يكن مجتمع المدينة الجامعية بديلاً أفضل، لذلك رسمتُ حياتي في زاوية سريري ومع كتابي فقط".
رغم إكمالها عامها الثاني في دمشق، لا تعرف رهف إلا طريقاً واحداً هو الطريق بين الجامعة والسكن الجامعي، تقول: "حتى الطعام والأغراض أشتريها من السكن وأعود إلى غرفتي، لا أريد أن أنجرف مع التيار، لا أريد الاستسلام لرغباتي وغرائزي، لذلك العزلة هي الحل الأمثل".
هدايا وملابس وطعام
تضع سيدرا في أرضية الحمّام العديد من علب الشامبو والصابون، تُخبئ في خزانة ملابسها بعض القطع الذهبية، إضافةً إلى الأحذية والألبسة الأجنبية، تعود إلى منزلها بالكثير من الهدايا والملابس والطعام.
تصل يومياً إلى جامعتها بسيارة أجرة، تحب السهر مع صديقاتها، وتشتري كل ما ترغب به، تقول: "أرافق شاباً ثرياً يدفع بدل إيجار منزلي في منطقة باب شرقي في دمشق القديمة، ويشتري الهدايا ويعطيني نقوداً".
تحكي سيدرا (21 عاماً) قصتها: "جئت من ريف اللاذقية إلى دمشق لدراسة الفنون الجميلة، لكن الحياة في العاصمة باهظة جداً، لا يمكن لعائلتي تحمّل كل هذه المصاريف".
ماذا عن العمل؟ تقول: "فرص العمل قليلة ومحصورة في المحلات التجارية، يدفعون رواتب متدنية، ويطلبون ساعات عمل طويلة، لا يمكن التوفيق بين العمل والدراسة، وأنا لا أُجيد شيئاً سوى الرسم".
ترى سيدرا أن الفتاة يجب أن تمارس حياتها الجنسية بخصوصية شديدة، وأن تختار الشاب المناسب الذي يفهم احتياجات جسدها ويحترمها، تقول: "أسلوب تربيتنا يجعلنا في حالة خوف دائم من اقتراب أي شاب من جسدنا، لأن ذلك يلوث شرفنا، فيرفضنا المجتمع، ويسيء إلى سمعتنا، لكن تجربة الحياة بعيداً عن العائلة أثبتت العكس".
استمتاع وأحاسيس متناقضة
تعيش سيدرا حياة جنسية شبه كاملة مع صديقها، ولكن مشاعرها مركبة ومتناقضة، ولا تعرف تماماً إن كانت ما تفعله هو الصواب. تقول: "نمارس الجنس لكنه لا يعطيني نقوداً بعد كل ممارسة، إنما يساعدني في الإيجار والمصروف، ونقضي وقتاً رائعاً معاً، أعلم في النهاية أننا سنفترق، لكنني لا أؤمن أن العلاقات تستمر إلى الأبد، كما لا أجد الزواج الطريقة الوحيدة لإرضاء جسدي".
وتتساءل: "كيف كنت سأكمل دراستي في دمشق لولا مساعدة صديقي؟ هل أنتظر ساعات قدوم الباص لأصل إلى الجامعة؟ هل أستدين من صديقاتي ثمن الكتب والمحاضرات أم أعيش في غرفة صغيرة في المدينة الجامعية مع ثماني فتيات؟".
"وصلت إلى الوحدة السكنية، وضعت حقيبتي في الغرفة، وخرجت لقضاء حاجتي، عندما فتحت الباب فوجئت بفتاتين تتبادلن القبل داخل الحمّام، وتضع إحداهما يدها على مؤخرة الثانية"
تعاني سيدرا صراعاً داخلياً، كلما مارست الجنس مع صديقها، تتذكر والدها، تخيفها فكرة أن يعلم ماذا تفعل، أما وصايا والدتها فسحقتها قسوة دمشق، خاصة في ظل أزمة ارتفاع الأسعار وصعوبة المواصلات وغلاء حتى رغيف الخبز.
تعرضت سيدرا خلال حياتها في دمشق للتنّمر والتحرش، تقول: "شرف الفتاة يُهان مائة مرة في اليوم، ما من أحد يهتم، لكن عندما يرتبط الموضوع بالجسد يرفع الجميع سيفه في وجهك، لا أدرى إن كنت ألحق الأذى بنفسي، لكني على الأقل لا أسبب أذية لأحد".
وتربط المجتمعات العربية عامة، جسد المرأة بشرفها، وتهيئ الأمّهات بناتهن منذ الصغر للدور الاجتماعي المنوط بهن، وهو وظيفتهن الجنسية، تبقى حياة المرأة الجنسية محصورة في إطار الزواج فقط، ما يجعلها تعاني صراعاً قاسياً بين ما كبرت عليه وبين واقع المجتمعات الجديدة، التي جعلت الزواج يتراجع إلى الخلف لمصلحة العلاقات العاطفية السريعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...