انطلاقاً من فرض منطق القوة الاستعراضية التي اعتادت إسرائيل تقديمها كحل لأي إشكالية سياسية تواجهها لافتقارها إلى الحجة والبرهان، أقدمت بعد عام على قرار وزارة القضاء الإسرائيلية ومطالبة وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس، الذي صادق في أكتوبر/تشرين الأول 2021 على قرار حظر المؤسسات الفلسطينية الست " الحق، الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، اتحاد لجان العمل الزراعي، الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال - الفرع الفلسطيني، اتحاد لجان المرأة، مركز بيسان للبحوث والإنماء" ، بالتأكيد النهائي فجر الخميس على قرار الحظر، إذ اقتحمت قوات الاحتلال مقرات المؤسسات الست بالإضافة إلى "مؤسسة لجان العمل الصحي" بدعوى أنها منظمات "تدعم الإرهاب".
وبعد الإغلاق الذي فرضته قوات الاحتلال على هذه المؤسسات بالألواح الحديديّة، أعاد ناشطون وحقوقيون فلسطينيون فتح أبواب المؤسسات بعد ساعات من إغلاقها. كما شهدت رام الله تنظيم وقفة دعت إليها مؤسسات المجتمع المدني بالإضافة إلى دائرة حقوق الإنسان في منظمة التحرير الفلسطينية، للتضامن مع المؤسسات المعنية ورفض اقتحامها وإغلاق ومصادرة محتوياتها.
تبعات قرار حظر المؤسسات ووضعها على لائحة الإرهاب ومن ثم إغلاقها، يراد منها إيقاف أي عملية تبرع وتمويل لها، والتمهيد لاعتقال الموظفين والمتطوعين داخلها بدعوى الانتماء والانتساب إلى "منظمات إرهابية".
مؤسسات المجتمع المدني كانت وما زالت جزءاً أصيلاً من مكونات الدولة الفلسطينية، ودورها الداعم لتعزيز الحقوق المحلية والدولية والارتقاء بشخصية المواطن من خلال نشر المعرفة والوعي، كما أن لها إسهامات كثيرة في السياق الوطني والإنساني، وهو ما جعلها هدفاً للاحتلال الإسرائيلي.
وتبقى هذه الإجراءات حلقة من مسلسل تبديد وهم السيادة الفلسطينية الذي يداوم الاحتلال الإسرائيلي على عرضه في أجزاء متواصلة من الانتهاكات، سواء من خلال استهداف مؤسسات المجتمع المدني، أو حتّى استهداف كل ما هو فلسطيني.
ويمكن اعتبار تداعيات الإجراءات الإسرائيلية ضد مؤسسات المجتمع المدني مقدمة لشكل جديد من أشكال التعامل غير المسبوق في خطورته على المستوى السياسي والقانوني، ليشكل تهديداً حقيقياً لكل ناشطي حقوق الإنسان والعاملين في تلك المؤسسات، والذين سيبقون تحت تهمة الانتساب إلى "منظمات إرهابية"، معرضين لشتى أشكال المخاطر ومن ضمنها الاعتقال، كذلك تعتبر تلك الإجراءات جزءاً من عملية تقويض السلطة الفلسطينية التي لم تقدم حتى اللحظة على اتخاذ موقف سياسي حازم دفاعاً عن دورها وواجبها ووظيفتها.
وقالت رئيسة اتحاد لجان المرأة، تغريد جمعة، لرصيف22:"الاحتلال لا يحتاج إلى أسباب ومبررات لارتكاب جرائمه بحق المؤسسات وبحق شعبنا، ولكن للتغطية على هذه الجرائم يدعي أن هذه المؤسسات الست تستخدم التمويل الذي تحصل عليه لدعم الإرهاب والإرهابيين - حسب وجهة نظره - ضد دولة الإحتلال".
وأضافت: "يعتبر الاحتلال الإسرائيلي أن أي نشاط يدعم صمود شعبنا الفلسطيني ويخفف من الضغط الذي يمارس ضده هو بمثابة إرهاب، وما يزيد من كثافة استفزازه، هو أن هذه المؤسسات إلى جانب أجنداتها الاجتماعية والمهنية، فهي لديها أجندات وطنية".
أما عن موقف المؤسسات كنتيجة لهذه القرارات، تقول جمعة: "المؤسسات ومنذ صدور قرار التهديد بالإغلاق في أكتوبر الماضي وهي مستمرة في عملها وتقدّم خدماتها لأبناء شعبنا الفلسطيني، وستستمر في التوجه للمجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية للضغط على الاحتلال لوقف القرار، بالإضافة للتواصل والتحرك مع كل أصدقاء شعبنا وشركائنا من أجل استخدام كل وسائل الضغط على الاحتلال وإلغاء القرار".
وجاء في رسالة كانت قد وجهتها للسلطة الفلسطينية: "نطالب السلطة الفلسطينية بتحمل مسؤلياتها تجاه مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل وفق القانون الفلسطيني وتحت حماية السيادة الفلسطينية والدفاع عن هذه المؤسسات وحمايتها من التغول من قبل الاحتلال".
يعتبر الاحتلال الإسرائيلي أن أي نشاط يدعم صمود شعبنا الفلسطيني ويخفف من الضغط الذي يمارس ضده هو بمثابة إرهاب، وما يزيد من كثافة استفزازه، هو أن هذه المؤسسات إلى جانب أجنداتها الاجتماعية والمهنية، فهي لديها أجندات وطنية
دهمت القوات الإسرائيلية مقر المديرية العامة للاستخبارات والمخابرات الواقع في حي سطح مرحبا في البيرة ، جنوب رام الله صباح 18 أغسطس/ آب. وأظهرت لقطات تلفزيونية ملفات موكلين تتعلق بمعتقلين أطفال فلسطينيين يمثلهم محامو الحركة في المحاكم العسكرية الإسرائيلية. وتركوا إشعارًا على الباب يأمر بإغلاق المكتب ويعلن أن "DCIP" منظمة غير قانونية. ولم يتضح بالضبط ما هي الأشياء التي تمت مصادرتها.
وقال خالد قزمار، مدير عام الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال - فلسطين "إن إغلاق جيش الاحتلال لمقر المنظمة في رام الله يحمل رسالتين، الأولى للعاملين في المنظمة بأنهم لن يستطيعوا مواصلة عملهم، والثانية للدول الأوروبية التي قررت مواصلة تمويل الحركة برغم تصنيف الاحتلال لها كمنظمة إرهابية".
وأضاف قزمار: "الاحتلال قام بإغلاق المنظمة وبقية المنظمات ويحاول الرد على قرار الدول الأوروبية رفض مبرراته لإعلانها منظمات إرهابية، وإصراره على مواصلة تمويل هذه المنظمات". وأكد أن "الحركة تتعرض لحملة ممنهجة إسرائيلية منذ أكثر من 10 سنوات، وعندما فشلوا في وقف الحركة، قاموا بهذا التصعيد".
حملات الإدانة والإستنكار
تلت هذا القرار حملة واسعة من الإدانات على المستوى الحكومي، إذ أكدت الرئاسة الفلسطينية في بيان أن "القرار الإسرائيلي جريمة واعتداء سافر على مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، وأيضاً اعتداء على المنظومة الحقوقية الدولية جمعاء وليس فقط الفلسطينية، وإننا نقف مع هذه المؤسسات الوطنية التي تقوم بواجبها في فضح جرائم الاحتلال وكشفها أمام العالم".
وطالبت الرئاسة "المجتمع الدولي بالتحرك الفوري والعاجل، لحماية الشعب الفلسطيني، ووقف هذه الاعتداءات، لما لها من تبعات وآثار خطيرة"، مشيرة إلى أنه "سيكون هناك تحرك فلسطيني على كل المستويات للتصدي لهذا القرار".
أما رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية فقد قال في تصريح، أثناء زيارته لمكتب مؤسسة الحق: "هذه ليست مجرد منظمة غير حكومية، ولكنها أيضاً مؤسسة لدولة فلسطين، وما داموا يعملون في إطار القانون، فسنقف معهم بقوة".
ونددت الهيئة الوطنية للمؤسسات الأهلية باقتحام وتحطيم وإغلاق بعض مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، مؤكدة أن مثل هذه الأعمال العدوانية تندرج في سياق العدوان المستمر والممنهج على الشعب الفلسطيني، وأكدت كذلك أنّ ما قامت به قوات الاحتلال بإغلاق المؤسسات المدنية يعبر عن إرهاب دولة الاحتلال، ويأتي أيضاً في سياق إسكات صوت المجتمع المدني الفلسطيني، وإخراجه عن سياق العمل النضالي، مطالِبة كافة المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، بتوفير الحماية لمؤسسات العمل الأهلي، والضغط على الاحتلال لوقف العدوان المستمر عليها.
ودانت هيئة شؤون المنظمات الأهلية إغلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي المؤسسات الأهلية. وأضافت في بيان صحافي أنها "ليست المرة الأولى التي يقدم الاحتلال على مثل هذا الاعتداء السافر لضرب قطاع العمل الأهلي في فلسطين، وعدم التحرك الدولي لإدانة مثل هذه الاعتداءات دفع قوات الاحتلال لتكرارها، معتبرة نفسها فوق القانون".
الموقف الدولي من الحظر والإغلاق
الاتحاد الأوروبي قال إن إسرائيل لم تقدم أدلة كافية تثبت علاقة المؤسسات مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في حين أكدت تسع دول من الاتحاد الأوروبي على أنّها ستواصل العمل مع المنظمات.
وفي رفض لأمر الإغلاق الإسرائيلي، التقت بعثات دبلوماسية مكونة من 17 دولة من ضمنها" الدنمارك، إسبانيا، إيطاليا، فنلندا، السويد، النرويج، تشيلي، المكسيك، فرنسا، بلجيكا، ايرلندا، هولندا، بولندا، بريطانيا، المانيا، سويسرا" مع ممثلي مؤسسة الحق في مكتبها مساء الخميس.
وقال شعوان جبارين ، مدير "الحق" ، وهي منظمة حقوقية كانت من المؤسسات المستهدفة ، لوكالة أسوشيتيد برس، الخميس "هذه الاتهامات ليست جديدة وإسرائيل فشلت في إقناع حتى أصدقائها"، فيما أعلنت المتحدثة باسم بعثة الاتحاد الأوروبي نبيلة مسرالي، أنّه "لم يتم إثبات الادعاءات التي طرحت في الماضي بإساءة استخدام أموال الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق ببعض منظمات المجتمع المدني الفلسطيني".
وأضافت:" سيواصل الاتحاد الأوروبي الوقوف إلى جانب القانون الدولي ودعم منظمات المجتمع المدني ".
أما الأمم المتحدة فكانت قد دعت المجتمع الدولي إلى دعم المدافعين الستة عن حقوق الإنسان. وجاء في البيان المنسوب إلى خبراء حقوق الإنسان تحت إشراف مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان أن "تصنيف إسرائيل المثير للقلق لهذه المنظمات كـ" منظمات إرهابية "لم يرافقه أي دليل علني ملموس وموثوق به" .
وفي الشهر الماضي، رفضت مجموعة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تمول أنشطة المنظمات الفلسطينية الادعاءات الإسرائيلية، قائلة إن "المجتمع المدني الحر والقوي أمر لا غنى عنه لتعزيز القيم الديموقراطية وحل الدولتين".
وأعادت المفوضية الأوروبية التمويل المعلق إلى مؤسسة الحق في حزيران/ يونيو.
الموقف الإسرائيلي
قالت وزارة الجيش الإسرائيلية في بيان العام الماضي : "جميع المنظمات المعنية تعمل بشكل سري ووكالة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في يهودا والسامرة وكذلك في الخارج".
وكرر مكتب وزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس ادعاءه بأن "الجماعات تعمل تحت ستار القيام بأنشطة إنسانية لتعزيز أهداف المنظمة الإرهابية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتعزيز المنظمة وتجنيد النشطاء".
أما الجيش الإسرائيلي فقال في بيان، الخميس، بعدما وضع لافتة على أبواب المؤسسات - مغلق لأسباب أمنية -: "أي نشاط في هذا المكان يعرض أمن المنطقة وقوات الأمن والنظام العام للخطر".
من جهته، قال "مركز عدالة" القانوني - حيفا، بعدما تم رفض الاعتراض القانوني الذي قدمه الطاقم ضد إعلان إغلاق المؤسسات، أنّه "بعد أن رفضت عشر دول أوروبية التصريحات التي صدرت في غياب أي دليل، تواصل إسرائيل ملاحقة المجتمع المدني الفلسطيني والناشطين الحقوقيين، بهدف واضح وهو إسكات أي محاولة لتوثيق وكشف انتهاكاتها لحقوق الإنسان والقانون الدولي. ويقود الهجمة على مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية وزير الأمن الإسرائيلي، المشتبه بارتكاب جرائم حرب، بمحاولة لترهيب كل من يحاول الشهادة على انتهاكاته".
وأضاف مركز "عدالة": "تمت مداهمة مكاتب المنظمات الست بعد ساعات قليلة فقط من قيام القائد العسكري برفض الالتماسات التي قُدّمت رفضًا لإعلان المنظمات الست كإرهابية، من دون إعطاء أي رد جوهري أنه لم تتوفر للمؤسسات الست أي فرصة للدفاع عن نفسها بحجة امتلاك مواد وأدّلة سريّة ضد المنظمات. هذا الاعتداء هو اعتداء ليس فقط على مؤسسات المجتمع المدني، بل على الشعب الفلسطيني بأكمله وعلى حقه في تقرير مصيره".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 دقيقةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...