قرابة ثلاثة أعوام مضت على وفاة والدتي، رحمها الله، التي لحقت بوالدي الذي سبق رحيله رحيلها بأربعة أعوام. لم يسبق أن كتبت أو خضت في تفاصيل مشاعري التي لم أعبّر عنها حتى الآن، منذ يوم وجع الفراق، لغاية في نفس يعقوب، أو كما أبرر دوماً لأن أمي والله فقط يعرفان سبب عزوفي عن التعبير.
وقرابة ثلاثة أعوام مضت على تجربتي في العيش وحيدةً بشكل مستقل في بلدي الأردن، وهو مشهد لا يتكرر كثيراً إلا لظروف معينة مثل سكن الطالبات، أو عمل فتيات في العاصمة عمّان بعيداً عن عائلاتهن في القرى، أو أحياناً بسبب الانفصال عن الزوج. تلك العوامل كلها ليست السبب في العيش وحدي، لكن الظروف التي لحقت بوفاة والدتي لم تقلب كياني فقط 180 درجةً، بل أيضاً حياتي.
وأنا كما أكره أن يقال عني وحيدة، أكره أيضاً أن يقال عني عاجزة. لماذا وكيف باغتني هذا الشعور؟ عندما فشلت في رفع "سحاب" الفستان الذي أرتديه من الخلف، فشلت وبكيت... بكيت كثيراً.
أقول ذلك وأنا معبّأة بمشاعر الرضا، وبعيدة البعد كله عن مشاعر الدراما واللطم و"عويل" الوحدة، كما أنني عازفة عن التعبير عن مشاعري لفقدان والدتي، وأرفض أيضاً اللعب على وتر "الوحدة"، بل أكره أن أوصَف بأنني وحيدة، لأنني لست وحيدةً، وكيف أكون والله والأشخاص الذين يحبونني يحومون حولي؟ كيف أكون وحيدةً ورضا والدي ووالدتي، رحمهما الله، ينير دربي.
تلك القرارات التي اتخذها لا تنحصر فقط في أحاديثي أو في مقالاتي. حتى بيني وبين نفسي أرفض أن أجسد دور الفتاة العزبة التي تعيش وحيدةً. بالعكس أنظر إلى نفسي على أنني قدوة لذاتي، لأنني تحولت بين ليلة وضحاها من "دلوعة العيلة" و "آخر العنقود"، إلى فتاة تشقّ طريق الشوك بقدميها، وتزرع فيه سنابل القمح وزهور الياسمين، لكن ولأن كل قاعدة فيها شواذ، سبق أن شرخت تلك القاعدة من دون أن أدرك، ومن دون أن أنجح في تدارك الشرخ.
بعد قرابة عام على تجربتي في العيش وحدي، وبعد انتهاء فترة حداد والدتي وانقطاعي عن المشاركة في أي شكل من أشكال الاحتفالات، خضت تجربة الاستعداد، للمرة الأولى بعد انقطاع دام عاماً، للذهاب إلى خطبة صديقتي. أذكر المشهد بالتفصيل، إذ وبعد أن فرغت من تصفيف شعري، قمت بارتداء الفستان الذي سأذهب به إلى الحفلة، لأصطدم بموقف، بالرغم من حجم صغره وبساطته، إلا أنه فجّر في داخلي شعوراً بالعجز، وأنا كما أكره أن يقال عني وحيدة، أكره أيضاً أن يقال عني عاجزة. لماذا وكيف باغتني هذا الشعور؟ عندما فشلت في رفع "سحاب" الفستان الذي أرتديه من الخلف، فشلت وبكيت... بكيت كثيراً.
كما اعتدت أن أنظر إلى نفسي على أنني من الأشخاص الذين يحبهم الله جداً، لففت دائرة ذلك المشهد حيث عجزت عن رفع "سحاب" فستاني لفةً سريعةً، كيف؟ عندما، وشكراً لكورونا، أصبحت بفضل الله وبفضل حظر التجول في الأردن وبفضل أشخاص أصبحوا أصدقائي في الهند مدربة يوغا!
انتهى المشهد، وانتهت التجربة "في أرضها" كما يقال شعبياً في الأردن، ولا أبالغ أنها المرة الأولى التي أرويها وأعترف بها، ذلك لأنني لم أرِد أن أبدو بمظهر العاجزة أمام أقرب الناس إلي في حال رويت لهم القصة. يكفي أنني لمست ذلك الشعور بيني وبين نفسي، وهذا كفيل بأن أدفن القصة "في أرضها".
لكن وكما اعتدت أن أتعامل مع الحياة ومع القدر، وكما اعتدت أن أنظر إلى نفسي على أنني من الأشخاص الذين يحبهم الله جداً، لففت دائرة ذلك المشهد حيث عجزت عن رفع "سحاب" فستاني لفةً سريعةً، كيف؟ عندما، وشكراً لكورونا، وبمحض صدفة أشكر فيها موقع إنستغرام، أصبحت بفضل الله وبفضل حظر التجول في الأردن وبفضل أشخاص أصبحوا أصدقائي في الهند مدربة يوغا!
ذكرت أنني دفنت تجربة الفستان في أرضها، لكن عاد ذلك المشهد ليلوح في موقف عندما قدمت أول حصة تدريب لليوغا بعد انتهاء حظر التجول وعودة فتح النوادي الرياضية. أذكر أنه في لحظة ما وأنا جالسة متربعة "تربيعة اليوغا" أمام طلابي، أزحت ظهري ليواجه وجوههم وأنا أردد معهم خطوات الخطوة التالية التي عليهم أن يدربوا أنفسهم عليها، وتفاجأت من دون أن ألاحظ مسبقاً، أنها حركة تربط يداً ألفّ بها من الأعلى بيد تنتظرها من الأسفل من جهة الظهر. ذكرتني تلك الحركة بمشهد الفستان، ونبهتني تلك اللحظة إلى أن كلمة "عاجزة" لا يستقبلها قاموسي!
احتفل العالم بالأمس باليوم العالمي لليوغا، وأحتفل بمرور عامين على حصولي على شهادة تدريب هذه الرياضة التي أعدّها نعمةً حرم الأشخاص الذين لا يمارسونها أنفسهم منها، ليس فقط لأنها رياضة الروح والجسد والعقل أيضاً. إذ يكفي أنها تعلمك نعمة نتشدق للحصول عليها، نحن المسالمين الطيبين، نعمة الاستغناء، الاستغناء عن الأشخاص الظالمين والمؤذين.
ما أستطيع البت فيه من وحي تجربتي مع اليوغا، أنك لا تبذل جهداً في الابتعاد عن الأشخاص المؤذين والسلبيين، بل على العكس تجدهم غير قادرين على التعامل معك وتالياً يبتعدون عنك من دون قرار منك، وهذا بحد ذاته أمر يغسل الروح قبل الجسد
لم أحسم بعد سبب تمكني من تعلم سلوك الاستغناء، سواء كان بفضل رياضة اليوغا أو بعد حركة الانتقال الفكري التي شهدتها بعد وفاة والدتي رحمها الله، لكن ما أستطيع البت فيه من وحي تجربتي مع اليوغا، أنك لا تبذل جهداً في الابتعاد عن الأشخاص المؤذين والسلبيين، بل على العكس تجدهم غير قادرين على التعامل معك وتالياً يبتعدون عنك من دون قرار منك، وهذا بحد ذاته أمر يغسل الروح قبل الجسد.
سأحتفل باليوم العالمي لليوغا اليوم بطريقة حلمت بها، ولم يطل تحقيقها، ألا وهي أن أجمع أكبر عدد من الأشخاص على سطح بيت في ساعة غروب الشمس. لن أروي لهم تجربة الفستان تلك، لكنني سأقول لهم كما اعتدت أن أقول لكل طالب/ ة جديد/ ة: "أكثر شيء مخلص لنا هو جسدنا... فقط ثقوا به وبقدراته... ناماستي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...