شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
عجين جدّتي حرّضني على الكتابة من جديد

عجين جدّتي حرّضني على الكتابة من جديد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 20 أغسطس 202209:54 ص

في محاولة فاشلة للخلود إلى النوم والهروب بعينيّ بعيداً عن هلاك الحياة وهوامشها المستهجنة التي بِتُ لا أفهمها، شيء ما من تعاسة أزقة الحياة والخيوط القاطنة على وجوه الناس تُلهمني لأكتب وأشتهي شطحات الجنون في التعبير، وكثيراً ما كانت تؤرق ليلتي. 
من الممكن القول إنّ الكتابة أصبحت ملجأ من العوالم التي أراها كل يوم. ولن أستطيع النوم إذا لم تكن الأسطر رهينة ليلتي الكالحة وأنا أبحث بلا جدوى على الحروف الضائعة، إذ يكون نصفها قاطناً على شفتيّ، كرهاً بأنوار الكون المزيفة. ونصفها الآخر مهما رججت مخي المعجون بصور ذكرياتٍ باهتة، ومهما حاولت وأدها، يختار أن يبقى ضمن الهوامش.
لَكنِ في هذه الليلة المظلمة، كل ما أتذكرهُ هو أقراص معجنات مرشم جدتي ورد، التي هي بين أحضان السماوات منذ عدة أشهر، فقِمتُ الليل من اشتياقي. لذلك، أكتب لكِ يا جدتي، لأنك رحلتِ وبقي ظِلكِ مسدولاً على أرصفة بيتنا القَروي الذي تسكنه أرواح لم تذق مرارة الفراق. وعن آخر مرة لم أكتب فيها لافتقار رائحة عجينك. فهي ورد، اسمٌ على مُسمى، فالورود تورّد خديّها، من موارد الحياة. لها الدقيق ولي الحِبر.

في هذه الليلة المظلمة، كل ما أتذكرهُ هو أقراص معجنات مرشم جدتي ورد، التي هي بين أحضان السماوات منذ عدة أشهر، فقِمتُ الليل من اشتياقي

عندما اعتدنا أن نكون في التجمعات العائلية في سوريا، كنتُ مولعة بكيفية عمل جدتي لعجينها. فقد كانت إنسانة بسيطة، وأحبت الحياة، واستمتعت بالوجود حول أحفادها. عند السؤال، كانت تأتي بجواب الروح، ومزاحها صادقاً كالصديقة التي تتصدق في أوتار ضحكاتها لعالمنا الأجوف. ومع ذلك، في كل مرة كنت أرى شخصاً آخر لا يحمل اسم ورد ويحمل قطعة عجين، اعتقدت أنه يجب علينا ترك العجين في يدي مصارع ثقوب الحياة، وليس الخباز. 

تمنيت لو أنك قرأت بعض كتاباتي قبل أن تقرري الذهاب.

أدري أنه من الصعب إخراج الأسير من قوقعته، لكني أحتاج أحرفي التي تُعاند عقارب زمن ذهابك ذلك الصباح. أمورٌ كثيرة أردت أن أبوح بها علناً لملأ أجهله.
أبدأ في الكتابة على تطبيق الملاحظات في هاتفي، وإذ بخط عمودي فارغ يهرب ويأتي، كأنه بات ضاحكاً من فراغ الكلمات الذي سيحملها، وكأنه يمد لسانه بسخرية. يقول أغلب علماء النفس إنّ هناك فوائد عديدة للكتابة، ومنها إحياء الروح مجدداً عند تفريغ ما كان ينهش بعظمك لفترة أنت فقط من يعلمها. ولكن، ليس كل أحد قادراً على أن يجعل هذه وتيرة حياته. فشعور أن تتنفس من ثقب الأبرة، وكأن جميع الأحرف التي أنقذتك في مقابلات أعمالك، مجاملاتك الواضحة لانتشال نفسك من أي ضجة، لا لزوم لها، ما لبثت أن تدعك وحدك، لتذكرني في ذهني صوت ماجدة الرومي وهي تغني على راديو جدتي: "لا شيء معي إلا الكلمات".
تسلسلت الأسطر ومدت يديها الطويلتين والسوداوين لي لتخبرني أن جميعنا نخضع لحروبٍ لا أسامي لها. تفضحها اجتياح غبار الذكريات. لكن، يا قلمي، كيف يمكنني أن أكتب دون أن أضع لخواطري عنواناً؟ قال لي إن هنالك مشاعر ليست مُعنونة، ومن الأفضل ألا تُعطى صوتاً، لأن ليس كل ما نشعر به صحيحاً، وهو قلمٌ يتعب بسرعة. لذلك، يجب عليه أن ينفق حبره على الأشياء اللازمة، أشياء تساعدني في إيجاد نفسي من جديد. 

شعور أن تتنفس من ثقب الأبرة، وكأن جميع الأحرف التي أنقذتك في مقابلات أعمالك، مجاملاتك الواضحة لانتشال نفسك من أي ضجة، لا لزوم لها

أخذت أحدق به باستغراب، وتذكرتُ أياماً والعالم يقف في حلقي، يخنقني، يخفق خيوط القلب والوسن، الذي من شدةِ قبضتي، جعلني أتنفس من ثقب الأبرة. لا طاقة لي، كأن كل شيء تضافر كي يجعل من العبء جسراً يحمل مشاعر الجبال.
لكن، لا نستطيع الكتابة على الدوام. أحياناً، نكتفي فقط بقيمة حوار ليس بعابرٍ، وحضن دافئ تجعل الشمس تشك بقدرتها، والذي يلي هذه البدائل نومٌ على ظهر القمر. لكنها تبقى بدائل، أشياء قد تنبس إذا أرادت، وتمهد طريق الرحيل لأهل الأزل، لتشعر أنك ناي عبرت من خلاله أوجه الملأ المشوشة. تعلمك الكتابة أن عليك أنت وحدك أن تشق الأثير بحبرك، وتبحر في بحار آفاق أفكارك - مهما كانت سوداوية - فأنت عليك أن تجتازها، وتبوح للأسطر لتملأ أقداح ذكرياتك لأنني أخشى تدفق أفكار يَصعبُ ترويضها من حيث لا أحتسب.
يقولون دائماً إن هناك عيناً تحرس الليل. لكن، من يحرس القلب في حسرته ووحدته؟ ومن الذي سينزوي بانزوائنا؟ يجب ألا نفشل في إدراك أن أرواحنا تسير بين جموع أرواح العابرين. فالحياة مليئة بالفوضى، والضجّة، ومن الممكن ألا تتمكن من ممارسة ترف الحزن إذا شئت وحدك، أو أصغر المشاعر الإنسانية. المشكلة وليست المشكلة في آن واحد، هو أن عالمنا يمشي بخطى سريعة، والكلام سرعان ما يتبخَّر في الهواء، ويَمِلُ الإنسان عقله، وأهمها أننا نخجل من معانقة أقلامنا عند الحاجة لتفريغ ما في دواخلنا.

يقولون دائماً إن هناك عيناً تحرس الليل. لكن، من يحرس القلب في حسرته ووحدته؟

لا أدري إن كنّا نكتب إقراراً بجهلنا، أو تضخيماً لأنفسنا، أو حكمةً ليأخذ البعض منها العِبَر التي تناسبه. لكن، الذي أعرفه هو أنّي أنسج طريقاً للحياة كما أحبها، دون أي تدخلات سطحية وفرعية. أكتب كطفل صغير يعلم أن الناس تستلطفه، فقط لأنه صغير، لكنه وحدهُ على يقين بأن حلمه أن يرقص على القمر، وطفلي الداخلي ينمو بعفوية استنشاق الأيام، حتى إن كانت عابرة وتَمرُ من خلالي، ولست أنا التي أمرُ فيها. 
ومع ذلك، من المضحك بالنسبة لي كيف قضيت في كتابة هذا المقال أسابيع، ليس لأنني كنت أماطل. ولكن،  لم يكن لدي الكلمات الصحيحة لوصف ما أشعر به حقاً تجاه غياب جدتي. 
لقد أغمضت جدتي عينيها وهي تعلم أنها عاشت حياة مرضية، وها أنا الآن في  التاسعة عشرة من عمري، ما زلت أتخبط في تجارب حياتية مختلفة، حاملةً فراغاً بداخلي، على أمل أن أحمل يوماً ما هدفاً، تماماً كما أعطت عجينتها هدفها لجدتي، وأعطت قلمي مرة أخرى حياة. 
كان حب جدتي لأن تخبز لا مثيل له، وأنا كطفلة متجولة بين شغف "الكِبار" - كنت في الرابعة عشرة في ذلك الوقت - أردت أن أحب شيئاً بنفس القدر. وفي النتيجة، جربت الكروشيه والكرة الطائرة والرسم، وفشلت كأن الإخفاق كان مُشجعي الأول إلى أن تعلمت ألا أخجل في أن أكون صديقة قلمي، حتى وإن تكلمنا لبضع ثوانٍ. تعلمتُ أن أعجن كلماتي مثل جدتي، وأن أسمح للآخرين بالاستمتاع بسماع أو قراءة أي نص من نصوصي. 

تعلمتُ أن أعجن كلماتي مثل جدتي، وأن أسمح للآخرين بالاستمتاع بسماع أو قراءة أي نص من نصوصي

تمنيت لو أنك قرأت بعض كتاباتي قبل أن تقرري الذهاب. دون أي وداع غادرت، وبقيت بعض أقراص المرشم على أرض غرفة المعيشة والقمح على طاولة المطبخ. كانت الحياة غير عادلة، بسبب تلك الحصة غير العادلة التي قمت بها أنا وأنت، فأعطيتني الحياة، ولم أستطع أن أعطيك أي كلمات تصف جمال الحياة. 

الأوادم صُنعة آدمٍ يا ورد، لكن أنا حواء، وأتيت من ضِلعكِ أنتِ. أكتب لكِ، متمنيةً أن تقرئيها في عالمٍ موازٍ، عندها تكون الكلمات أسلس، ورائحة المرشم أقوى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard