شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
استعملت جدتي الفوتوشوب قبل اختراعه

استعملت جدتي الفوتوشوب قبل اختراعه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 4 مارس 202103:53 م

استعملت جدتي الفوتوشوب قبل ظهوره. كانت تتقن ببراعة ملفتة جميع برامج تعديل الصور. كلما كانت تُنهي تمشيط شعرها الرمادي الطويل، تزيح طاسة الماء إلى مكان آمن، وتضع مشطها العاجي في طية الفراش. ترفع بيد مرتجفة مرآتها الصغيرة المذهبة. تبتسم. ثم تلتفت إلينا نحن الأحفاد المتحلقين حولها. تلتفت كأنها اكتشفت وجودنا فجأة. لا تنمحي ابتسامتها، بل يزداد بريق عينيها. تصمت قليلاً، ثم كعادتها تصف لنا جدي الذي مات باكراً في حرب معتمة. ومع كل مرة، كان يصير جدي، الذي لم تُطبع ملامحه على أي ورق مقوى ولم يُسجن في إطار على جدار، كان يصير أجمل. في آخر مرة قاطعها أخي الصغير بخبث كأنه أوقعها متلبسة بفخ المبالغة، صارخاً: مهلاً مهلاً، أين الندبة الطويلة في خده الأيسر التي وصفتها لنا في إحدى المرات؟ تبتسم له وتستمر في إزالة النمش وتعديل تفاصيل اللحية. تلون قميصه بلون الرمان، وكالعادة تُبقي لون عينيه كما وصفتها في كل مرة. جدتي تصف ملامح جدي بحذر شديد؛ كمن يمشي في حقل زهور طرية.

إنها تطبيقات تصل بك إلى حد الكمال. ومع مرور الوقت، فإنه من السهل أن تنسى شكلك الحقيقي في الواقع

ليس غريباً أن أقول إنني، وبينما أكتب هذه الكلمات، أشاهد على الشرفة المقابلة ابنة الجيران تمد ذراعها على آخره لتلتقط لوجهها الجميل صورة سيلفي. على الأغلب أنها التقطت أكثر من مائة صورة سيحذف منها تسع وتسعون لتبقى واحدة فقط. ستقضي نصف ساعة في تعديل المتبقية، ثم تتركها للقلوب واللايكات في صفحتها. وبما أنها صديقتي في الفيسبوك، أخجل في كل مرة أن أعلّق لها أنها أجمل بما لا يقارن من نسختها المعدلة. في المقابل ما زال الشباب يروون صدماتهم عن فتيات لا يشبهن صورهن في مواقع التواصل، ويتساءلون أين الشفاه الممتلئة والأنوف المذهلة؟ أين سحبة الخد الساحرة والعيون الملونة؟ الحواجب المرفوعة والفم المزموم والبشرة الصافية والنهود العارمة؟ أين كل هذا؟ هل سقطت جميعها في الطريق إلى الموعد المنتظر؟! لاحقاً، لم يعد هذا هو السؤال وارداً. فالجميع يعرف أن الصورة ليست الشخص نفسه أبداً. صار السؤال: أليس هناك نموذج مثالي آخر للجمال ومقاييسه، للإثارة التي تخشبت ضمن نفس الحركات في الوجه وطريقة الوقوف؟ وهل يعقل أن يكون لدينا مليارات النسخ لنفس الملامح؟ جميع من في المنزل، والأصدقاء، والجيران، يعرفون الصبيّة وملامحها بدقة. إلا هي نسيت شكلها تماماً وصارت تتوهم أنها الصبية الصورة. إنها تطبيقات تصل بك إلى حد الكمال. ومع مرور الوقت، فإنه من السهل أن تنسى شكلك الحقيقي في الواقع.

إنّ هوس السناب شات وكل أنواع التعديل تسونامي لا تخص الفتيات فقط بل الذكور كذلك، ولا تخص مرحلة واحدة من العمر بل تشمل الجميع تقريباً. ومسألة تعديل الملامح تنطبق أو تقارب نموذج مثالي متفق عليه في مجتمع ما، على الرغم من أن السينما كانت الناشر الأشهر للنموذج المثالي، تنشر موضة الثياب وموضة الحواجب والشعر وغيرها من التفاصيل. التعديل فكرة أصيلة وطبيعية في رأس الإنسان. فمعظم البشر وقف، مرة واحدة في الأقل، أمام المرآة وتأمل ملامحه، ثم مد يده ليغيّر شكل العينين أو يضغط الأذنين لتبدوان أقرب إلى الرأس. كما أن تعديل الصور لا يخص قضايا الجمال فقط، بل ينسحب الأمر إلى غايات أخرى قد تكون سياسية وإعلامية وإعلانية كذلك، فحتى إعلانات الطعام تخضع صورها للتعديل لتنطبق السلعة مع الشكل النمطيّ والمثالي. فأنت ستصدم تماماً بشكل شطيرة الهامبرغر حين تراها في الواقع، وستصرخ في سرك: لا لا ليست هذه ما جعل لعابي يسيل حين رأيتها في الاعلان.

لم تكن السياسية وألاعيبها الإعلامية الدعائية بعيدة عن ميدان التعديل والتلاعب بالصور. يروى مثلاً كيف أمر لينين بزيادة الجمهور في صورة قبل نشرها

لم تكن السياسية وألاعيبها الإعلامية الدعائية بعيدة عن ميدان التعديل والتلاعب بالصور. يروى مثلاً كيف أمر لينين بزيادة الجمهور في صورة قبل نشرها. حيث التُقطت الصورة لخطاب يلقيه في ساحة عامة ولم يكن هناك عدد كافٍ من الناس الذين يستمعون اليه. وعلى نفس الخطى، لم يكتف ستالين بشيطنة تروتسكي بل أمر بإخفائه من صورة شهيرة لخطاب أقامه لينين في ساحة سفيردلوف في موسكو. تُبيّن الصورة وحدات من الجيش الأحمر تجمعت في 5 مايو 1920، يقف في وسط الساحة حول منصة خشبية فلاديمير إيليتش لينين، تحت حراسة تروتسكي وكامينيف. تم في الصورة المعدلة استبدال تروتسكي وكامينيف بعدة درجات خشبية، وهكذا يكون إبعاد ونفي تروتسكي مكتملاً. وقد نشرت صحيفة لومومند (Le monde) بتاريخ 20/7/2009 خبراً تؤكد فيه عدم صعود الإنسان على سطح القمر وأن الصور التي نشرتها ناسا (Nasa)؛ وكالة الفضاء الاميركية، هي غير صحيحة ومفبركة في الاستوديو.

في العموم، اختفت مصداقية الصورة ولم تعد هي الحقيقة كما كان يروج لها، بسبب إمكانية التلاعب بتفاصيلها عبر برامج متخصصة لها فعل السحر. إلا أن هذه التهمة لم تظهر مع العصر الرقمي، فحتى الثمانينيات كانت المواد المستعملة هي المونتاج والغواش والحبر الصيني وغيرها لتحرير وإزالة الشوائب والأشخاص غير المرحّب بهم في الصورة. كما أن السيلفي ليس جديداً من حيث المبدأ، فهناك رغبة قديمة منذ بداية الرسم في أن يرسم الشخص نفسه. وقد اشتهرت لوحات رسامين مشاهير رسموا أنفسهم، ولم يخلُ عملهم من التلاعب سواء برغبات شخصية أم تحت مسمى الفن وشطحاته.

نبه الباحثون في جامعة بوسطن الأميركية إلى أن 55% من جراحي التجميل استقبلوا مرضى يريدون إجراء عمليات في الوجه لتحسين مظهرهم في صور السيلفي

لا أحد، بما في ذلك المؤمنون، مهتماً لجملة الله الشهيرة "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ". فالمؤمن متفق على المبدأ، لكنه مهتم بتفاصيل مختلفة. ويجب أن يضيف أو يعدل ويشارك بالخلق. ثمة دراسات علمية جادة أكدت وجود علاقة وثيقة بين زيادة الإقبال على عمليات التجميل في الآونة الأخيرة واستخدام تطبيق سناب شات. نبه الباحثون في جامعة بوسطن الأميركية إلى أن 55% من جراحي التجميل استقبلوا مرضى يريدون إجراء عمليات في الوجه لتحسين مظهرهم في صور السيلفي. مما يؤكد على أن معايير الجمال التي فرضتها وسائل الإعلام الاجتماعية وتطبيقات تنقيح الصورة شجعت على انتشار ظاهرة "جراحة السيلفي". واعتاد أطباء التجميل فيما مضى طلبات زبائنهم الراغبين بالتشبّه بأحد المشاهير والنجوم. لكن اليوم بات زوار عيادات التجميل يرغبون بأن يصبحوا مثل نسختهم المعدلة بفلاتر "سناب شات" و"أنستغرام" وغيرها من التطبيقات التي تدخل تعديلات كبيرة على ملامح وجه مستخدميها. وقد تزعزع تطبيقات تعديل ملامح الوجه الصحة العقلية. حيث يشير تقرير نُشر في المجلة الطبية الأمريكيةJAMA Facial Plastic Surgery إلى أن تلك التطبيقات قد تحفز اضطرابات تشوه الجسم  BDD، وهي اضطراب في الصحة العقلية يتخيل المصاب بها عيوب غير موجودة في جسده ويقتنع ببشاعته، ما يسبب له ضيقاً وحزناً كبيرين، يصل حد الاكتئاب ومحاولة إيذاء النفس.

ليس لأمي صورة في ليلة زفافها، لذلك أسمح لخيالي أن يراها أجمل عروس في الكون، معتمداً على عشقي لها، وعلى وصفها الدقيق لحظة تروي لنا تفاصيل العرس وماذا قالت نساء القرية عن خصرها وشعرها ولون بشرتها وعن غيرة عماتي. بينما يبتسم أبي ابتسامة حلوة وينظر إليها كأنما يقول: "بل كنت أجمل مما تصفين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard