شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
فيلم

فيلم "كيف أصبحت جدتي كُرسياً"... بصيرةُ التحوّل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 17 مايو 202110:16 ص

نقرأ في وصف فيلم نيكولا فتوح " كيف أصبحت جدتي كرسياً" التالي: "الجدة تفقد حواسها الخمس واحدة تلو أخرى إلى أن تتحول إلى كرسي خشبي. خلال تحولها تدرك أن عاملة المنزل لديها ليست حيواناً متوحشاً كما كانت تظن، بل هي فرد الأسرة الحقيقي، المهتم والقويّ، ذاك الذي كانت تبحث عنه الجدة".

العبارة الأولى الكافكاويّة، تخلق لدينا أفقاً بما سنشاهده، ففيلم التحريك القصير الذي يستضيفه "مهرجان الفيلم العربي" في برلين هذا العام يثير القشعريرة، إذ نشاهد منزلاً على شاطئ ما، يتشاجر فيه أفراد الأسرة بشقاوة حول الطعام، وبينهم قطة/ وحش، يهابها الجميع وتهابهم، حتى الجدة، تلك التي ما إن يغادر أفراد أسرتها المنزل، حتى تبدأ رحلتها نحو الخشب.

تظهر موضوعة التحوّل بوضوح في الفيلم عبر أشكال الشخصيات وغياب اللغة، فأفراد الأسرة أشبه بالدجاج الذي يتشاجر بينما عاملة المنزل، القطة، هي من تنهرهم، لكن ما إن يغادروا حتى تبدأ الجدة بالتخشب، تفقد السمع والشم والذوق وهكذا إلى أن تصبح "كرسياً"، يرافق ذلك تحول عاملة المنزل، من قطة إلى فرد حنون يداري الجدة ويدلل ما تبقى من حواسها، وكأن تلاشى "أنا" الجدة، أي فقدانها لقدرتها على إدراك نفسها في العالم يترافق مع تغيّرين اثنين.

الأول انفضاض الأسرة من حولها، والثاني حوّل العاملة إلى فرد من هذه الأسرة، أو أعاد الاعتراف بها كفرد، الأهم، أن هذا التحول لا يعني أن الجدة شأن من شؤون المنزل الذي تداريه العاملة، بل فرد تغير أسلوب إدراكه لذاته وما حوله.

هذا التحول يعيدنا مفهوم الوحش الثقافي، تلك الفئة التي تحوي المهمشين والصامتين، الذين لا لغة لهم، والذي يتمثل في حالتنا هذه بالعاملة و انقلابها إلى فرد، مفعلةً عبر تحولاتها خصائص الوحش، إذ لا تقترب عاملة المنزل من طاولة الطعام أثناء وجود الأسرة، هي "ممنوعة" عنها، كالوحش المنفي من مساحة الجماعة إلى الهامش المعزول.

الجدة في فيلم "كيف أصبحت جدتي كُرسياً" تفقد حواسها الخمس واحدة تلو أخرى إلى أن تتحول إلى كرسي خشبي. خلال ذلك التحول تدرك الجدة أن عاملة المنزل الموجودة معها ليست حيواناً متوحشاً كما كانت تظن، بل هي فرد الأسرة الحقيقي الوحيد الذي تحتاجه

وما إن يبدأ تحول الجدة إلى خشب حتى تقترب العاملة من الطاولة، وتجد لنفسها تعريفاً ضمن الجمع الغائب، بوصفها ذاك الذي بقي، وكلما تلاشت حواس الجدة كلما اكتسب الوحش إنسانيته، وهنا تظهر السياسات ضمن الأسرة، تلك التي لا تقبل ضمنها إلا من يمتلك رابطة الدم حتى لو كانت هذه الرابطة تَعِدُ بالخذلان، وضمن هذه الرابطة يترك الغريب غريباً إلى لحظة العوز، تلك اللحظة التي يفقد فيها الجسد الإنساني قدرته على الاستقامة والاستمرار، وهنا عوضاً عن التوحّش، تظهر الحقيقة:

العاملة فرد حنون وذو مشاعر، أما الوحش فغشاوة على البصر، وفئة سياسية نجمع على تعريفها وليست خاصية جوهرية، فلا وحش إلا من نبصره كذلك، ونون الجماعة هنا تعود علينا نحن، من ينطبق علينا تعريف الأسرة النووية، تلك التي تنقل أخلاقها ومالها إلى الجيل التالي، نافية المتأخرين في العمر، وكأنهم فقدوا دمهم وأصبحوا جزءاً من الأثاث.

يجتاح البحر المنزل على الشاطئ، والجدة التي أضحت كرسياً ينتهي بها الأمر في عمقه، والمثير للاهتمام أن الكرسي الخشبي لا يطفو، بل يختفي في البحر، لتسبح عاملة المنزل وتستعيده.

هذا الغرق بمعانيه المجازيّة ربما دلالة على أن الجدة تجاوزت كونها أثاثاً أو غرضاً منسياً لتصبح "فضلةً"، أو كتلةً لابد من تلاشيها، خصوصاً أن واحداً من أحفادها أو أولادها هو الذي رماها في البحر، لا فقط ليتخلص منها جسداً، بل لنفى أي حضور لها، وهنا نستعيد العلاقة مع العجائز في بعض البلدان، فالفضاء العام غير مؤهل لهم، ويحكم عليهم بالتلاشي داخل المنزل بوصفهم عاجزين عن الحركة، ككرسي لا فائدة منه، أما الخارج فهو لحظة الموت، حيث لا طفو ولا مشي.

فيلم "كيف أصبحت جدتي كرسيّاً" الذي صدر العام الماضي يحاكي بعض ما نشهده الآن في الحجر الصحي، حيث الوباء يستهدف العجائز والكبار في السن، يحكم عليهم بالاختفاء في منازلهم

الفيلم الذي صدر العام الماضي يحاكي بعض ما نشهده الآن في الحجر الصحي، حيث الوباء يستهدف العجائز والكبار في السن، يحكم عليهم بالاختفاء في منازلهم، وإن أصيبوا تهدد حواسهم، فالشم أول ما فقدته الجدة في الفيلم، ومع تلاشي حواسها تغرق في الوحدة، ومن كان غريباً ووحشاً بالنسبة لها أصبح المعين والمحب والمُنجي من الغرق، وكأن التباس حواس الشخص أو اختلافه عن الوضع "الطبيعي" والعلاقات الطبيعية يجعله خارج دائرة التعاطف، متروكاً لنجاته وحنان الغرباء، وهذا ما يثير الاهتمام في نهاية الفيلم.

فبعد اكتمال التحول والطرد من المنزل الذي اجتاحه البحر، تحمل عاملة المنزل الكرسي/ الجدة على ظهرها و تمضي بعيداً، وما كان شبه بيت وشبه أسرة أصبح ثقلاً على ظهرها، لكنه ثقل خفيف، ذاكرة حياة أفضل وسلوان في درب البحث عن بيت آخر ربما، بيت قد تحمل منه وسادة أو كأساً أو كرسياً آخر ربما، فلا مكان للوحش إلا الخارج (المنفى والطريق) المحكوم بالمصادفات و الغرباء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image