شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رشيد ثابتي... العميل الوسيم الذي مكّن الجزائر من تأميم نفطها

رشيد ثابتي... العميل الوسيم الذي مكّن الجزائر من تأميم نفطها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 18 أغسطس 202204:47 م
Read in English:

Rachid Thabti: Algeria’s dashing secret agent who nationalized the oil industry


يسميه البعض "جيمس بوند" الجزائر. العميل السري للاستخبارات الجزائرية فرع الأمن العسكري SM، الأخطر، والأكثر شهرة الذي عرف كيف يضع سحره وجاذبيته ومواهبه المتعددة في خدمة بلاده. فالدور الذي لعبه رشيد ثابتي خدمة لمصالح بلاده القومية، وساعدها على الاستقلال الاقتصادي الكامل عن فرنسا، باستحواذها على قطاع النفط لصالح الدولة الفتية الجزائرية التي قامت بعد انتصار الثورة بين عامي 1954-1962، بعد الشروط المجحفة التي نصت عليها معاهدة (إيفيان- 1962)، والتي أبقت السيطرة الفرنسية على موارد الثروة النفطية في الجزائر.

ففي عام 1971، رسمت الجزائر خطاً سياسياً خاصاً بعد الحقبة الاستعمارية من خلال عملية التأميم لمصادرها النفطية، التي كانت تسيطر عليها الشركات الفرنسية على أثر إنهاء المفاوضات بشكل منفرد من الجانب الفرنسي الذي أصابته الدهشة من سيرها والمعلومات الدقيقة التي أبرزها الوفد الجزائري، بفضل التسريبات والوثائق السرية التي وصلت لجهاز الاستخبارات الجزائرية عن طريق ثابتي، الذي تمكّن من التغلغل واختراق أكثر المؤسسات الفرنسية السيادية سرية، وتأمين المعلومات الكافية لإدارة ملف المفاوضات مع الفرنسيين بشكل مثير للدهشة.  

في عام 1971، رسمت الجزائر خطاً سياسياً خاصاً بعد الحقبة الاستعمارية من خلال تأميم مصادرها النفطية، التي كانت تسيطر عليها الشركات الفرنسية، على أثر إنهاء المفاوضات بشكل منفرد من الجانب الفرنسي الذي أصابته الدهشة من المعلومات الدقيقة التي أبرزها الوفد الجزائري

من هو رشيد ثابتي؟  

ولد رشيد في مدينة قسنطينة شرق الجزائر في السابع عشر من مايو/أيار 1930 لعائلة مسلمة ثرية. أمضى شطراً كبيراً من حياته فيها، قبل أن ينتقل لفرنسا معية عمه حسين بلالوفي لمتابعة دراسته. وفي سن العشرين حصل على شهادة البكالوريا، ليلتحق بجامعة باريس- قسم القانون.

 في مقالة لنور الدين خلاسي عم رشيد ثابتي، في صحيفة (اندبندت) البريطانية، نشرت في 15 يناير/تشرين الثاني 2021 يذكر أنه إضافة لدراسته، شُغف ثابتي بممارسة رياضة الملاكمة، التي تفوق فيها حاصداً بطولة فرنسا للجامعيين في عام 1953. وجائزة (كريتويوم) للهواة في عام 1954-1955. قرر بعدها احتراف هذه اللعبة، لكن إصابته بالربو التحسسي جعلته يقلع عن ممارستها ليعود إلى مقاعد الدراسة وينال إجازةً بالحقوق، ودبلوماً من معهد الدراسات السياسية في باريس، ثم دبلوماً من معهد الدراسات الدولية في باريس أيضاً، مطلع الستينيات من القرن الماضي.

 لكسب رزقه، عمل  مدرساً للتربية البدينة في مدرسة (ألبير كامو) الثانوية في كوربفوا. ثم اتجه نحو التمثيل في عدة أفلام فرنسية وأمريكية بأدوار صغيرة وكمُخاطِر (دوبلير). وظهر إلى جانب ممثلين كبار أمثال جان مارسياس في فيلم la comte de monte-cristo، و ماريان كارول في فلم Nana. الأمر الذي سمح  له بدخول أكبر وأفخم صالونات باريس، ما أتاح له التقرب من أبرز الشخصيات السياسية والفنية والاجتماعية، إضافة لإتقانه خمسة لغات حية هي: العربية، الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، والإسبانية. لم تكف كل تلك الثقافة والقدرات البدنية، طموحات ذلك الشاب الجذاب المتفاخر، ليتجه بعد شعوره بالرتابة إلى ميدان آخر هو العمل السياسي، ملتحقاً بوزارة الخارجية الجزائرية، ثم جاسوساً تم تجنيده لصالح بلاده.

جبهة التحرير الوطني الجزائري، هي من انتبهت لمقدرات ثابتي ومواهبه، وبالتالي، تجنيده لصالحها في عملية تسريب الوثائق الخاصة بالتفاوض مع الفرنسيين بعد الاستقلال

أمير مرمرة

يشير تقرير نشره موقع كاليفورنيا 18 في 27 يوليو/تموز 2022 أن جبهة التحرير الوطني الجزائري، هي من انتبهت لمقدرات ثابتي ومواهبه، وبالتالي، تجنيده لصالحها في عملية تسريب الوثائق الخاصة بالتفاوض مع الفرنسيين بعد الاستقلال. فبرأي حزب الجبهة إن جاذبيته ووسامته جعلتاه قادراً على تقمص وأداء كل الأدوار اللازمة لنجاح مهمته، وكان عراب هذا الاتصال الجنرال قاصدي مرباح، الذي قاد جهاز SM بين عامي 1962-1979.

الرواية الثانية الخاصة بتجنيد رشيد أو"ريتشارد" أو"توني". وهي أسماء مستعارة استخدمها العميل ثابتي لتنفيذ مهمته، يعزوها لرغبة شخصية من ثابتي نفسه. ويذكرها رشيد في مقالة لرشيد فيلالي منشورة في صحيفة الشروق الجزائرية في 12 مايو/آيار 2006. إذ حكى أنه التحق أول الأمر في السفارة الجزائرية في فرنسا سنة 1964. وعمل بها كسكرتير تحت يد بوعلام موساوي، السفير الجزائري في باريس قبل أن ينتقل إلى وزارة الخارجية في العاصمة الجزائر، حيث أنه سرعان ما ترك المكان لاعتلال صحته بسبب الربو نتيجة مناخها، ليعود بعد ذلك إلى باريس.

عند عودته إلى باريس، قام بمراسلة وزير الخارجية، ليخبره بأنه مستعد وقادر على تقديم معلومات سرية للغاية ومثيرة للاهتمام حول العلاقات الاقتصادية الفرنسية الجزائرية. وأرفق ذلك بصور لمذكرات الدبلوماسية التي حصل عليها، ما شجع جهاز الاستخبارات الجزائري على تجنيده.  

لولا مكالمة من صحيفة محلية، لما علم الجزائريون بنضال جاسوسهم الوسيم

ولإقناع الأوساط الفرنسية، انتحل ثابتي شخصية أمير جزيرة مرمرة التركية، ليبدو عليه الثراء الفاحش، وأنه يمتلك قصوراً وعقارات في معظم أرجاء العالم. ثم دعوة أصدقائه إلى أحدها، في الجزائر نفسها. تحديداً قسنطينة مسقط رأسه، حيث منزل عائلته الذي بدا بفضل الهندسة المعمارية الرائعة، وكأنه أحد قلاع الارستقراطية. ولتبدأ عملية الإغواء المخطط لها نحو بياتريس هيليغوا، ولخطب ودها، كونها السكرتيرة الخاصة لرئيس الوفد الاقتصادي الفرنسي المفاوض جان بييربرونيه، الذي شغل أيضاً منصب رئيس شركة "أراب" التي استحوذت على حقول النفط الجزائرية.  

انبهرت العشيقة الحسناء بهذا السحر الشرقي. وعند العودة إلى باريس، ترسخ اعتقادها في أن رشيد هو بالفعل أمير ثري، وبالتالي، ارتبطت معه بـ"خطبة صورية"، مع وعود وردية بالزواج. ثم عاشا معاً في شقته الفاخرة جداً بالدائرة السادسة عشرة، وهي من أحياء باريس الراقية، وقد وضعتها السلطات الجزائرية تحت تصرف رشيد.

عمل رشيد على استثمار هذا العلاقة العاطفية المفبركة بأفضل صورة، إذ واصل اختراقه رفقتها لأسوار قصر الإيليزيه، وعبّ من هذا الفضاء السياسي المحكم الإغلاق ما طاب له من أسرار خفية، كما واصل معها التردّد على كبرى الصالونات التي خبرها سابقاً. ولكن بصورة "أمير مرمرة".  

مهندس التأميم الخفي

تذكر صحيفة لوموند الفرنسية في تقرير مؤرشف يعود إلى 29 أكتوبر/تشرين الأول 1970. أنه "في أصل قضية التجسس المتهم بها السيد رشيد طبطي، فإن شبكة المخابرات الصغيرة التي كان هو القطعة الرئيسية فيها لم تكن لترى النور أبداً بدونه، وبدون الجهود التي بذلها لتقديم خدماته إلى سلطات بلاده".

فقد تمكن رشيد عن طريق بياتريس التي أغواها بالوعود والحب، من الحصول على معلومات غزيرة عن كل عمل من أعمالها. واستطاع من خلالها تسريب ما يزيد عن 4000 وثيقة بغاية السرية وصلت إلى مكاتب المسؤولين الجزائريين. يسمح رشيد على وجه الخصوص بمعرفة رمز السفارة الفرنسية في الجزائر العاصمة، والتي عرفت تخفيض قيمة العملة بنسبة 12.50٪ قبل وقت طويل من صدور المرسوم الخاص بالتأميم، وبالتالي، بتحويل جميع احتياطياتها إلى العملات الفرنسية والعملات الصعبة الأخرى.

 في التقرير السابق ذكره لنور الدين خلاسي، يذكر ما يقوله المحامي الباريسي الشهير تيكسييه فينانكور: "كان لدينا انطباع واضح لدى الجانب الفرنسي بأن التعليمات السرية من باريس، كانت معروفة للشريك الجزائري حتى قبل أن نجلس حول المائدة المستديرة"، ويضيف: "لقد تم حل اللغز بفضل جزء مجهول من المعلومات المرسلة إلى DST (جهاز الاستخبارات الفرنسية). في أصل الوقائع، حسب الاتهام، امرأة فرنسية، بياتريس هيليغوا، سكرتيرة الشؤون الاقتصادية".

عندها شعر الجانب الفرنسي بأن أمراً ما يحصل في كواليسه، قامت الاستخبارات الفرنسية بملء مكتب مدير المفاوضات الفرنسي بالميكروفونات، وسقطت بياتريس  "ضحية الحب والطمع"، التي كانت تتبادل المكالمات والمراسلات مع رشيد ثابتي في الفخ المنصوب، ليتم القبض عليها وعليه في كمين محكم، وصدم توقيفه وزراء وأثرياء ونجوم وعلماء فرنسا وقصر الإليزيه، الذي كان يدخله وكأنه ملك له.

وزُج برشيد في السجن الجنائي في باريس، حيث تلقى حكماً بالسجن لمدة عشر سنوات بتهمة التجسس الاقتصادي، ولم ينعم بحريته إلا في عام 1973 مقابل جاسوس فرنسي كان لدى الجزائر، هو الدكتور داميان، وقد استبدلت الجزائر بـ 35 فرنسياً مسجوناً في الجزائر، 11 منهم بسبب نفس الأفعال. وقرر رشيد ثابتي وكان عمره 43 عاماً، اعتزال مهامه السياسية، ليعود إلى ممارسة المحاماة في الأبيار بالجزائر العاصمة.

نهاية العميل الأنيق

في أخر أيامه عانى رشيد من مرض باركنسون (الشلل الرعاش)، إذ كان يعيش مع أسرته الصغيرة في حي الإيبار في العاصمة الجزائر. ويكشف تقرير لصحيفة الشروق اليومي في عام 2006. أنه تعرض للنسيان، إذ توفي في يوليو/تموز عام 2009، أثناء الاحتفال بذكرى الاستقلال عن فرنسا.

الغريب أنه لولا تقرير الشروق اليومي في 12 مايو/آيار 2011، والمعنون بـ" وفاة أشهر جاسوس للجزائر رشيد ثابتي منذ عامين ولم يعلق أحد"، ما علم أحد بوفاته. يقول التقرير في مقدمته: "كانت مجرد مكالمة عادية أجرتها الشروق اليومي مع عائلة المناضل الجزائري رشيد ثابتي، للاطمئنان على أحواله وقد قارب الثمانين من العمر، كافية لأن تكشف حقيقة نسيان من صنعوا جزءاً مهماً من تاريخنا الحديث، حيث علمنا من زوجة المعني، أنه توفي في جويلية عام 2009، ولا أحد يعلم برحيله". وتتابع الصيحفة في وصف هذا النسيان الغريب قائلةً: "بدليل أننا سألنا مجموعة من كبار المسؤولين عن رشيد ثابتي، فأكدوا أنهم لم يعلموا برحيله على فراش المرض وحيداً رفقة زوجته وابنه فقط، في منزله بحي الأبيار، عن عمر ناهز التاسعة والسبعين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard