شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
شعبية مضيئة أمام ظلام الهامش... عن موسيقى

شعبية مضيئة أمام ظلام الهامش... عن موسيقى "القصبة والبندير" في الجزائر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 23 مايو 202211:49 ص

ولّد الامتداد الجغرافي الشاسع للجزائر (عاشر أكبر دولة في العالم) ثقافة موسيقية ثرية ومتنوعة ومختلفة من منطقة لأخرى، انطلاقاً من تعدد الألسن والمرجعيات والعادات والتقاليد والنظم المجتمعية الموروثة جيلاً بعد جيل، فلكل جهة طقوسها الاحتفالية وموسيقاها الخاصة وطبوعها الغنائية التي تميزها عن باقي جهات البلاد الواحدة؛ فمثلاً من يعيش في الغرب الجزائري لا يستطيع فهم كلمات الفلكلور الشرقي، والذي يسكن الجنوب في المدن الصحراوية لا يستطيع أن يفهم كل الطبوع الموسيقية في الجزائر، وقس على ذلك الجغرافيات الأخرى، وهو أمر لا يفسد للموسيقى قضية، ما دامت كل جهة تحافظ على خصوصيتها، أو تأخذ من الأخرى ما يطورها و يضيف لها.

ومن منطق الأشياء تلعب المؤسسات الرسمية كوزارة الثقافة والفنون مثلاً، أو القنوات التلفزيونية، خاصة الوطنية منها، ومختلف وسائل الإعلام الأخرى، دوراً محورياً في خلق نفس المساحة لكل لون موسيقي، والعمل على حفظه وتطويره والتشجيع عليه، للتعريف به محلياً ودولياً، لكنها عندما تصبح تُغلّب لوناً موسيقياً على آخر، تعطيه المتن، وتترك البقية في الهامش، ولا تتطرق لهم إلا على سبيل الاستئناس أو لذرّ الرماد في العيون، فعند ذلك يتحول الأمر إلى مشكلة محورية.

موسيقى الهامش لا تُطرب

ساهم هذا التفضيل والتغليب، على خلق ذائقة عرجاء، وقتل التنوع في السماع والتذوق بين الجمهور، وهو الأمر الذي خلق ثنائية ضدية ومعادلة تفضيلية خطيرة، إذ بات أصحاب اللون الموسيقى الذي تشجعه المؤسسات الرسمية، مثل أصحاب موسيقى الراي، الذي فُرض على الجمهور الجزائري من خلال التكريس الذي خلقته المهرجانات المتخصصة فيه، والجلسات الإعلامية والتفضيل الظاهر.

ولّد الامتداد الجغرافي الشاسع للجزائر ثقافة موسيقية ثرية ومتنوعة ومختلفة من منطقة لأخرى، انطلاقاً من تعدد الألسن والمرجعيات والعادات والتقاليد والنظم المجتمعية الموروثة جيلاً بعد جيل

وقد استولى هذا اللون الغنائي (الراي) على الصدر وترك الأطراف لباقي الطبوع الموسيقية، واكثر من هذا ساهمت في خلق منطلقات تفضيلية بين باقي الطبوع الموسيقية، وهناك من بات يرى بأنها غير جديرة حتى بالسماع، ولا تستحق الاعتناء والاهتمام والبث والحفظ والترويج والتعريف برموزها والاحتفاء بهم، كما يتم الاحتفاء بباقي الطبوع، مثل المالوف والحوزي وغيرها من الألوان الموسيقية التي يُعتقد بأنها يجب ان تحتل المقدمة دائماً، خاصة وأنها تنطلق من المدن والمناطق الحضرية، أما البقية فالهامش يليق بها، انطلاقاً من مفهوم خاطئ وخطير وهو أن موسيقاهم لا تليق بروح التمدن والعصر والحداثة، ولا تساير الزمن ولا تقف على تفاصيله.

ومن بين هذه الطبوع الموسيقية التي تم تهميشها وتجاهلها، هي ما يطلق عليها "القصبة والبندير" أو "القصبة" أو "الغناء الشاوي"، وهو فن يمتاز به سكان الشرق الجزائري، غناءً وسماعاً، وتستعمل فيه" القصبة"، وهي آلة نفخية يتم صناعتها من نبات القصب، إضافة إلى "البندير"، التي تضبط إيقاع هذا الفن، وهي آلة مصنوعة من جلد الماعز.

أما العنصر الأساسي فهو المغني الذي يطلق عليه عادة تسمية "الشيخ"، وهي كنية تطلق في الأصل على من يحفظون القرآن الكريم، ويدرسون الفقه، والأساتذة والموظفين الكبار، ولقد تم توسعة هذه الكنية لتشمل المغنين، احتراماً لما يقومون به، وتبجيلاً للموسيقى التي يمارسونها.


استطاع فن القصبة والبندير أن يقاوم الزمن ويصمد طويلاً، وقد كان في فترة ما من تاريخه، خاصة خلال الفترة الاستعمارية، لسان حال المجتمع الجزائري الذي كان يعيش كل الظروف المأساوية، نتيجة محاولة الاستعمار سلخه عن هويته وتجويعه وتشريده وتجريده من كل عوامل الهوية. لكن هذا الفن كان دائماً الملاذَ الآمن؛ يستعمون له، ويوظفونه في أفراحهم وأعراسهم ومناسباتهم المميزة، كتعبير منهم على مواصلة العيش وخلق شعور الفرح، حتى يغطوا به الحزن الذي زرعه بينهم الاستعمار الفرنسي خلال فترة تواجده (1830-1962).

ومن بين تلك الأسماء التي حفرت عميقاً في هذا الفن، هو عيسى الجرموني (1885-1946)، واسمه الحقيقي عيسى بن مرزوق بن رابح، وقد استطاع هذا الفنان أن يبهر بصوته الجهوري والنادر والمميز والطربي الأجانبَ والفرنسيين والأهالي الجزائريين من عرب وأمازيغ، ويتحول الى تميمة فنية تعلق على جيد كل عاشق ومحب، حتى أنه كان أول جزائري يغني على مسرح الأولمبيا العريق في فرنسا، عام 1936.


سجل الجرموني في مساره العديد من الأغاني والألبومات، لا تزال حية في وجدان محبيه إلى غاية اليوم، يتم إعادتها من قبل فنانين آخرين، أو يتم بثّ الأصلية في الأعراس والأفراح. هو الذي تغلّب على الهامش، على عكس آخرين، مثل بقّار حدّة، الشيخ محمد بورقعة، فطيمة السوڤهراسية، شواي ابراهيم، محمد لوراسي، على الخنشلي، نيرير الطيب، محمد البيضي وغيرهم كثر.


الشيخ بورقعة، صاحب البرنوس الأسود، يتوسط فرقته

أغانٍ للثورة والحب والمجون

ساهمت الثورة الرقمية في الكشف على المئات من أغاني "القصبة والبندير" التي كاد أن يطالها النسيان، وأهملت لعقود من الزمن، لكن محبي هذا الفن وعشاق بعض الأسماء التي صنعت مجد هذه الأغاني أخرجوها للعلن، بعد أن تمت رقمنتها، ونشرها في مواقع الأنترنت المتخصصة، وبصيغ مختلفة، إذ بات بوسع أي فرد، وبنقرة واحدة أن يسمع الأغنية التي يحبها ويناصرها، دون أن يمارس عليه أي شكل من أشكال الرقابة، لأن بعض الباحثين ممن يهتمون بالتراث والفولكلور الغنائي، أرجعوا سبب تناسي وركن تلك الروائع الموسيقية في الغرف المظلمة إلى الأغاني التي تحتوي على كلمات اعتبروها خادشة للحياء، لهذا لم يتم بثها في التلفزيون او الراديو، ولم يتم الاحتفاء بها كما ينبغي من طرف المؤسسات الرسمية.


ولم يشفع لهؤلاء تاريخهم الحافل ودفاعهم ودعهم الكبير للثورة الجزائرية والجزائر بشكل عام أثناء التواجد الفرنسي، بتطرقهم من خلال العشرات من الأغاني لهذه الفترات التاريخية المفصلية، والتي ساهمت في رفع المعنويات لدى الشعب، والتعريف بالثورة ودور المقاومة، مثل أغاني بقَّار حَدَّة (1920-2000) التي غنت العديد من الأغاني، مثل "الجندي خويا" و"جبل بوخضرا" و"دمو سايح".

اتجه سكان الأرياف صوب الموسيقى التي يفهمون كلماتها ويستوعبونها، والتي تروي تفاصيل حياتهم وقصصهم اليومية

وهذا ما فعله أيضاً الشيخ محمد بورقعة والعديد من الأسماء، لكن لم يشفع لهم هذا الدعم بعد استقلال الجزائر، لهذا واصل كل واحد منهم طريقه في الفن بالمقتضى الذي أراده، فقد تغنوا بالحب والعشق، ومارسوا الحرية الإبداعية في أكمل صورها، وقد أحبهم جمهورهم انطلاقاً من هذا المعطى، لهذا نجد في أغانيهم تلك الكلمات القوية التي تتغنى بالجسد وتفاصيل الحب ووصف الحبيبة وشوقها لحبيبها أو العكس. وأحيانا يتم حتى التفصيل في تلك العلاقة الجسدية عن طرق الكلمات المغناة، لهذا توسعت رقعة محبيهم في القرى والأرياف، وأصبحوا مع الوقت المتنفس الوحيد الذي يعبر عن ما في قلوبهم من أشواق.

أعراس القصبة والبندير

يعيش معظم سكان القرى والأرياف حياة صعبة، نتيجة اعتماد معظمهم على المهن الشاقة التي توفرها الطبيعة الصعبة التي يقطنون فيها، مثل الفلاحة، والرعي، وممارسة الحرف، وهي المعطيات التي جعلت أغلبية هؤلاء أميين، لا يجيدون القراءة والكتابة، خاصة خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وبعد الاستقلال بقليل، لذلك انحصرت مباهجهم وأفراحهم، وذهبوا صوب الموسيقى التي يفهمون كلماتها ويستوعبونها، والتي تروي تفاصيل حياتهم وقصصهم اليومية، وقد وجدوا ضالتهم في أغاني القصبة والبندير، لهذا أصبحوا يقدسون شيوخها ويبجلونهم، ويعبرون من خلالهم على أفراحهم الكبيرة، مثل الزواج، والختان، وغيرها من المناسبات الاجتماعية المهمة.

تعكس كل عائلة فرحها من خلال ما تقدمه من طعام، أو الفرقة الموسيقية التي تجلبها لإحياء مناسبتها، وهي في الأغلب فرقة قصبة وبندير. وتتكون عادة هذه الفرقة من عازف قصبة وبندير، أو أكثر من عازف، إضافة إلى الشيخ الذي يغني، والبرّاح، وهو الشخص الذي يصوغ كلاماً مقفى ومشبعاً بالحكم والامثال، لتحفيز الحضور على دفع المال، لاختيار الأغنية التي يريدون سماعها، كما يخلق التنافس بين الحضور لجمع أكثر قدر من المال.

عادة ما تجتمع الفرقة تحت خيمة كبيرة، يصطفون خلف طاولة بسيطة، بسماعة ومكبر صوت وساحة تحيط بها الأضواء، فيما يأتي عشاق هذا الفن، يشقون الدروب والجبال والوديان من أجل الوصول إلى العرس المقام، وتزيد حماسة الحاضرين عند رؤيتهم الراقصات، وعادة ما تتراوح أعدادهن من واحدة إلى ثمانٍ أو عشر أو أكثر، إذ يقمن في بداية العرس بوضع نقاب يغطي وجوههن، في انتظار أن يقدم لهن المال الكافي لإزالة ذلك النقاب، وعادة ما يكون هذا بعد مرور ساعات الليل الأولى، عندما يتعب الأطفال ويعودون إلى بيوتهم، ويبدأ الكثير من الحاضرين في شرب الخمر، خاصة وأنها فرصتهم الوحيدة لفعل هذا.

انتهت حياة المطربة بقّار حدّة بطريقة مأساوية جداً، حيث عاشت حياة التشرد في الشوارع، لينتهي بها المطاف في قبو أحد المنازل مصابة بمرض الزهايمر، فماتت في تلك الحالة بعيدة عن الأضواء

وكل هذا بصحبة الفنان الذي يطرب الحضور ويسحرهم بصوته وكلماته وانفعالاته، وانطلاقاً من هذا الطقس الاحتفالي تزيد أهمية صاحب هذا العرس، لأنه استطاع ان يجلب الشيخ الفلاني مثل محمد بورقعة، أو بقّار حدّة، أو علي الخنشلي، أو فرقة موسيقية ذاع صيتها في المناطق المحيطة. ويحدث أن يملك الشيخ مثل بورقعة مثلاً، عشاقاً له، يتتبعونه في أي حفل موسيقي يقوم به، ويسافرون له مهما ابتعد عن مناطق سكنهم.


نهايات غير سعيدة رغم المسار المضيء

عاشت الفنانة الكبيرة بقَّار حَدَّة والتي عرفت أيضاً  بـ"حدّة الخنشة" نظراً لتشوه في أنفها، حياة مليئة بالأحزان والتحدي والتطلع، اذ زوّجها والدها وهي في سن الـ14، من شخص متقدم في السن، لهذا لم ترض بهذه الحياة القاسية، وأرادت ان تتحرر منها وتعبر عنها وعن أحزانها بالغناء، رغم أن هذا الأمر لم يكن متوارثاً، بل كان مرفوضاً بشكل كلي من قبل المجتمع، لأن الغناء كان حكراً على الرجال فقط. لكنها استطاعت أن تسحرهم بصوتها الشجي والحزين، الذي وسع رقعة شهرتها إلى العديد من المناطق.


غلاف أحد ألبومات المطربة بقّار حَدّة

عاشت حدّة قصة حب مع العازف على آلة القصبة، إبراهيم بن دباش، لكن أهلها رفضوا زواجها منه، فهربت معه، وتزوجت منه في ما بعد، وقد جمعتهما قصة حب لا تزال تروى إلى غاية اليوم. وكان بن دباش رفيقها في البيت، وفي الأعراس والأفراح، داخل الوطن وخارجه، إلى أن توفي عام 1988، وقد انتهت حياتها بطريقة مأساوية جداً، حيث عاشت حياة التشرد في الشوارع، لينتهي بها المطاف في قبو أحد المنازل مصابة بمرض الزهايمر، فماتت في تلك الحالة بعيدة عن الأضواء واهتمام المؤسسات الرسمية.


بقّار حدّة بعد أن تقدّم بها العمر

وهي نفس النهايات غير السعيدة التي تعرض لها الكثير من صناع الغناء البدوي أو القصبة والبندير كما يحلو لسكان الشرق تسميته، كما حدث مع الفنان الكبير على جلال المعروف في الوسط الفني علي الخنشلي (نسبة إلى ولاية خنشلة) (1916-2004) الذي رحل هو الآخر في صمت، رغم المسار المضيء الذي أسسه في التراث الغنائي (أسدى له رئيس الجمهورية السابق بوتفليقة وسام الجمهورية)، إضافة الى أسماء أخرى، مثل الشيخ محمد بورقعة، واسمه الحقيقي مساعدية أحمد بن محمد (ولد عام 1903).

ومن بين الأدلة على هذا التجاهل الكبير الذي عاشه هو أنه لا توجد معلومة عن تاريخ وفاته، وقد جمع الباحثان جلال خشاب وكبلوتي قندوز، معظمَ كلمات أغانيه في كتاب تحت عنوان "بورقعة" صدر عام 2011، عن دار نشر "فيسيرا" بالجزائر.

وذكر الباحثان في مقدمة الكتاب أن أغانيه "تشترك في رهافة الشعرية ومأساوية اللحظة والصورة والمعنى، أو بمعنى أشمل مأساوية الحياة بمجملها التي عاشها منذ أن وجد على دربها، عاشها بمكابدة ومعاناة وبكثير من التحدي في أن يواصل عيشها رغم قساوتها وحدّتها، فلم تكن الحياة التي أبصرها تحمل في طياتها بعض المرونة والفرح والهناء، إنما كانت لا تحمل إلا القسوة والجراح والمعاناة، ومع هذا عاشها بكل ما أوتيَ من رغبة وشغف".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image