شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لو كان الله يضمّنا ويشمّنا، هل كنّا أكثر إيماناً به؟

لو كان الله يضمّنا ويشمّنا، هل كنّا أكثر إيماناً به؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 20 أغسطس 202211:00 ص

كانت الديانات الماقبل توحيدية لا تمنع تصوير الآلهة، فالمرئي دليل على اللامرئي، فالتمثال أو اللوحة، أسواء كانت لعشتار أو زيوس، هي تجلّ لهما، وإن كان جوهر عشتار أو زيوس أعمق من الرسم أو النحت.

لم تبخل الديانات الوثنية في إلباس الآلهة صفات إنسانية، ليس أولها الغيرة عند عشتار ولا آخرها الخيانة عند زيوس، بل أخبرتنا عن شراب الآلهة المسمى النكتار الذي يمنحها الخلود. ووصفت لنا حركاتهم ودماءهم النازفة، وأن إله النوم قادر على جعل زيوس يغمض جفنيه ويغرق في نوم عميق. وعندما جاءت الديانات التوحيدية بدأت العمل على المباعدة بين السماء والأرض، على الرغم من أنّ النص التوراتي أشار بوضوح إلى أنّ الإله قد خلق الإنسان على صورته: "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ"، ومع ذلك نصّت التوراة على حظر إنشاء أي تصوير، أسواء كان للإله أو لمخلوق أو شيء آخر: " لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ".

لم يشذ الإسلام عن هذه القاعدة، حيث وجدت أحاديث تحذّر الرسام أو النحات من صنع صورة أو تمثال. جاء عن ابن مسعود عن الرسول: "إنّ أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوّرون". خالفت الديانة المسيحية هذا النهج وازدهر التصوير الديني وخاصة الأيقونات، حيث نجد صورة الله والمسيح ومريم العذراء والقديسين. ولم يمنع هذا الاتجاه الحرب الشعواء التي قادها الإمبراطور البيزنطي ليون الثالث عام 725 ميلادية ضد الإيقونات، إذ سرعان ما انتهت هذه الحرب ضد الصور.

تطرح قضية التصوير بأنّ لله أعضاء كأعضاء الإنسان، رأس وصدر وقدمان ويدان، بل له حواس خمس، السمع والبصر والشم والذوق واللمس. وأكثر من ذلك، فهناك أعضاء تناسلية كما يذكر جاك مايلز في كتابه "سيرة الله". لقد طلب موسى أن يرى يهوا، ولكن أخبره أنّه لن يرى وجهه أبداً عندما يمرّ من أمامه. لم ير موسى وجه يهوا، لكن رأى بدلاً من ذلك، يهوا يستر بيده أعضاءه التناسلية. في المسيحية المتحرّرة تجاه قضية التصوير كان المسيح واضحاً، بأن من يراه كأنّه رأى الله. أمّا في الإسلام، فقد جاء في القرآن وصف الله بأنّه سميع بصير إلّا أنّه نور، مع أنّه في قصة الإسراء والمعراج أورد القرآن بأنّ الرسول رأى ربّه، لكن لم يشرح طبيعة ما رآه، فأكمل هذا النقص بالحديث القدسي: "رَأَيْتُ رَبِّي فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ، لَهُ وَفْرَةٌ جَعْدٌ قَطَطٌ، فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ".

أليست اللمسة أو الضمة  في كثير من الأحيان أجمل وأكثر أهمية في منح الرضى؟ فكيف لو كانت تلك اللمسة من يد الله؟

إنّ تواتر هذه القصص عن صورة الله في الديانات الثلاث التوحيدية، يدفعنا إلى السؤال عن حواسه. هل له عين ترمش، وأذن بصيوان، أو أنف يشم، وفم ينفخ الهواء، ويد تلمس؟  

كان القرآن واضحاً بأنّ الله سميع بصير، كذلك فعلت التوراة والأناجيل، لكن لم تذكر إشارة واحدة عن الأذن والعين في تلك الكتب، فآلة السمع والرؤية التي بموجبها نسمع ونرى يفترض أن تكون موجودة عند الله بمقتضى الحديث المذكور آنفاً، وبموجب مقولة المسيح والحادثة التي طلب فيها موسى رؤية الله. كيف نفسر إذن هذا الغياب لآلة السمع والبصر عند الله؟ لربما أجابنا أفلاطون عن ذلك، فقد اعتبرهما أشرف الحواس لارتباطهما بالعقل، وكأنّه يشير إلينا إلى أنّ رؤية الله وسمعه قضية عقلية ليست بالعين ولا بالأذن. وهذا التفسير نجده بالتعبير الفلسفي عن الله، بأنّه طاقة عقلية بلا آلة الدماغ، فمن المنطق ألا يكون له أذن ولا عين كما البشر. إن ترفّع العين والأذن عن التعاطي المباشر مع أشياء الطبيعة على عكس اليد والأنف والفم هو ما سمح لهما أن يكونا وصفاً لله من دون أن يكون ذلك تجسيم له. هذا التعالي للعين والأذن لم يكن متاحاً لإظهار آلات بقية الحواس: اليد والأنف والفم، لذلك استبعدت من أن تكون وصفاً لله. ومع ذلك ظلّت بعض النصوص الدينية تذكر تلك الحواس، على الرغم من علاقتها المباشرة مع الأشياء.

اللمسة الداعمة لله

عندما رسم مايكل أنجلو سقف كنسية سيستينا في الفاتيكان، صوّر الله ماداً يده إلى آدم مشيراً بسبابته إليه، يكاد يلمس أصابع يد آدم الممدودة إليه بتراخٍ. تُظهر لنا اللوحة الله في سمائه محاطاً بالملائكة وآدم مستلقياً على الأرض مستنداً إلى يده اليمنى، فيما يده اليسرى ممدودة إلى الله  بفتور جليّ، على عكس الله الذي يبدو جاداً أكثر من آدم في اللمس! فهل كانت هذه اللمسة هي التي منحت آدم الحياة، مع أنّ النص التوراتي يشير إلى أنّ الحياة قد منحت إلى آدم عبر نفخ نسمة الحياة فيه، أم أنّ تلك اللمسة كانت بعد أن أخطأ آدم وطرد من الجنة، فجاءت تلك اللمسة كإعادة تطويب ثانية لآدم لكي يكون خليفة الله على الأرض؟ لكن كيف نقرأ تراخي يد آدم، حيث لا نجد تلك الإرادة المندفعة التي رأيناها من قبل الله في اللوحة؟

كان إرميا كما تذكر التوراة شاباً، لا يعرف كيف يتنبأ، لذلك تهرّب إرميا من تكليف الله له بأن يكون نبيّاً. ومع ذلك أصرّ الله، ولمسه على شفته: "وَمَدَّ الرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ الرَّبُّ لِي: هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ". هكذا صنعت لمسة من يد الله نبيّاً ومنحته القدرة على التكلم بالنبوءات.

أليست الأنفاس الحرّة بين عاشقين تعادل كل كلمات الحب، فماذا لو قيض لنا أن نتنسّم أنفاس الله عندما يغمرنا بعطفه ولطفه؟

تتكرّر تلك اللمسات، لكن عبر الملائكة، كما مع أشعيا ودانيال. وكان الهدف منها تقوية الرسل ليحملوا كلمة الله بأفواههم. وكأنّنا مع معنى اللمسة البشرية التي تطمئن وتدعم وتمنح الثقة. والآن نستطيع أن نفسر تباطؤ يد آدم عن الإسراع إلى ملامسة يد الله، فهو كان مثل إرميا وأشعيا ودانيال، لا يجد في نفسه القوة ولا الموثوقية ليكون محل كلمة الله، وخاصة بعد أن خان ثقة الله وأكل من الشجرة المحرّمة، فأتت لمسة الله لتجبر ضعف الإرادة في آدم، وتخبره بأنّ هناك فرصة ثانية.

لا يظهر الله في الأناجيل كما في التوراة، فقد حلّ مكانه المسيح الذي يقول: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ"، ويكرّر المسيح أفعال اللمس التي رأيناها في التوراة لمنح البركة والشفاء من الأمراض وتطويب التلاميذ ودعمهم في لحظات شكّهم، كما فعل مع توما عندما جعله يلمس أثر المسامير في يديه. ونستطيع أن نعدّ تلك اللمسات وفق العقيدة المسيحية التي قام بها المسيح هي لمسات من الله.

لا نجد في القرآن موضوعة اللمس التي وجدناها سابقاً في التوراة والإنجيل، لكنّنا نجد اليد في العشرات من الآيات، لربما أقربها إلى موضوعنا هي: "يد الله فوق أيديهم"، وهي تلعب ذات الدور الداعم الذي رأيناه سابقاً. 

كان إرميا كما تذكر التوراة شاباً، لا يعرف كيف يتنبأ، لذلك تهرّب من تكليف الله له بأن يكون نبيّاً. ومع ذلك أصرّ الله، ولمسه على شفته: "وَمَدَّ الرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ الرَّبُّ لِي: هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ"

قبلة الحياة 

تعود إلى برومثيوس فكرة إطعام الآلهة رائحة الشواء، والتي نجد تطبيقاً لها في مسرحية "الطيور" لآريستوفان، التي تقوم فكرتها على أنّ صديقين من الشعب الأثيني بعد أن ضاقا ذرعاً من الحروب،  قرّرا أن يهاجرا إلى عالم الطيور، ويسيطرا عليها ويقنعاها بأن تأكل جميع الحبوب والنباتات، فتصيب المجاعة البشر، وأن تطير بأسراب حتى تحجب دخان الأضاحي عن الآلهة، ما سيسبب جوع الآلهة التي على ما يبدو تتغذّى من خلال أنوفها وأفواهها باستنشاق رائحة الشواء. يزور برومثيوس هذين الصديقين ويقنعهما بأن يفرضا شروطاً قاسية على الآلهة التي ستوافق عليها بسبب جوعها لتنسّم دخان الأضاحي.  

يحذّر أفلاطون من تأثير الروائح على القرارات العقلية، فهل كان الله غافلاً عن ذلك وسمح لرائحة الأضاحي التي قدمها نوح بعد نزوله من السفينة وانتهاء الطوفان الذي أباد البشرية، أن يقسم، بأن لا يلعن الأرض ولا كل حيّ: " فتنسّم الرب رائحة الرضا"، كما جاء في التوراة تعني كلمة (تنسّم) شمّ الريح المشبعة بالروائح؟                                    

تستدعي هذه القصة سؤالاً، هل لله جهاز تنفسي؟ يستنشق الهواء من خلاله ويزفره! جاء في التوراة: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً". إنّ فعل النفخ يذكّرنا بقبلة الحياة التي تمنح الغرقى الهواء. جاء في سفر أيوب: "إنّه ما دامت نسمتي فيّ، ونفخة الله في أنفي، لن تتكلم شفتاي إثماً، ولا يلفظ لساني بغش". إنّ النفخ آلية لإعطاء الحياة وخلقها، حيث نجد في القرآن أنّ كلمة نفخ تعني منح الحياة، بدءاً من النفخ في آدم، فأصبح حيّا بعد أن كان صلصالاً، ممّا رتب سجود الملائكة له، إلى نفخ في تماثيل طينية على هيئة طيور على يد المسيح، فرفرت كطيور حقيقية، إلى النفخ في فرج مريم: " وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ".

أصبح لدينا بعد تلك العجالة فعلين معبّرين عن جهاز التنفس الإلهي: التنسّم والنفخ. الأول أعطانا إشارة إلى أنّ الله يشتم الروائح. والثاني يمنحنا فكرة بأنّنا قد نشتمّ رائحة الله، كما قال أيوب. لكن هل يشتم الله الروائح البشعة؟ تحذّر مرتا أخت إليعاز المسيح عندما طلب فتح القبر، بأنّ الرائحة ستكون نتنة، كما جاء في إنجيل يوحنا. مهما يكن من أمر حاسة الشم لدى الله، لكنّها تفتح لنا باباً إلى مفهوم الطهارة الجسدية المطلوبة من المؤمنين في الديانات السماوية الثلاث، حيث يجب على المؤمن أن تكون رائحته زكية دوماً، فالله يتأذّى من الرائحة المنتنة لذلك صرخت مرتا بالمسيح كي لا يعرض حاسة الشم لديه لنتانة الجثة.  

حواس الحبّ

مهما تم مدح حاستي البصر والسمع، أسواء لدى الله أو البشر، لكن لنقل بصراحة، أليست اللمسة أو الضمة أو التربيتة على الكتف في كثير من الأحيان، أجمل وأكثر أهمية في منح الرضى من السمع والبصر؟ فكيف لو كانت تلك اللمسة من يد الله؟ أليست رائحة الأم، هي الوسيلة المثلى لبث الطمأنينة في قلب الطفل؟ فماذا لو كنّا قادرين على شمّ رائحة الله، وبالأحرى أن يشم هو عرقنا في سعينا نحوه؟ أليست الأنفاس الحرّة بين عاشقين تعادل كل كلمات الحب، فماذا لو قيض لنا أن نتنسّم أنفاس الله عندما يغمرنا بعطفه ولطفه؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image