شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل تُدفن آخر أصوات الصحافة الفرانكوفونية في الجزائر؟

هل تُدفن آخر أصوات الصحافة الفرانكوفونية في الجزائر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 9 أغسطس 202203:19 م

يضع المخرج الجزائري إسماعيل بن مالك، "الإصبع على الجرح" في ما يخص قضايا الصحافة الحرة في الجزائر، سواء العربية منها، أو الفرانكوفونية "الناطقة بالفرنسية". ففي فيلمه الوثائقي (Contre-Pouvoirs)، أو السلطة المضادة، المنتَج في آب/ أغسطس 2015، يدخل مالك بأعين كاميراته إلى داخل هيئة تحرير صحيفة الوطن الفرنكوفونية الشهيرة، كقوة مضادة ضرورية للديمقراطية العرجاء في الجزائر، في الوقت الذي كان فيه الرئيس السابق بوتفليقة على وشك الترشح لولاية رابعة. يلتقي في فيلمه مع صانعي الصحيفة، ويرصد خلاله شكوكهم، وتناقضاتهم، وحرصهم الدائم على عمل صحافي حر ونزيه ومستقل، بعيداً عن جلباب السلطة الحاكمة التي شددت الخناق عليهم خلال السنوات العشر الأخيرة.

في الثلاثين من تموز/ يوليو الماضي، أعلن موظفو صحيفة الوطن الفرانكوفونية الناطقة بالفرنسية التي تأسست في آب/ أغسطس سنة 1991، عن إضراب مفتوح حتى يتم سداد رواتبهم المتأخرة منذ ثلاثة أشهر. وتالياً، تعيش هذه الصحيفة مصير شقيقتها الفرانكوفونية "ليبيرتي"، التي أغلقت في نيسان/ أبريل من العام الجاري. وقبلها صحيفة "لا تربيون" التي أغلقت في آب/ أغسطس 2014، بسبب خلافات بين المساهمين وسط مشكلات مالية خانقة، ما يجعل "الوطن" مهددةً بالإغلاق والاختفاء قريباً من الأكشاك الجزائرية، وما يمثل طوراً جديداً من التفكك الإعلامي الذي غدا ضحيةً لأموال شبكة المافيا، ونقص التدريب، وتآكل النخب الجزائرية، وفقاً لما يذكره تقرير لصحيفة لو فيغارو الفرنسية في السابع من تموز/ يوليو 2022.

أزمات ذات أوجه متعددة 

الصحافة الجزائرية بشقيها الفرانكوفوني والعربي، تمثل تياراً جديداً في العمل الصحافي إبان العشرية السوداء، كونها وليدة ما يسمى "الربيع الديمقراطي" الجزائري، الذي جاء عقب أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 1988، منهياً ما يقارب ربع قرن من احتكار السلطة من قبل الحزب الواحد، واستحواذه على وسائل الإعلام الرسمي.

جاء قانون الإعلام الجديد الصادر في عام 1990، والذي كفل التعددية الإعلامية، وسمح للقطاع الخاص بإنشاء دور للصحافة مستقلة مالياً، ازدهرت في ما بعد مع الصعود الكبير للرأسمالية الجزائرية، ويصف البعض تلك الحقبة بـ"العصر الذهبي"، فعرفت البلاد حركيةً إعلاميةً كبيرةً تمتع فيها الإعلام بحرية قصوى.

في مقابل الأزمات المشتركة التي تعانيها الصحافة الجزائرية بصفة عامة، تُعدّ الصحف الفرانكوفونية بمثابة "الضرة" للصحف العربية، ويتهمها البعض من المثقفين الجزائريين امتداداً للمشروع الفرنسي في الجزائر، وبأنها تحظى بالتمويل من جهات فرنسية، وتعبث بمقدسات الشعب الجزائري وبطولاته التاريخية

وعلى غرار صحف عربية كالشروق والخبر، ظهرت الصحف الناطقة بالفرنسية وأبرزها على الإطلاق "الوطن، وليبيرتي، وديلي وهران، ولو سوار دي ألجيري"، وتعيش أزمات كبيرةً منها ما يتعلق بالتضييق على الحريات الصحافية وملاحقة الصحافيين وحبسهم، تحت عنوان "المس بهيبة السلطة"، وأزمات التوزيع والإشهارات والدعاية التجارية التي تحتكرها الحكومة حصراً، وانخفاض أعداد الإصدارات قياساً بالسنوات الماضية مع مزاحمة الإعلام الرقمي والتلفزيونات الخاصة لها.

مع بطء التحول الرقمي لهذه الصحف التي تأخرت في التكيف مع الواقع الرقمي الجديد، تراجع عدد قرائها الذي توجهوا نحو منصات التواصل الاجتماعي كونها مصادر للمعلومات أكثر جاذبيةً. وقد يرجع ذلك إلى تأخر أنظمة الدفع الإلكتروني في الجزائر الذي منع هذه الصحف من الإفادة مالياً من محتواها الإلكتروني، بالإضافة إلى أزمة "لغة موليير" في الجزائر نتيجة التقلص الكبير في عدد القراء الفرانكوفونيين على مدى العقدين الأخيرين، وتالياً، تراجعت الصحافة الفرانكوفونية معها أيضاً.

طابور خامس أم صحافة تنويرية؟

الصحافة المكتوبة تعاني تراجعاً كبيراً في الجزائر. لقد اختفت بالفعل العديد من العناوين، والبعض الآخر نجا، بالرغم من رؤية أفقهم الاقتصادي يظلم شيئاً فشيئاً. ومع ذلك، فإن هذا الواقع هو أكثر قسوةً على الصحافة الناطقة بالفرنسية، التي لا تمثل سوى ثلث الصحف الجزائرية، والعناوين الصادرة باللغة الفرنسية تختفي الواحدة تلو الأخرى على مدى السنوات العشر الماضية.

في مقابل هذه الأزمات المشتركة التي تعانيها الصحافة الجزائرية بصفة عامة، تُعدّ الصحف الفرانكوفونية بمثابة "الضرة" للصحف العربية، ويتهمها البعض من المثقفين الجزائريين امتداداً للمشروع الفرنسي في الجزائر، وبأنها تحظى بالتمويل من جهات فرنسية، وتعبث بمقدسات الشعب الجزائري وبطولاته التاريخية بفتح صفحاتها لجنرالات فرنسيين ساهموا في سفك الدم الجزائري خلال الثورة، وبأن خطها التحريري الانتقادي اللاذع للسلطة هو بمثابة "تأجيج للفتنة وإفشال لمساعي الحوار الوطني"، وأبرزهم الكاتب الجزائري يحيى بن زكريا، في مقالة منشورة له في موقع إيلاف السعودي في الخامس من نيسان/ أبريل 2004، بعنوان "الطابور الخامس في الجزائر".

بينما يرى آخرون، في هذه الصحافة "مرجعيةً" مهمةً لمختلف وجهات النظر، وأنها استطاعت أن تمثل الاحترافية والمهنية في عملها، كونها لا تعمل تحت "عباءة السلطة"، كاشفةً مواطن الفساد، من دون أن تسقط في فخ تدبيج المدائح لأحد، وبيع الضمير الصحافي الحر.

مسامير في كفن الحرية

مسامير مطلقة مدفونة في نعش تعلوه كلمة "Liberte" الحرية، هكذا يصوّر الفنان الكاريكاتوري الجزائري علي ديلم، النهاية الحزينة لصحيفة "ليبيرتي" الفرانكوفونية في السادس من نيسان/ أبريل الماضي، والتي عرفت انطلاقتها الأولى في 27 تموز/ يوليو 1992.

الصحيفة التي كانت تصف نفسها بـ"الجمهورية والديمقراطية"، والتي رسخت نفسها في الجزائر كونها صاحبة الريادة في الاستقلال وحرية التعبير، قررت الاختفاء بقرار من مالكها رجل الأعمال الجزائري الشهير أسعد ربراب، بالرغم من الدعوات المتكررة بالعدول عن ذلك، حتى أن البعض عدّ الأمر بمثابة "خيانة".

في تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية نُشر في السابع من نيسان/ أبريل الماضي، ورد أنه تم القيام بإجراءات صعبة لمحاولة الحفاظ على الاستقرار المالي للصحيفة، و"لن يكون رحيل العديد من الموظفين كجزء من خطة اجتماعية والتقاعد المبكر، وتخفيض القوة العاملة من 167 إلى 82 موظفاً، كافيين". لكن ليس هذا هو السبب، كما يقول Abrous Outoudert أبروس أوتودرت، مدير النشر في الصحيفة الذي يرى أن "الصحيفة ليست مفلسةً".

ويتابع: "لدينا ميزانيتان سلبيتان تفسرهما حقيقة أنه لم تكن لدينا إعلانات لمدة عشر سنوات"، "إنها لا تساعد أي شخص، ولا حتى الدولة". ولكن لم تعد Liberté تستفيد من المكاسب العامة غير المتوقعة التي توزعها الوكالة الوطنية للنشر والإعلان (ANEP)، واضطرت إلى التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي دفعت المعلنين الخاصين إلى خفض الميزانيات الإعلانية. بالإضافة إلى ذلك، تسببت الأزمة الصحية المرتبطة بكوفيد19 في إغلاق الأكشاك لأشهر عدة. على الرغم من كل شيء، بقيت الصحيفة قائمةً بفضل "مبيعاتها ومدّخراتها، وهي وسادة مالية كان من الممكن أن تبقيها مستمرةً لمدة عامين على الأقل"، والكلام لأوتودرت دائماً.

ويعتقد البعض أن أزمة ليبيرتي وغيرها من الصحف الفرانكوفونية، كالوطن ولوماتان، بدأت مع انتخابات 2004، إذ وقفت هذه مع مرشح الرئاسة علي بن فليس ضد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وهذا الانحياز لصالح المرشح المنافس للرئيس أدى إلى إغلاق لوماتان واعتقال محمد بن شيكو بأمر من الدائرة المقربة من بوتفليقة. ونجت ليبيرتي من انتقام السلطة وقتها.

لكن المتاعب الحقيقية بدأت فعلاً في عام 2013، مع خسارتها لبعض الدعم، إذ كان ربراب يشكو من العراقيل الموضوعة أمامه. وفي عام 2016، اشترى ربراب (مجموعة الخبر) لتعود وزارة الاتصالات وتقوم بإلغاء الصفقة، إذ أتُّهم الأخير من قبل الدولة العميقة ومن عشيرة بوتفليقة بالتدخل في السياسة.

يعتقد البعض أن أزمة ليبيرتي وغيرها من الصحف الفرانكوفونية، كالوطن ولوماتان، بدأت مع انتخابات 2004، إذ وقفت هذه مع مرشح الرئاسة علي بن فليس ضد بوتفليقة، وهذا الانحياز لصالح المرشح المنافس للرئيس أدى إلى إغلاق لوماتان واعتقال محمد بن شيكو

ثم جاء عام 2019، ووقفت الصحيفة مع الحراك الشعبي الرافض لترشح بوتفليقة لولاية خامسة. بعدها أطلق رئيس الأركان أحمد قايد صالح حملة "الأيدي النظيفة"، التي استهدفت مسؤولين حكوميين كباراً، ورجال أعمال مقربين من سعيد بوتفليقة. جراء ذلك، اعتُقل ربراب وتم حبسه لمدة 18 شهراً.

في البيان الأخير للصحيفة، يبرر ربراب قراره بالوضع الاقتصادي الصعب، الذي "لا يسمح له إلا لفترة قصيرة وبلا جدوى". يبدو هذا التفسير مثيراً للشك، في خضم الصراع الجديد في البلاد بين طبقة الأوليغاريشية الصاعدة التي بدأت بمزاحمة الجيلين الأول والثاني من الرأسماليين مثل ربراب. 


"الوطن" على حافة الإغلاق

وفقاً لتقريرٍ لتلفزيون TV5 MONDE الفرنسي، نُشر في 31 تموز/ يوليو الماضي، يبدو أن الوضع المالي لصحيفة الوطن الناطقة بالفرنسية يخنق إدارة المؤسسة الإعلامية التي لم تدفع رواتب صحافييها وموظفيها منذ فترة، وهو ما قد يمثل بداية النهاية بالنسبة إليها.

أصدر العاملون في صحيفة الوطن بياناً أعلنوا فيه إضرابهم، مشيرين إلى أن 150 صحافياً وعاملاً لم يتقاضوا رواتبهم منذ أربعة أشهر. مرت الصحيفة بأزمة خانقة في السنوات الأخيرة، وأعلنت في شباط/ فبراير الماضي، عن زيادة قيمة نسختها الورقية إلى 40 ديناراً جزائرياً لتجنب الإفلاس. وعزت الصحيفة الفرنسية ارتفاع الأسعار إلى عدم قدرتها على تغطية تكاليف الطباعة والتوزيع، خاصةً أن أسعار الورق تضاعفت بشكل متكرر. وفي هذا الصدد، أوضحت الوطن أنها لم تتلقَّ أي دعاية منذ 2014 لأسباب "سياسية".

من جهته أفاد عمر بلهوشات، مدير صحيفة الوطن في تصريحات لوكالة فرانس برس، بأن الصحيفة التي عُلّق صدورها مراراً في التسعينيات، "محرومة من الإعلانات الحكومية منذ 1993"، وكذلك من جزء كبير من الإعلانات الخاصة منذ معارضتها في 2014 لولاية رابعة لبوتفليقة.

ويضيف بلهوشات: "بعد رئاسية 2014، انخفضت عائدات الإعلانات الخاصة لدى الصحيفة بنسبة 60%"، والسبب في رأيه يعود الى ‘ضغوط’ مارستها السلطات على كبار المعلنين فيها وهي مجموعات تعتمد في عملها غالباً على علاقات جيدة مع السلطة".

وبحسب إدارة الصحيفة، فإن "هذا التأخير في السداد يرجع إلى تجميد الحسابات المصرفية للشركة بسبب خلاف مع السلطات الضريبية". وهذه الأخيرة تطالب بما يعادل 370 ألف يورو من الوطن وترفض إعطاء الشركة جدول سداد. بالإضافة إلى ذلك، يطالب بنك الصحيفة بسداد جزء من الائتمان المتعاقد عليه في أثناء الوباء، والبالغ نحو 300 ألف يورو.

وعليه، أطلقت هذه الصحيفة هذه الاستغاثة: "لا نعرف مصير الوطن في شهر أو شهرين أو ثلاثة، وربما أقل مما كنا نأمل. لكن ما يمكن أن نؤكده لكم، أيها القراء الأعزاء، هو أنه منذ الإنذار الأخير الذي زعزع الكثير من اليقين بشأن الوضع الحرج للغاية للصحيفة من حيث التوازن المالي، ساءت الأمور لتصل اليوم إلى درجة من الجمود تهدد بشكل خطير فرص بقاء الصحيفة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image