"يجب تعليم الأطفال كيف يفكرون وليس بماذا يفكرون"/ مارغريت ميد
كأم علمانية حاولت أن أضع جميع الخيارات أمام ابنتي وأولها أنها حرة في تحديد من تكون وأنني معها في تقرير هويتها وتقديمها بكل وضوح، طبعاً مع اختلاف المراحل وتعدد الخيارات، ولكن البيئات الأخرى كالمدرسة والأقارب والبيئة المحيطة كانت لها كلمتها تأثيرها الواضح على هوية الطفلة كذلك.
المشكلة ليست في التأثير وحجمه ولكن في فرض هذا التأثير ومحاولة إلغاء الخيارات الأخرى أمام الأطفال، وجعله يظهر كأنه الخيار الوحيد والممكن في تشكيل هويتهم. إن تعزيز خيال الطفل يفتح له خيارات متعددة ويمكنه من فهم هويته ووصف ذاته بعيداً عن النمطية والقوالب الجاهزة، ولعل حماية هوية الطفل لا تقل أهمية عن حماية جسده وسلامته.
هويّات متنوعة... أطفال أحرار
يميل الأطفال بشكل عام للقيام بسلوكيات تتعلق بالموضوعات والأشياء التي تشبه على نحو جوهري الموضوعات الواقعية أكثر من تلك التي لا تشبهها، أي الأكثر عيانية وتحديداً الأكثر تجريداً، وتؤثر عمليات التعلم والثقافة والتجارب في معرفة جوانب الهوية واختلافاتها.كأم علمانية حاولت أن أضع جميع الخيارات أمام ابنتي وأولها أنها حرة في تحديد من تكون، ولكن البيئات الأخرى كالمدرسة والأقارب كانت لها كلمتها وتأثيرها على هوية الطفلة كذلكعلينا كأهل بالدرجة الأولى أن نمنح الأطفال القدرة على خوض تجاربهم الخاصة التي تساهم بشكل مباشر في تشكيل هويتهم، وبالدرجة الثانية تساهم في قدرة الطفل على حماية هويته من تلك التأثيرات الخارجية وخصوصاً الدينية والإيديولوجية.
لكن من جانب آخر لا يمكن أن نفصل الطفل عن بيئته الخارجية التي لها تأثير مباشر على هويته المتشكلة خلال مراحل طفولته الأولى، فكيف نستطيع أن نخفف من مخاوفنا من التأثيرات الخارجية على هوية أطفالنا دون أن ينفصلوا عن واقعهم على الأقل في مراحل لاحقة؟
يرى إريك إريكسون (1902-1994) وهو أحد أوائل علماء النفس الذين أبدوا اهتمامًا صريحًا بمشكلة هوية الطفل، أن هوية الطفل ظاهرة اجتماعية وثقافية معقدة، تتضمن مجموعة متنوعة من تمثيلات الطفل عن نفسه وعن العالم ومكانه فيه، وهي بنية ديناميكية تتغير بسرعة تحت تأثير البيئة والتعليم والأسرة.
في الطفولة، وهي ظاهرة تابعة، هناك الكثير من العوامل اللاواعية التي تؤثر على أنماط السلوك وعلاقات الطفل بالعالم، وبالتالي تتشكل هويته تحت تأثير العوامل والصور النمطية المختلفة.
القلق حول هوية الطفل يبدأ من تأطيرها وليس فقط حمايتها، مثلاً هنالك محاولات مستمرة من قبل المؤسسات التعليمية لفرض هوية دينية محددة على الأطفال من خلال حصر النشاطات والممارسات اليومية في نمط معين.
القلق حول هوية الطفل يبدأ من تأطيرها وليس فقط حمايتها، مثلاً هنالك محاولات مستمرة من قبل المؤسسات التعليمية لفرض هوية دينية محددة على الأطفالهذا من جانب ومن جانب آخر، وضع الطفل في فئة معينة، فأنا لستُ بحاجة ولا أرى ضرورة بحصر طفلتي ضمن خيار الدين الإسلامي، يمكنها أن تتعرف على من هم المسلمون وعاداتهم وتقاليدهم وأن تحتفل معهم بأعيادهم ومناسباتهم ولكن ليس شرطاً أن تعتقد أنها تنتمي لهم وتحدد هويتها من خلالهم. ثمة خيارات عديدة أمامها من ضمنها ألا تنتمي لأي دين على سبيل المثال.
في المقابل فإن مشاركتها في جميع الأعياد الدينية واللادينية الأخرى هو ما يمكنها من فهم معنى تعدد خيارات الهوية وأين تحب أن تكون وتنتمي، وهذا لا ينطبق فقط على الأفكار والمعتقدات الدينية، بل حتى على ما يتعلق بالقومية والانتماء الوطني، فربما كنا قادرين على إنشاء جيل أقرب إلى العالمية منه إلى العنصرية والنظرة الدونية إلى الغير بكوننا نحمل هوية مختلفة، فمن المؤكد أن احترام قيم ومبادئ الجميع من خلال التعرف عليها يعزز لدى الطفل احترام الاختلاف وفهم معنى التنوع في كل مرحلة من مراحل حياته.
الكلمة الأولى... للأسرة
تتشكل هوية الطفل في المراحل الأولى من عمره، وقد تظهر كحالة من التفرد في البداية، فتبرز الهوية من خلال اختلاف الطفل عن أقرانه من ناحية ردة الفعل والأجوبة على الأسئلة اليومية وتعريفه من يكون، وتنبع معظم أفكاره من أنماط السلوك المحيطة به في البداية، وقد تختلف هذه الانتماءات والتعريفات للهوية باختلاف العمر وتنوع التجارب.ما بين السنتين والثلاث سنوات، يحتاج الطفل إلى تعزيز ثقته بالأم أولاً من خلال تلبية احتياجاته الأساسية، مما يقوي انتماءه إلى هوية العائلة، وفي مرحلة لاحقة تتعزز هويته عندما يبدأ بالاختلاف بالرأي مع أهله من خلال كلمة "لا" التي تدل على فهم معنى الاختلاف.
ولاحقاً تتعزز هوية الطفل التي تظهر باعتزازه بجسده وشكله وطريقته بالمشي والركض أو الأنشطة المختلفة التي يمارسها يومياً، بينما تظهر هذه الاختلافات مع الأهل بشكل أولي وبعدها مع المجتمع، وهنا يأتي دور الأهل في تعزيز الهوية، إذ تلعب نوعية العلاقة التي تربط الأطفال بالوالدين دورًا مهمًا في تكوين الهوية، فعندما تكون هناك علاقة قوية وإيجابية بين الآباء والأطفال فمن المرجح أن يشعروا بالحرية في استكشاف خيارات الهوية لأنفسهم، فيتأثر تكوين الهوية بشكل إيجابي من خلال مشاركة الوالدين، وتحديداً في مجالات الدعم، والمراقبة الاجتماعية، ومراقبة الروضة والمدرسة.
أما عندما لا تكون العلاقة قريبة ويظهر الخوف من الرفض أو السخط من الوالدين أو الأوصياء الآخرين ، فمن المرجح أن يشعر الأطفال بقدر أقل من الثقة في تكوين هوية منفصلة عن والديهم.
يجب أخذ ملاحظات الطفل على محمل الجد فيما يتعلق بالأشخاص العابرين سواء في الشارع أو السوبرماركت، كل تلك التفاصيل الصغيرة تساهم في تقوية هوية الطفل ومنحه الثقة بأفكارهوعلى هذا الأساس فإن الإشراف وحده لا يكفي، بل ثمة خطة يجب أن يضعها الأهل للمشاركة الفاعلة في أنشطة الطفل اليومية ومساعدته على إنشاء علاقة مع مجتمعه بعيداً عن النمطية والتحجر ورفض المختلفين مما يشكل حماية للاختلاف الذي نطمح له كأهل في تشكيل هوية الطفل، كالغناء في الشارع وأخذ ملاحظات الطفل على محمل الجد فيما يتعلق بالأشخاص العابرين سواء في الشارع أو السوبرماركت، كل تلك التفاصيل الصغيرة تساهم في تقوية هوية الطفل ومنحه الثقة بأفكاره وقوة إرادته.
المدرسة وعملية توحيد الهويات والذائقة
يخرج الطفل من مجتمع الأسرة المتجانس إلى المجتمع الكبير الأقل تجانساً وهو المدرسة، وهذا الاتساع في المجال الاجتماعي وتباين الشخصيات التي سيتعامل معها يزيد من تجاربه الاجتماعية وبدعم إحساسه بالحقوق والواجبات وتقدير المسؤولية ويصقل شخصيته.لكن من ناحية ثانية قد يجعل منه طفلاً مقولباً ضمن ما يسمى بالثقافة الجماعية؛ فالمدارس بشكل عام تعمل على توحيد هوية الطلاب وهذا التشابه يُمكّن المدرسة من التحكم والسيطرة عليهم، ويساهم بشكل مباشر في تشكيل هوية ثقافية مشتركة مما يحقق فكرة التماسك الاجتماعي والهوية الوطنية وتعليم قيم الانتماء.
هنالك المنهج المدرسي الصريح الذي يدرسه الطلاب والذي يُمكن فحصه واكتشاف تأثيره، لكن يجب الانتباه إلى ما يسمى بالمنهج الخفي بمعنى طبيعة المناخ المدرسي والتفاعلات الاجتماعية وأنماط التعامل مع الأطفال والتي قد تتعارض ببساطة أحياناً مع المنهج التعليمي الصريح، إذ تظهر كسلوك يومي على المدرسين والإداريين والفضاء العام في المدرسة.
مثلاً الاحتفالات الدينية التي تسمح بها المدارس دون الالتفات لاحتفالات أخرى تؤثر بشكل مباشر على هوية الطفل والاتجاهات المتوقعة التي ستشكل هويته، مع عدم تجاهل أن لدى الطفل جزءاً من هوية يحملها من أسرته وقد تختلف أو تتشابه مع المناخ في المدرسة. الحالة المثالية تفرض على المدارس مراعاة الاختلافات، ليس بالضرورة من خلال التذكير بجميع المناسبات الدينية أو القومية أو الأثنية، وإنما بتعزيز هوية كل طفل بإبراز الاختلاف والتفرد في النشاطات المختلفة.
علينا تذكر محاسن هذه الهوية المشتركة في بناء ذاكرة جماعية للأطفال مع أقرانهم، وإحساسهم بالانتماء غير الإجباري لقيم ذات طابع عاطفي لا مستبد، كالتعاون واحترام المعلم وعدم التنمر، والأهم اعتبار الاختلاف هو القاعدة.
حماية الاختلاف لا الهوية
حادثة شكلت مفصلاً في كبح جماح مخاوفي، حين أخبرتْ المعلمة ابنتي أن الاحتفال بعيد الميلاد يخص المسيحيين فقط ولا يجوز "لنا" وقصدت المسلمين الاحتفال معهم، بينما كانت شجرة عيد الميلاد تقف في بيتنا تنتظر الاحتفال بعيد الميلاد.أخبرتْ المعلمة ابنتي أن الاحتفال بعيد الميلاد يخص المسيحيين فقط ولا يجوز "لنا" وقصدت المسلمين الاحتفال معهم، بينما كانت الشجرة تقف في بيتنا تنتظر الاحتفال بعيد الميلادصعب على طفلتي فهم السبب، وصعب عليّ الشرح، لأنني لم أكن أرغب وهي لم تتجاوز الأربع سنوات وضعها في صورة التفصيلات المتعلقة بالأديان وتعقيدات الاختلاف، لكن ابنتي طمأنتني حين أجابت على سؤال "هل أنتِ مسيحية أم مسلمة؟" بقولها "أنا فلسطينية".
تأكدت حينها أن مخاوفي بلا معنى، وأنها حرة إلى الحد الذي لا يمكن الحد من حرية تفكيرها وجعل أفكارها متشابهة كالرمال، ولكن هذا لم يحدث بمحض الصدفة، فاحترام آراء الأطفال من خلال السماح لهم بالتعبير الحر عن مشاعرهم بخصوص القضايا التي تؤثر عليهم واستماع الأهل إليهم والتعامل مع آرائهم بجدية.
للأطفال الحق في التعبير عن الأفكار والآراء والمشاعر والبحث عن جميع أنواع المعلومات ومشاركتها مع الآخرين بحرية، من خلال المحادثة أو الرسم أو الكتابة أو أي طريقة أخرى، كما لا يمكن التغاضي عن أحد أهم بنود اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على أنّ الأطفال أحرار في تكوين الأفكار والآراء وتحديد دينهم ما دام ذلك لا يمنع الآخرين من التمتّع بحقوقهم.
ابنتي طمأنتني حين أجابت على سؤال "هل أنتِ مسيحية أم مسلمة؟" بقولها "أنا فلسطينية"المطلوب من الوالدين حماية الاختلاف في الهوية عبر مجموعة ممنهجة من النشاطات مع الطفل، كالمحادثات اليومية التي تعتمد على تبادل التجارب بين الوالدين والأطفال والمشاركة والانفتاح على جميع الثقافات دون الخوف من انجراف الأطفال وراء أفكار مختلفة عن المجتمع، وبعيداً عن فرض أحكام مسبقة على الثقافات المختلفة أمام الطفل على الأقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...