شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"الفقر جعل المصريين يحدثون أنفسهم بصوت عال"... يوم مع سائق تاكسي في شوارع القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 22 سبتمبر 201905:33 م

على عكس الكثير من سائقي التاكسي في القاهرة الذين يفضلون الاستماع إلى أغاني المهرجانات، أو الأغاني الشعبية، يعشق السائق المصري (م.ع) (37 عاماً)، الاستماع إلى فيروز، ويقول إن صوتها الملائكي يجعله يتحمل تعب مهنته التي يمتهنها منذ كان في عمر الـ 22 سنة. لدى (م.ع) ذاكرة خزّنت قصصاً عن مصريين ركبوا معه التاكسي وتعاملوا معه كما لو كان طبيباً نفسياً على حد تعبيره، باحوا عن همومهم وأحلامهم في المدينة التي شهدت تغييرات جذرية في بضع سنوات. رصيف22 قضى يوماً مع السائق المصري وتجول معه في شوارع وميادين القاهرة ليحدثنا عنها وكيف تغيرت في السنوات الأخيرة.

مساء يوم 20 أيلول/سبتمبر الجاري، كان (م.ع) يتجول بالقرب من ميدان التحرير بوسط القاهرة، ويحكي لرصيف22 أنه شاهد عشرات الشباب يهتفون ضد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فيما كانت عربات الأمن تحيط بالميدان وتقبض على من تستطيع الإمساك به. "كان هناك حالة كر وفر، لكن العجيب أن الشباب كانوا مصممين على الوصول إلى ميدان التحرير” يقول محدثنا ويرى أن ما شاهده بعينه وأنكرته وسائل الإعلام المصرية أمر طبيعي فمن وجهة نظره "الناس تعبت من الظلم الشديد والفساد".




لم يفكر السائق أن ينزل ليشارك المتظاهرين في "يوم الغضب" إذ يقول إن لديه أربعة أطفال، ويعلم جيداً أن الأمن سيعذب من سيقبض عليه، مضيفاً أن أسرته لا تستطيع العيش بدونه، لكن "البركة في الشباب الصغير" على حد تعبيره مضيفاً أن المشاركين في التظاهرات ذكروه بنفسه حين نزل قبل 8 سنوات وشارك في ثورة يناير 2011.

يتوقع (م.ع) أن تحدث ثورة كبرى قريباً في مصر، يرى أنها ستقضي على الأخضر واليابس، وحسب رأيه الحكومة الحالية تدوس على الفقراء بدرجة لا يمكن لأي عاقل أن ينكرها، مضيفاً أن الفقراء لن يتحملوا هذا الأمر كثيراً على حد قوله مرجحاً أنه سيأتي يوم يخرجون فيه إلى الشوارع ليدمروا كل شيء حسب وصفه "وقتها ستصبح مصر في خبر كان".

التاكسي بات من الرفاهيات؟

يحكي (م.ع) أن مصريين كثر باتوا لا يفضلون ركوب التاكسي ويستخدمون في المقابل خدمات نقل أخرى مثل أوبر وكريم، لكنه يقول إنه رغم ذلك لا زال للتاكسي حرفاء يفضلونه ولا يستطيعون الانفصال عنه، مشبهاً الأمر بمن اعتاد شراء الصحف المطبوعة رغم توفر الأخبار على الإنترنت، لكنه لا ينكر أن عدد الزبائن قل كثيراً بسبب أن "الفقر جعل الناس يفضلون ركوب المترو أو الحافلات الحكومية عن ركوب التاكسي، هناك ناس باتت ترى في التاكسي رفاهية، والوضع لم يكن كذلك قبل ثورة يناير، كانت الناس من جميع الطبقات الاجتماعية تستخدم التاكسي، الآن الفقر زاد، وهناك من يفضل المشي على قدميه حتى لا يدفع 20 جنيهاً (أكثر من دولار بقليل) لسائق التاكسي".

يرى (م.ع) أن المصريين في عهد السيسي أوضاعهم صعبة جداً، ويؤكد أن الكثير من زبائنه أصبحوا يحدثون أنفسهم بصوت عال داخل التاكسي من شدة همومهم، يقول لنا: "منذ أيام ركبت معي سيدة أربعينية، سمعتها تقول "مش عارفة أجيب فلوس مدارس ولادي منين يا ربي"، كنت أظنها تحدثني، لكنها قالت لي "أنا بكلم نفسي من غُلبي"، الحقيقة الأمر يتكرر كثيراً، الناس أصيبت بالجنون بسبب زيادة الفقر في المجتمع".

بحسب محدثنا فإن الأوضاع لم تكن هكذا حتى أيام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، الذي يراه "كان فاسداً لكنه كان يراعي الفقراء ولا يقبل أن تطالهم قرارات صارمة من الحكومة، كانت الأسعار رخيصة وأوضاع الناس أفضل بكثير، حين خرجنا في ثورة يناير ضده كان السبب هو فساد نظامه وظلم وزارة الداخلية، لكن لم نكن نتوقع أبداً أنه سيأتي يوم ونقول: فين أيام مبارك".

يرى (م.ع) أن المصريين تغيروا كثيراً منذ ثورة يناير، فالثورة رغم أنها أخرجت أجمل ما فيهم، إلا أنها أخرجت الأسوأ كذلك، ويقول إن الفوضى باتت تسيطر على حياة المصريين، و"بعضهم يقبل على نفسه الحرام” ويحكي أنه أكثر من مرة يركب معه بعض الزبائن وبعد أن يوصلهم إلى المكان المطلوب يقولون له إنهم سيحضرون له التعريفة من منزلهم، ثم يختفون تماماً ولا يعودون، "تكرر هذا الأمر كثيراً، لا أعرف هل السبب في ذلك هو الفقر أم أن أخلاق الناس ساءت؟".

"الناس عاوزة تفضفض"

ما لاحظه (م.ع) خلال سنوات عمله سائقاً أن العديد من الزبائن يرغبون في البوح بمشاكلهم، فهم يعلمون أنهم لن يروا السائق مرة أخرى، وبداخلهم مشاكل وهموم شتى، فيقومون بإخراجها من صدورهم ثم ينزلون من التاكسي وهم يشعرون ربما براحة نفسية، ويشبّه السائق دوره مع بعض زبائنه بأنه أقرب لدور الطبيب النفسي، قائلاً إن "الناس من كتر الهم عاوزة تفضفض مع شخص غريب عنها وتقول كل اللي جواها".

رصيف22 قضى يوماً مع سائق تاكسي مصري وتجول معه في شوارع وميادين القاهرة... ماذا قال عن مهنته وكيف تغيرت مصر وكيف يرى زبائنه "البلد" اليوم؟

يتوقع سائق التاكسي المصري (م.ع) أن تحدث "ثورة كبرى قريباً" في مصر، يرى أنها ستقضي على الأخضر واليابس، ويعتقد أن الحكومة الحالية تدوس على الفقراء بدرجة لا يمكن لأي عاقل أن ينكرها

هناك مواقف كثيرة لا ينساها (م.ع) منها على سبيل المثال المنتقبة التي ركبت معه من منطقة إمبابة (أحد أحياء محافظة الجيزة الشعبية)، وحين نظر في مرآة السيارة وجدها تخلع نقابها، وبعدها تنزع عنها العباءة السوداء التي كانت ترتديها، ليلاحظ أنها ترتدي تحتها فستاناً قصيراً، ثم وضعت مساحيق تجميل فباتت بـ "ماكياج" كامل، لوهلة ظن أنها فتاة ليل، كما يقول، لكنه يكمل أنها حين لاحظت أنه ينظر إليها في مرآة السيارة، قالت له إنها سيدة محترمة، ولا تريده أن يفهمها خطأ، وحكت له أنها تعمل مضيفة في أحد المطاعم بفندق النبيلة الواقع بشارع جامعة الدول بمنطقة المهندسين، وهي مضطرة للخروج منتقبة من بيتها لأن أسرتها متدينة، ولا يعرفون عنها سوى أنها تعمل ممرضة في إحدى المستشفيات. قالت له هذه السيدة إنها مطلقة، وتعيش مع أسرتها، ولم تجد فرصة عمل سوى في ذلك الفندق، حيث تحصل على مقابل كبير تستطيع من خلاله أن تنفق على ابنها الوحيد حتى لا تصبح عالة على أسرتها. "اللي يسمع بلاوي الناس تهون عليه بلوته” يقول محدثنا.




يتذكر السائق أيضاً الرجل السبعيني الذي ركب معه قبل أسابيع، وكان حزيناً جداً، فسأله أمين عن سبب حزنه، فبكى الرجل وأخبره أن جميع أبنائه تركوه وحيداً، وطلبوا منه أن يترك الشقة التي يعيش فيها ويذهب لدار مسنين حتى يبيعونها ويوزعون سعرها بينهم. حكى الرجل للسائق أن أولاده المتزوجين جميعاً لا يزورونه أبداً وينتظرون موته حتى يرثوا عنه الشقة، وحين وجدوا أن موته تأخر أرادوا الحصول عليها في حياته، يقول (م.ع) إن بكاء الرجل أثر فيه وجعله يبكي بدوره ويتساءل: هل يمكن أن يأتي يوم ويحدث معه هذا الموقف؟

الحب في المقعد الخلفي

لكن بعيداً عن هذه الآلام، فبحسب (م.ع) هناك "حبيبة” (محبين) يركبون معه ويجلسون في المقعد الخلفي للسيارة، يحتضنون أيدي بعضهم البعض ويتحدثون عن المستقبل، وأحياناً يتحدث الشاب لحبيبته عن أنه يتمنى أن يتزوجها في أقرب وقت لكن ظروفه المادية تمنعه من أن يتقدم لها رسمياً، ويؤكد أنه بات يعرف الحب الحقيقي من المزيف من الطريقة التي يحدث بها الشاب فتاته وهو يراقب تفاصيل وجهه في المرآة العاكسة في التاكسي.

"ما أسمعه في التاكسي من أحاديث الحبيبة يكون رغماً عني، أنا لا أقصد التنصت عليهما، لكن المحادثة تكون بصوت عالٍ أحياناً، ومن شدة الحب ينسيان أنهما في تاكسي وأن سائقاً معهما، لكني طبعاً لا أقبل بأي تجاوزات في سيارتي، ممكن أن أسمح بكلام رومانسي، لكن قبلات أو أحضان غير مسموح بها" يقول السائق مبتسماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image