شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لنتمسك بما نحب بعد سن الخمسين… حتى لو كان كأس خمر

لنتمسك بما نحب بعد سن الخمسين… حتى لو كان كأس خمر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 24 فبراير 202102:19 م

حين شاهدت الفيلم الدنماركي السويدي "جولة أخرى" (2020) للمخرج توماس فنتربيرغ، لم أستطع سوى استدعاء  كتاب "الحياة بعد الخمسين "، للكاتب المصري سلامة موسى، فهو يتحدث عن معنى قريب من الفيلم، لولا أن موسى أصدر كتابه في ثلاثينيات القرن الماضي.

يبدأ الفيلم بمشهد لأربعة شباب أثناء احتفالهم بإنهاء دراستهم الجامعية، يتسابقون أيهم يشرب أكثر من الخمور، ويصاحب ذلك كل المؤثرات التي توحي بالحيوية والانطلاق، وفي المشهد التالي صورة لنفس الشباب بعد أن أصبحوا في الأربعين من العمر، كل منهم له أسرة وأولاد وعمل، لكنهم يعانون من الملل الذي وصل حد الاكتئاب، بسبب شعورهم أن حياتهم بلا معنى.
المعنى بالنسبة لهؤلاء كان في استعادة شربهم الخمور بكثافة، وهو ما حدث، لتدبّ فيهم الحياة مرة أخرى، فينشطون في عملهم ويصلحون علاقاتهم الزوجية، وأخيراً يبدؤون جولة جديدة من الحياة من خلال كأس خمر.
أما سلامة موسى في كتابه الذي أشرت إليه، فتحدث أن الإنسان العربي، وخاصة المصري، إذا اعتاد شرب الخمور في شبابه فيجب ألا يتوقف عن هذا بعد سن الخمسين، بدعوى إنه "كبر" وأنه يستعد للموت، لأنه باتخاذ هكذا قرارات يحرم نفسه من متعة اعتاد عليها، وبالتالي يُصاب بحالة نفسية سيئة تؤدي إلى اكتئابه، وربما موته العقلي قبل الجسدي، وكل ما يمكن فعله هو ترشيدها بما يتناسب مع المرحلة العمرية التي يعيشها، طالما ليس هناك سبب عضوي يمنع من ذلك.

لماذا يتخلى الإنسان عن فعل ما يحبه في سن معين، دون سبب واضح لهذا التصرف، سوى قراره أن ما يحبه أصبح لا يليق به، ناهيك عن عدم وجود معايير لما يليق ولا يليق بالإنسان؟

ما تناوله الفيلم وقبله سلامة موسى، دفعاني لسؤال أشمل عن مفهوم الحياة نفسها، فلماذا يتخلى الإنسان عن فعل ما يحبه في سن معين، دون سبب واضح لهذا التصرف، سوى قراره أن ما يحبه أصبح لا يليق به، ناهيك عن عدم وجود معايير لما يليق ولا يليق بالإنسان؟
لاحظت ذلك بوضوح في أبي ومحيط معارفي، فبمجرد بلوغهم سن الخمسين أو الستين، يتركون كل ما اعتادوا عليه أو أحبوه، ويعيشون حالة "زهد" استعداداً للموت الذي اقترب، حتى لو عاش الواحد منهم حتى المائة.
تلك الحالة لها أسبابها، فالكثيرون بعد سن الخمسين يشعرون أن "مفرمة الحياة" أخذت منهم الكثير، وأن ما تبقى سنوات قليلة يجب استغلالها جيداً لعبادة الله قبل الموت والحساب، ويعزّز ذلك وجود قوانين تحدد سنّاً لاعتزال العمل، ما يُشعر الفرد أن مهمته الدنيوية انتهت وعليه الاستعداد للآخرة، وهو ما تلخصه العبارة العامية الدارجة "يلا حُسن الختام"، التي يشير بها الفرد إلى أنه وصل لمرحلة عمرية لا تتطلب منه سوى العبادة فقط.

أليس شعور الإنسان بأنه لازال يتمتع بحياته هو أقوى علاج ضد الملل والاكتئاب الذي قد يؤدي إلى الموت؟

تلك الرؤية كان يمكن أن تكون لها وجاهتها، لولا أن كثيرين ممن "يستعدون للموت"، أو يتعجّلونه برأيي، لا يكتفون بالتخلي عن أفعال تخضع للنظرة المحافظة الدينية، بل يتخلون عن الحياة نفسها، فيهملون مظهرهم الشخصي، جلسات الأصدقاء، السفر والتنزه وممارسة الجنس مع زوجاتهم، أو العكس في حالة المرأة، ويتخلون عن أحلامهم أصلاً.

المشكلة الأكبر، أن كثيرين لا ينتظرون حتى سن الخمسين، فكثير من أصدقائي، في منتصف الثلاثينيات، وبمجرد زواجهم، انقطعوا عن موعد "السهرة الأسبوعية" في المقهى، وحين انفصل بعضهم، عادوا لتلك السهرات باشتياق كبير، مؤكدين أن من أسباب "تعاستهم" انقطاعهم عما يحبون، رغم أن سبب الانقطاع لا علاقة لهم بزواجهم، ولكن بقرارهم أنهم أصبحوا "متزوجين" وبات هذا لا يليق بهم!

هنا بالضبط تكمن الخطورة، فمن حق أي إنسان تغيير عاداته أو التخلي عنها كما يشاء، لكن أن يتم ذلك ضد رغبته الشخصية، ولمجرد اعتقاده أن ما اعتاده أو يحبه لا يليق بمرحلة عمرية أو حياتية معينة، فهذا يعني أنه يرتكب جريمة بحق نفسه.

فاستمرارنا في العادات التي نحبها وتلك التفاصيل الصغيرة، هي في رأيي ما يجعلنا نشعر أننا لم نشخ بعد، وأننا قادرون على الاستمتاع بكل وقت، والدليل أن ما نفعله في سن العشرين هو ما نفعله في سن الستين والسبعين، حتى لو خضعنا لمتطلبات السن قليلاً، أليس شعور الإنسان بأنه لازال يتمتع بحياته هو أقوى علاج ضد الملل والاكتئاب الذي قد يؤدي إلى الموت؟

ولعل أوضح دليل على ما أقول هو أصحاب المهن الإبداعية، كالفنانين والكتّاب، فاستمرار هؤلاء في فعل ما يحبونه حتى آخر العمر، جعلهم مقارنة بأقرانهم، متفاعلين مع الحياة أكثر، وشغوفين بمعرفة الجديد، وهذا أقوى مضاد لـ"الشيخوخة"، ولعل أبرز النماذج، نجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل، فكلاهما ظل بحالته العقلية والجسدية والإبداعية بعد سن التسعين.

من حق أي إنسان تغيير عاداته أو التخلي عنها كما يشاء، لكن أن يتم ذلك ضد رغبته الشخصية، ولمجرد اعتقاده أن ما اعتاده أو يحبه لا يليق بمرحلة عمرية أو حياتية معينة، فهذا يعني أنه يرتكب جريمة بحق نفسه

لذلك أقول لكل من يقرأ هذه الكلمات: تمسّك بما تحب أن تفعله مهما يكن، فليس هناك سبب يمنعك من ذلك، بل إن انقطاعك عما تحب فعله، وتحويله لماض تتذكره بأسى وتقول "كانت أيام"، هو في حد ذاته إعلان تخلٍّ عن الحياة نفسها، لتصبح بلا معنى، تماماً كأبطال الفيلم الذين وجدوا أنفسهم شيوخاً في الأربعين.
وأخيراً، في 2015 شاركت بدورة تدريبية بالعاصمة الأردنية، عمّان، وبعد انتهاء "الكورس"، أقمنا احتفالاً بتلك المناسبة، لأجد أساتذتي "الأجانب" والذين تخطوا الخمسين وبعضهم السبعين. في الحفل، شاركوني الرقص والاستمتاع بالموسيقى، وقتها فقط عرفت لماذا مظهر هؤلاء شباب إلى هذا الحد، ولماذا يتحدثون عن أحلام لمائة عام مقبلة. ببساطة لأنهم لم يتخلوا عن فعل ما يحبون، ولأن الحياة كفيلة أن تُجبرنا على التخلي عن كثير مما نحب، ولأنها لن تمنح الخلود لأحد، فعلى الأقل لنتمسّك بما يسعدنا، ولا نكون سبباً في تعاسة أنفسنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image