لم تحفل زيارة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات إلى إسرائيل عام 1977 بتأييد واسع من قِبَل المثقفين، واعتُبِرَ المنادون بالتطبيع خونةً ومُضيعين للعروبة، في وقت كان أكثر من بلد عربي، وعلى رأسها فلسطين تعاني ويلات الاستيطان. فكان طبيعياً أن يُقابَل تفكير أحد المثقفين في زيارة إسرائيل بثورة عارمة، واعتباره خائناً حتى وفاته، وهو ما جرى للكاتب المصري علي سالم.
إسرائيل قتلت شقيقه فذهب لزيارتها
عام 1936 وُلِدَ علي سالم في مدينة دمياط، داخل أسرة مكونة من ثمانية أبناء، هو أكبرهم، وأبٍ يعمل شرطياً. لم يكمل عليّ تعليمه الجامعي، واضطر للعمل في مهنٍ بسيطة في بداية حياته ليعول أسرته، التي توفي عنها الأب عام 1957، واستشهد أحد الأبناء في حرب 1948.
عُرِف عن علي سالم شغفه بعالم المسرح، فبدأ نشاطه كممثل في العروض الارتجالية بدمياط، ومنها إلى عالم الاحتراف ككاتب للمسرحيات سيصبح لاحقاً علامة هامة في مسيرة المسرح المصري، فاستهل تجربته الإبداعية بمسرحية "ولا العفاريت الزُرق"، ثم "عزبة الورد"، و"طبيخ الملائكة" لثلاثي أضواء المسرح سمير غانم، وجورج سيدهم، والضيف أحمد، وبعدها توالت منتجاته التي بلغ إجماليها 27 مسرحية، وتظل "مدرسة المشاغبين (1971) درة أعماله المسرحية.
للسينما أيضاً نصيبها من نصوص علي سالم، فأخذ المخرجون قصصه ومسرحياته لعرضها على الشاشة الكبيرة، مثل "أعظم طفل في العالم"، و"في الصيف لازم نحب"، و"الملكة وأنا"، و"العيال الطيبين"، لكن من بين كل هذه الأعمال، يبرز فيلم "أغنية على الممر" (1972) الذي تدور أحداثه في "أحد المواقع العسكرية، يدافع عنه خمسة جنود، في قلب سيناء... لم تصلهم أوامر الانسحاب، فكان عليهم الصمود، برغم تناقص الماء والطعام والذخيرة، وتحت قصف دبابات وطائرات العدو، يتمسك الجنود بمكانهم... يواجهون مصيرهم بشجاعة"، وفقاً لما أورده الناقد المصري كمال رمزي في إحدى مقالاته.
مسيرة علي سالم المليئة بكل هذا النجاح، كان سيكتب لها السير في هدوء لولا أن صاحبها اختار طريقاً مغايراً، بل ربما يتناقض مع ما قدّمه من فكر، فالرجل الذي استُشهد شقيقه على يد الإسرائيليين، أعلن موافقته على التطبيع معهم بعد معاهدة السلام، والكاتب الذي حثّ جنود "أغنية على الممر" على الاستمساك بالأمل في مجابهة العدو على الجبهة، هو ذاته الذي قرر الذهاب طواعية إلى العدو.
مسيرة علي سالم الإبداعية المليئة بالنجاح، كان سيكتب لها السير في هدوء لولا أن صاحبها اختار طريقاً مغايراً، بل ربما يتناقض مع ما قدّمه من فكر
ذلك القرار كان له أثره على الجانبين؛ ففي مصر، سعى زملاؤه الكتّاب لطرده من "جمعية الأدباء المصرية"، وفي إسرائيل، قررت جامعة بن غوريون منحه الدكتوراه الفخرية في حزيران/يونيو 2005، وبعدها بثلاثة أعوام، منحته مؤسسة "تراين" الأمريكية جائزة "الشجاعة المدنية" البالغ قيمتها 50 ألف دولار.
في 22 أيلول/سبتمبر 2015 توفي علي سالم، ولم يخلُ خبر وفاته في كل المواقع الإخبارية دون إشارة إلى الجدل الذي أحدثه موقفه من التطبيع ورحلته إلى إسرائيل، لكن ماذا عن هذه الرحلة وكواليسها؟
من مصر إلى إسرائيل بسيارة النيفا
في أعقاب اتفاقية أوسلو عام 1993، أعلن علي سالم نيته لزيارة إسرائيل بسيارته، في مقال كتبه لمجلة "الشباب" بعنوان "السلام الآن"، قال فيه: "إن الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يُشكّل لحظة نادرة في التاريخ. إنها لحظة اعتراف الأنا بالآخر. أنا موجود، وأنت أيضاً موجود، الحياة من حقي وهي أيضاً من حقك (...) غير أن الحديث عن السلام ليس كافياً لصنعه، لا بد أن نتقدم نحن لتجسيده بالفعل وليس بالكلمات".
في نيسان/أبريل عام 1994، شد علي سالم الرحال إلى إسرائيل ليُجيب عن سؤالين: "من هم هؤلاء القوم؟ وماذا يفعلون؟"، بحسب ما رصده في كتابه "رحلة إلى إسرائيل" الذي نشرت مكتبة "مدبولي الصغير" الطبعة الأولى منه عام 1996.
استهل علي سالم كتابه بمشهد درامي قصير ليكون مفتتحاً للدخول إلى قلب الرحلة مباشرة، بقوله: "قلبي يحدثني أن سيارتي لن تتعطل، لا بد أنها على وعي بظروفي الحرجة، كما أنني أثق بالأسطى عثمان الميكانيكي، الأب الروحي لسيارتي النيفا الخضراء، التي أعتبرها أقوى ما تبقى من الاتحاد السوفييتي. قام عثمان بعمل عَمرَة كاملة للموتور، طلبتُ منه أن يستبدل أي جزء فيها يشك في صلاحيته (...) أريدك أن تؤهل هذه السيارة لمشوار طويل"، ثم سأله عثمان: "إلى أين أنت ذاهب؟" فأجاب سالم: "إلى إسرائيل".
بعدما أتم علي سالم الأمور الروتينية الخاصة بالسفر براً، ارتحل بسيارته نحو العريش التي استقر بأحد فنادقها، ثم توجه إلى رفح صباح السابع من نيسان/أبريل لعام 1994، وها هو أخيراً يرى نفسه على الحدود، التي كانت الطبيعة بها عبارة عن "تلال صحراوية تزحف عليها الخضرة في عناد، غير أن اللون الأصفر هو الغالب (...) ليذكرك بأخطر مشاكل المنطقة: المياه"!
بعدما قطع سالم شوطاً طويلاً على الحدود بين رفح وتل أبيب، أجاب على السؤال الذي شغل قارئ كتابه، فقال: "لست غبياً إلى الدرجة التي أتصور فيها أنني أتحرك بعيداً عن أعين الأمن الإسرائيلي في دولة هاجسها الأول هو الأمن. كما أكون متخلفاً لو تصورت أن حركتي داخل إسرائيل كانت بعيدة عن أعين وآذان المخابرات المصرية. أحياناً يكون الدليل الوحيد على التواجد الأمني هو نفسه الغياب الواضح للأمن".
رحلة سياسية بامتياز
أولى المدن التي زارها علي سالم في إسرائيل كانت "نتانيا"، التي استقر بأحد فنادقها، وظن أن الصحافة الإسرائيلية ستكون أول مستقبليه، لكن "الشرطة كانت أسرع"، لكنهم كانوا يريدونه لأمر روتيني بحت يخص إقامته بالفندق، وإلصاق "ورقة على زجاج السيارة الأمامي، مكتوب فيها: صاحب هذه السيارة مصري مقيم في الفندق... أي مخابرة تتم مع مكتب الاستقبال".
لم ينسَ علي سالم أن يوجه رسالة إلى معارضي التطبيع في مصر، ورحلته إلى إسرائيل
ضجت زيارة علي سالم إلى إسرائيل بالكثير من الحوارات الصحافية والتلفزيونية، والدعوات إلى الجامعات والندوات الثقافية والشعرية، وهو الكم الأكبر الذي نجده في كتابه "رحلة إلى إسرائيل"، فأجرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" حواراً معه، قال فيه إنه جاء إلى إسرائيل "دعماً لاتفاقية أوسلو، ودعما للسلام الفلسطيني الإسرائيلي، ولأعرف الناس عن قرب". أما عن سبب مجيئه بالسيارة، فأجاب: "لإعادة تذكير الناس بأن بيننا وبينكم حدود مشتركة، وأننا قريبون منكم وأنتم قريبون منا".
تكرر الأمر ذاته حين ظهر على التلفزيون الإسرائيلي، عندما سأله مقدم البرنامج يوسف إسماعيل: "لماذا جئت بالرغم من أننا نعرف أن معظم المثقفين المصريين لا يوافقونك على هذه الرحلة؟" فأجاب سالم: "لا أمثل إلا نفسي ومعي أصوات قليلة، ولكني أذكّرك بأن الأصوات القليلة التي تؤمن بما تفعل هي التي تصنع التاريخ".
علي سالم
كاتب مثل علي سالم، اشتهر بالكوميديا والسخرية، كان حرياً به ألا يترك سطراً دون إلقاء إحدى سخرياته التي في باطنها يتضح مراده التأكيدي على هدفه من الزيارة، فيتحدث عن النساء برصد سريع لقصة سيدة عرضت عليه نفسها، بقولها: "ألا تريد امرأة؟"، فشعر بالحرج، أو بحسب قوله: "أمر فظيع أن يقول رجل لامرأة إنه لا يريدها حتى لو كان لا يعرفها، حتى لو كانت مهنتها هي أقدم مهنة في التاريخ (...) قلت لها متلعثماً: "الواقع أنني لا أريد، ولكن لأسباب تتعلق بي وليست خاصة بك... أقصد أنني آسف".
ثم يتحدث عن فكرة تجنيد الغُرَباء المترسخة في "عقول المصريين"، فيقول: "إذا اتخذنا مسلسلات التليفزيون مرجعاً للواقع المعاش، فلا بد من ظهور فتاة جميلة شقراء اسمها إستير، تضعها الموساد في طريق البطل المصري، فتوقعه في حبها ثم تبكي من فرط حبها له".
بالفعل ظهرت فتاة تدعى "إستير" في رحلة علي سالم، لكنها كانت ممرضة مكلفة بتضميد جرحه جراء عملية طفيفة أجراها هناك، وعن هذا يقول: "أعتذر عن الإحباط الذي أسببه للقارئ الذي ربما يكون قد منّى النفس بعدة لقطات ساخنة تشترك فيها إستير. وبذلك يتضح أنها ـ للأسف ـ لم تكن مكلفة من الموساد بالاقتراب مني والسيطرة عليّ، ولكن عليّ أن أعترف ببعض التقصير من ناحيتي، حيث أنني لم أبذل أي محاولة جادة للوقوع في قبضتها بسبب المرض وضيق الوقت".
بعيداً عن السياسة... أين إسرائيل؟!
ندر وجود أي وصف لإسرائيل من الداخل كما يفعل أغلب الرحالة، فلم يسرد علي سالم في أيٍّ من فصول كتابه الكثير عن عادات الإسرائيليين، ووصف الأماكن إلا باستثناءات يسيرة، مثل قوله: "لم أحب تل أبيب، فلست أحب المدن التي تُقام خصيصاً للسياحة، بُناتها يحرصون على أن تكون جميلة ولامعة في كل أجزائها وجزئياتها، وليس هذا هو طابع الحياة".
وفي سياق آخر يقول: "حتى الآن، ومن خلال ما مضى من أيام قليلة في زيارتي السريعة، ومن زاوية معينة، يمكن اعتبار إسرائيل شركة مساهمة متعددة الجنسيات، بها إدارة حسابات منضبطة، هذه الإدارة تحرص على إنفاق الميزانية في بنودها المحددة، كما تحرص في نهاية العام على توزيع الأرباح بانضباط صارم على المساهمين. لا يوجد مساهم أتخن من مساهم آخر".
عن سبب مجيئه بالسيارة، قال لصحيفة "يديعوت أحرونوت": "لإعادة تذكير الناس بأن بيننا وبينكم حدود مشتركة، وأننا قريبون منكم وأنتم قريبون منا"
لعلّ أبرز ما رصده علي سالم في رحلته، هو مدى تعلق الشعب الإسرائيلي بالقوة الناعمة المصرية، فيقول: "الناس في إسرائيل تشاهد الفيلم المصري في التليفزيون بانتظام في تمام الخامسة والنصف كل يوم جمعة، والترجمة على الشريطة باللغة العبرية، ويشاهدون المسلسلات مترجمة أيضاً. وعلى حد علمي، لم نسمع عن شخص واحد يُحذر من الغزو الثقافي المصري، كما لم نسمع عن ضحايا لهذا الغزو".
رصدُ سالم لهذا التماهي الثقافي كان غرضه تسليط الضوء على المخاوف المصرية من غزو إسرائيلي مُضاد، وهو ما أكده بذكر واقعة حدثت له في مصر قبل سفره بعدة أسابيع، وكان بطلاها نجيب محفوظ والمفكر الاقتصادي جلال أمين، الذي "تكلم طويلاً عن أخطار الغزو الثقافي الإسرائيلي الوشيك الذي يهدد التراث المصري والثقافة المصرية، فأنصت إليه نجيب محفوظ إلى أن انتهى من كلامه، وسأله: هل أنت ترى فعلا أن إسرائيل قادرة على أن تفعل بنا ذلك؟ قال جلال: نعم، ولقد جئت لأسألك ماذا نفعل؟ فأجاب محفوظ: "مُوتوا... إذا كانت إسرائيل قادرة على تدمير وإفناء التراث الفني والأدبي والثقافي المصري والعربي فمن الأفضل لنا جميعاً أن نموت".
كتاب موجه إلى إسرائيل وليس لمصر
طوال 252 صفحة يُصرّ علي سالم على التأكيد بأن المصريين ليسوا عنصريين، في المقابل يُبطن رسائل إلى قرائه المصريين تحثهم على قبول وجود إسرائيل، أو "الآخر" كما يسميه، مما حدا به لتوجيه رسالة إلى اليهود في إسرائيل وفي العالم أجمع، مفادها: "المصريون لا يعرفون العنصرية، وأنتم لم تكونوا عبيداً عند الشعب المصري". ثم أخذ يستدل على ذلك باقتباسات من التوراة، من خلال ما جاء في سِفري التكوين والخروج تحديداً.
لم ينسَ علي سالم أن يوجه رسالة إلى معارضي التطبيع في مصر، ورحلته إلى إسرائيل، فقال: "لتكن الاتهامات الموجهة ضدي ما تكون، فأنا واثق أن غالبية خصومي على وعي بأنهم يكذبون. وهم جميعاً على يقين من أنني أعمل من أجل مصر والمصريين. وأنا آسف للألم الذي سببته لهم برحلتي، فقد أرغمتهم على التفكير الحرّ المسؤول، والتعامل مع واقع جديد في المنطقة يتطلب العمل الشاق والمعرفة والإبداع".
قنبلة علي سالم داخل الوسط الثقافي المصري
سفر علي سالم إلى إسرائيل كان له أثره على المثقفين المصريين، فطرده زملاؤه الكتاب من "جمعية الأدباء المصرية"، وكذلك تم فصله من "اتحاد الكتاب المصريين" في أيار/مايو عام 2001.
نشر "اتحاد الكتّاب المصريين" بياناً أوضح فيه أن سالم هو الوحيد بين الكتاب والمثقفين العرب الذي يجاهر بهذه العلاقة غير المعقولة
وقتها، نشر الاتحاد بياناً أوضح فيه أسباب لجوئه إلى اتخاذ قرار الفصل، مشيراً إلى أن سالم "دأب على التباهي بزياراته المتكررة إلى الكيان الصهيوني، (...) وأنه الوحيد بين الكتاب والمثقفين العرب الذي يجاهر بهذه العلاقة غير المعقولة وغير المشروعة، وهو ما يدل على إصراره على الخروج على موقف اتحاد الكتاب المضاد للتطبيع مع العدو، وهو موقف ثابت لن يتغير، ويتفق معنا في ذلك اتحاد الكتاب العرب".
في أعقاب البيان، ظهر رد فعل الأديب الراحل إبراهيم أصلان في تصريحات صحافية، قال فيها: "قرار الفصل قديم وليس جديداً، فقد كان موجوداً من أيام الراحل سعد الدين وهبة، لكنه لا أعرف السبب الذي أدى إلى تأخيره (...) القرار يأتي معبراً عن حالة الغليان الموجودة في الأوساط الثقافية في مصر والوطن العربي، ضد دعاة التطبيع الذين يجب عليهم أن يوجهوا حديثهم إلى داخل إسرائيل. وموقفنا في هذا واضح، نحن لا نعتدي على أحد وهم الذين يعتدون، ويقومون بمجازر يومية ضد أبناء الشعب الفلسطيني أصحاب الأرض (...) قرار الاتحاد ضد سالم عادي ورمزي، ويعبر عن رفض كل من لا يزالون يتشبثون بآراء تطبيعية لا تستند إلى الواقع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com