يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".
تتنافس المقاهي في قطاع غزة على الإبداع في ابتكار ديكورات مميزة بأفكار مختلفة لا مثيل لها على الإطلاق لجذب عدد معين من الزبائن؛ فلم يعد المقهى مكاناً لناول المشروبات فقط، بل أصبح فضاءً لتجمّع والتقاء الأصدقاء، وبمثابة مكتبة ثقافية تقدّم لزبائنها بشتى الوسائل والطرق. فابتكر كلُّ مقهى أسلوبه الخاصّ به، والذي يميزه ويجعله فريداً ومختلفاً عن أيّ مقهى آخر.
إذا كُنتم تشربون القهوة
"بونجوج"، أحد أبرز المقاهي المنتشرة وسط قطاع غزة، رغم أن مساحته لا تتجاوز 32 متراً، إلا أنه لا يخلو من وجود فئة الشباب والمثقفين فيه يومياً.
يقول صاحب المقهى عبد الله شحادة (27 عاماً) لرصيف22: "قبل ثلاث سنوات، أي عام 2017، جاءت فكرة عمل مقهى لأول مرة في مكان صغير يتّسع لعشرين شخصاً فقط، ولا يوجد به شيشة (ناركيلة)، او لعبة شدّة، أو مباريات، بل لتقديم المشروبات الساخنة والقهوة. ووضعنا على باب المحلّ شعار (إذا كُنتَ تشرب القهوة)، خاصة أنني وإخوتي توارثنا طحنَ القهوة من والدي الذي كان يملك مطحنة قهوة أيامَ التسعينيات."
ويتابع: "بدأنا انا وإخوتي بوضع 5 طاولات وكراسٍ، و(بار) من الخشب، ورسمنا على الجدران بأنفسنا، وتركنا مساحة فارغة للزبائن الرسّامين والفنانين التشكيليين، فأصبح هذا المكان يعبّر عن شخصيتنا، وحاضناً للشباب من نفس جيلنا وتفكيرنا، من خلال الديكور الذي صنعناه بأفكار حرفية جديدة وغريبة، مثل وضع زجاجات المشروبات الروحانية فارغة على السّقف، ووضع آلات موسيقية على الحائط، كالعود، لأن من روّاد المكان موسيقيون ومغنون، فيجب أن نوفّر لهم ما يحتاجون. كما جعلنا زاوية بشكل طبقات تحتوي على كُتب وروايات للقراءة."
ويوضح شحادة: "نجد الإقبال على هذا المكان من طبقة الأشخاص المثقفين والقرّاء والكُتاب والفنانين، وطلبة الجامعات والمطّلعين أكثر على مواقع الإنترنت والعالم الخارجي. فمن خلال هذا المكان نجد الحريّة في الفكر بين الشباب والفتيات خاصة أننا نعيش في مجتمع شرقيّ لا نجد فيه هذه الثقافات."
بُنجوج
وعن سبب اختيار اسم مقهى، "بنجوج"، يقول عبد الله: "في الماضي كان اسم مطحنة القهوة (بُن). وجاءت كلمة جوج نسبة لاسم أخي جميل؛ فالاختلاف الذي نقدّمه لزبائننا عن باقي المقاهي هو المزاج العام؛ فهنا نجد أشخاصاً يريدون التنفس. ونسعى حالياً إلى توسيع المكان، فعملنا على تأجير بيت قديم وتراثيّ يحتوي في داخله على حدائق، نقدّم فيها ركناً خاصّاً بكلّ شخص؛ على سبيل المثال للقُراء نجد زاوية بمكتبة مجهزة خاصة بهم. والموسيقيون والرسامون لهم حصتهم أيضاً. فعملنا على مكان يجمع كلّ الفئات التي لا تجد لها مساحة للتعبير عمّا بداخلها في القطاع المحاصر."
كتب متراصة بنظام بديع بجانب بعضها بعضاً
هبة (19 عاماً)، من أحد الزبائن التي كانت تجلس في زاوية مقهى بنجوج على طاولة، وتقرأ رواية لشكسبير تقول: "عرفتُ المقهى عن طريق السوشيال ميديا، وأعجبتني صور الديكور فيه والكتب المتراصّة بنظام بديع بجانب بعضها بعضاً على الحائط. منظر لا نشاهده في أماكن أخرى ويفتح الشهيّة على القراءة والتمعن والتركيز."
عملنا على تأجير بيت قديم وتراثيّ يحتوي في داخله على حدائق، نقدّم فيها ركناً خاصّاً بكلّ شخص؛ على سبيل المثال للقُرّاء نجد زاوية بمكتبة مجهزة خاصة بهم. والموسيقيون والرسامون لهم حصتهم أيضاً
وتتابع الطالبة الجامعية هبة: "أدرس تخصّص تجارة، وأتردد على المقهى كلّ يومين، أو عندما لا يكون لديّ محاضرات في الجامعة، فأقضي وقتاً جميلاً، وأشعر بالراحة والسعادة، خاصة أن صاحب المقهى شخص لطيف يجذب الزبائن من خلال طحنه للقهوة وتقديمها في هذا المكان الصغير أمام عيوننا. فرائحة القهوة تبهر كلّ من دخل المكان."
آراء وقصص مختلفة في المقهى
أما الشاب، فراس اللقطة (21عاماً) فيروي قصته لرصيف22 مع مقهى بنجوج ويقول: "قبل ثلاث سنوات تعرّفت على المقهى عن طريق موقع تويتر، فأصبحتُ أتردد على المكان كلّ يوم تقريباً مع أشخاص من روّاد الموقع أيضاً. فكان المقهى مكانَ تجمّعٍ لنا جميعاً، حتى وصلنا في يوم من الأيام إلى عائلة واحدة انضمّت إلى المقهى عن طريق الصدفة. فجميعنا هنا نعرف بعضَنا بعضاً."
ويتابع اللقطة: "ومع مرور الأيام أصبح لديّ عمل خاص في هذا المقهى أعمل فيه خلال الفترة الصباحية؛ أستقبل الزبائن وأقدّم لهم المشروبات الساخنة وكُتباً متنوعة من الكتب الموضوعة على رفوف الحائط. كما عملتُ على تجسيد العلاقات بيني وبين الزبائن المتنوعين الذين يكونون جميعهم مثقفين وقرّاء ويعملون في شتّى المجالات، فلا يأتون لضياع وقتهم في المقاهي. منهم من تعرّف على الآخرين وعملوا سوياً بمهن مختلفة، ومنهم من أحبّ/أحبّت الأخرى/الآخر من فئة الشباب والفتيات، وتزوجوا، فأصبحا عائلة."
هيا (19عاماً)، إحدى زبائن المقهى تأتي كلّ يوم لتناول القهوة، تقول: "عندما أشعر بالضيق أجد أشخاصاً من نفس تفكيري يساعدونني على التغلب والخروج من المزاج السيء. فيختلف مقهى بنجوج عن الأماكن الأخرى بالنسبة لي. اغلب الزبائن هنا يعرفون بعضهم بعضاً، ولا يوجد شخص غريب، فيمكننا أن (نأخذ راحتنا)، ونضحك ونستمتع رغم ضجيج المكان الصغير الواقع في دائرة مغلقة، إلا أننا نشعر بالسعادة فيه."
وعن مذاق طعم المشروبات في المقهى تقول هيا: "عندما نطلب أيّ مشروب حتى وإن كانت مكوناته غير واضحة ومعروفة، يخرج مذاقه في منتهى الروعة. نتمنى ألا يكبر المقهى، ويبقى صغيراً في ديكوراته الجميلة والغريبة، خاصة الأحواض الزراعية التي يوجد شخص من أحد أصدقائنا يهتمّ بسقيِها كل يوم. هذا المقهى مكان لا يوجد مثله في قطاع غزة."
هوني بي Honey be
مقهى صغير بأفكار عالمية ومميزة غير موجودة في غزة منذ عقد من الزمن، يديره الشاب عمرو صبح (36 عاماً)، والذي درس السياحة والفندقة في مصر، وعمل بفنادقها ومطاعمها لعدّة سنوات.
يقول صبح لرصيف22: "فكرة إنشاء مقهى صغير لا تتجاوز مساحته 40 متراً، بتصاميم مقاهي (رستو كافيه) في قطاع غزة، كانت فكرة غريبة، ونشأت منذ 6 سنوات، فوجدت إقبالاً عليه بشكل كبير من فئة المطّلعين والمسافرين على البلدان الأوروبية وأمريكا وتركيا. فكان بالنسبة لهم المكان الأول ليأخذوا قسطاً من الراحة أثناء السفر أو بانتظار شخص ما. ونظراً لموقعه وسط القطاع والجلوس على طاولات خارجية أقرب للشارع، إضافةٌ إلى تقديم أنواع من الحلويات الغربية ليست مدرجة في غزة مثل (السينابون)، وهي فطيرة القرفة على الطريقة الأمريكية، والبراونيز، وفطيرة التفاح ، والكريب، والوافل، وأنواع حلويات الكويكز، وأخرى عالمية.
وعلى جدران مقهى "هوني بي"، عُلّقت لوحة العشاء الأخير للفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي، وجرائد تركية تمّ الحصول عليها من خلال تجّار الملابس، وصفحات مميزة من صحيفة نيويورك تايمز، إضافة إلى شريط حبل الغسيل الذي يحمل سبعة بلوزات مطبوعة عليهما صور لشخصيات متنوعة من روّاد المكان، وبوب مارلي، وأفكار من تصاميم فكاهية مثل (انا مش مرتبط). وعلى الحائط أيضاً معلقة دراجة هوائية يقودها مانيكان بفكرة شخص تعرّض لحادث ووقع على الأرض، بالإضافة إلى رسم لوحات فنية وأشكال مرتبطة بالحلويات المقدّمة من المكان مثل الكوكيز والسينابون.
يأتون من جنوب وشمال القطاع، ويقطعون المسافات حتى يلتقطوا صوراً لهم بجانب الكشك، متمنّين لي أن أحصل على الوكالة الرسمية لستار بكس
على إحدى طاولات المقهى، يجلس الشاب أمجد الفيومي الذي يمتهن التصوير الفوتوغرافي، ويأكل صنفاً من حلوى"الوافل". يقول أمجد لرصيف 22: "منذ أربع سنوات وأنا مواكب على زيارة هذا المقهى بشكل يوميّ، لأنني وجدت الراحة فيه، فهو المكان الفريد من نوعه -ولأوّل مرة في قطاع غزة- الذي يقدم حلويات غربية بجودة عالية وأسعار مناسبة للجميع."
ويتابع الفيومي: "من خلال عملي في التصوير واطّلاعي على المقاهي الغريبة التي تشبه مقاهي (رستو كافيه)، وجدت أن "هوني بي"، هو الوحيد في غزة الذي يشبه تلك المقاهي، وخاصة الجلسات الخارجية مع صوت ضجيج الشارع.
كشك ستار بكس
حمادة النمر (21 عاماً)، طالب جامعي وصاحب (كشك ستار بكس) في غزة، يقول لرصيف22: "حلمي أن أعمل في مقاهي (ستار بكس) العالمية، وأن يكون لهم فرع في القطاع. فعملتُ على إنشاء كشك صغير بتكاليف بسيطة يحمل اسم (ستار بكس)، بعد أن تواصلتُ مع موقع الإدارة العالمية لستار بكس، ورَفضتْ منحي الترخيص الدولي. لكن عندما شاهدت الغزّيّين يقفون ويلتقون الصور أمام الكشك البسيط والصغير الذي قمتُ بإنشائه، كنتُ أشعر بالسعادة والفخر لأنني حققتُ ولو جزءاً بسيطاً من حلمهم بأن يكون لديهم مقهى (ستار بكس) حقيقي كنا نشاهده عبر الإنترنت والتلفزيون، وأمنيتنا أن نتذوق طعم المشروبات، ونمسك الكوب المرسوم عليه شعار المقهى، خاصة أن معظم أبناء القطاع لم يسافروا بسبب إغلاق المعابر والحصار المفروض على غزة منذ 13 عام."
وعن أصناف المشروبات المقدمة من خلال الكشك يقول النمر:"أعمل على تقديم أصناف من المشروبات التي تشبه (ستار بكس) الحقيقي مثل آيس موكا، وموكا، بالمكسرات، وكابتشينو بالفراولة والبندق، واللاتيه، والقهوة الفرنسية، وأمريكانا."
ويتابع: "تمّ إنشاء هذا الكشك قبل شهر واحد وسط قطاع غزة، وواجهتُ انتقاداً عليه لأنني لم أحصل على الشعار الدولي. ولكن وجدت أيضاً إقبالاً بصورة كبيرة على الكشك من قبل الزبائن الذين يأتون من جنوب وشمال القطاع، ويقطعون المسافات حتى يلتقطوا صوراً لهم بجانب الكشك، متمنّين لي أن أحصل على الوكالة الرسمية لستار بكس. وهذا هو طموحي أيضاً لأن غزة أيضاً أخذت من العالمية ما أخذت. وحتى وإن لا نستطيع أن نخرج إلى العالم الخارجي، فنحن نصنع عالمنا هنا."
كنتُ أشعر بالسعادة لأنني حققتُ ولو جزءاً بسيطاً من حلمهم بأن يكون لديهم مقهى (ستار بكس)
باباروتي
مقهى آخر بدأ ببيع القهوة وأصبح مكاناً مصنوعاً من الخشب، ويقدّم مشروبات وحلويات أوروبية.
زكريا أبو الجبين (32 عاماً)، صاحب مقهى (باباروتي) يقول لرصيف22: "في عام 2017 كان محلّ باباروتي خاصاً بيع القهوة (على الماشي)، وكان إقبال على شرائها من قبل الزبائن. في يوم من الأيام طلب مني أحدهم أن أضع كرسياً وطاولة بجوار باب المحلّ مثل مقاهي (رستو كافيه)، فبدأنا بطاولتين وبار فقط. وبعد ذلك تتطوّر المكان، ووضعنا طاولات مصنوعة من خشب، وأخذنا نقدّم حلويات ومشروبات أوروبية أخرى."
وعن طبيعة الديكورات الموجودة في المقهى، يوضح أبو الجبين: "توجهنا إلى استخدام الخشب في المقاعد لأنه الأبسط عند جلوس الأشخاص عليه. ووضعنا (أنتيكا) قديمة جدّاً، يتجاوز عمرها 80 عاماً، ورسمنا على الجدران نقوش (غرافيك) على شكل رسم بكتابة الأحرف العربية التي نتميز بها في هذا المقهى، إضافة إلى وجود شجرة معلق عليها ورقٌ صغير يحمل ذكريات كَتب عليها كلُّ من جلس في المقهى."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...