في طريقنا نحو أقدم مناجم حجر الفيروز في مدينة نيشابور التاريخية، الواقعة شمال شرقي إيران، مررنا من قريتي "معدن عليا" و"معدن سفلى"؛ قريتان ارتبطت حياة سكانهما بصياغة وصقل ما يستخرج من المنجم من أحجار كريمة، ونادراً ما يشتغلون بالزراعة أو رعاية المواشي كما هو الحال في القرى المجاورة. هنا تتحول أجهزة صقل هذه الأحجار إلى تحف فنية تشكل مهنتهم التراثية، إضافة إلى مشاركتهم في عملية استخراج الأحجار منذ عقود.
تعد مدينة نيشابور موقعاً مهماً لاستخراج حجر الفيروز، حيث يعود تاريخ منجمها إلى نحو 7 آلاف سنة، وهذا ما زاد من شهرة الفيروز الإيراني، وأضاف على قيمته ومكانته بين مثيلاته المصرية والصينية والأمريكية، فبات حجر الفيروز النفيس أحد معالم إيران العالمية.
2000 سنة من استخراج الفيروز واستخداماته في البلاد
تخطت عملية الاستخراج من منجم نيشابور الألفية الثانية، ومع تقدم العمال نحو قاع المنجم، نتفهم ما صرح به مدير عام شركة المنجم التعاونية حامد فَضلِياني، أنه لم يبق سوى مئتي عام لاستخراج حجر الفيروز وفق تقديرات الخبراء.
وكشف فضلياني، أن الحجم المتبقي من الاحتياطيات المعدنية يقدر بنحو 8 آلاف طن، معتبراً أن مع استخراج نحو 40 طن سنوياً من الفيرزو النيشابوري سيفرغ المنجم خلال قرنين فقط.
كانت تتزين أيادي وتيجان ملوك بلاد فارس بالفيروز، فكانوا يؤمنون بأن حملهم لهذا الحجر سيحميهم من الموت الكارثي وغير الطبيعي
إحصائيات تبحر بنا في أعماق التاريخ كي نتعرف على مكانة الفيروز في الحضارة الفارسية والتي استلهمت لونها المفضل منه على مدى ألفي عام من استخراج هذا الحجر القيم وصاحب المنزلة الرفيعة لدى الإيرانيين.
طالما كانت تتزين أيادي وتيجان ملوك بلاد فارس بالفيروز، فكانوا يؤمنون بأن حملهم لهذا الحجر سيحميهم من الموت الكارثي وغير الطبيعي، وراج استخدامه في المجوهرات وأغلفة الكتب وتزيين أطباق وحاويات الملوك والطبقة الأرستقراطية في تاريخ البلاد.
وشيئاً فشيئاً أصبح اللون الأزرق الفيروزي ذات أهمية بالغة وشعبية واسعة لدى عامة الإيرانيين، وقد تعوّد الشعب على مشاهدته في الساحات العامة، كما كان التختم بحجر الفيروز ولما له من لون فاتح، يجلب السعادة ويحمي من عين الشرّ، حسب معتقداتهم.
أنواع الفيروز
بعد دخول الإسلام إلى إيران وخلال الفترة التي امتدت من القرن الـ13 حتى الـ19 الميلادي، بات اللون الأزرق الفيروزي يستخدم في إنشاء الجوامع في إيران، دلالة على السماء، وما تحمله من صفاء وعظمة.
ويحكي لنا الخبير محمد نوروزي، أن الإیرانیین کانوا يطلقون على الفيروز "پیروزه" ويعني "النصر والظفر" بالفارسية، كما يشتهر هذا الحجر في أوروبا باسم تركوايز وتركواز (turquoise)، ويعود السبب للدولة العثمانية التي كانت معبراً أساسياً لتصدير هذا الحجر إلى القارة الخضراء.
ينقسم الفيروز النيشابوري إلى قسمين؛ الأول الفيروز العجمي وهو دائري الشكل وأزرق اللون وفارغ من أي عروق وتخللات، وهو الأغلى سعراً، والثاني هو الفيروز الشجري، بلونيه الأزرق والأخضر، وتتخلل هذا النوعَ العروق والنقوش، إلا أنه يعد مرغوباً من قبل بعض المهتمين كدليل على أنه طبيعي أكثر مقارنة بالنوع الأول.
يدار أقدم مناجم الفيروز عالمياً عبر شركة تعاونية يتكون أعضاؤها الـ340 من أهالي القريتين المجاورتين للمنجم، ويعمل فيه نحو 150 شخصاً، أما عملية بيع الأحجار المستخرجة منه فتتم مرة واحدة خلال كل ثلاثة أشهر ، وذلك عبر مزاد علني يحضره عشرات التجار من أنحاء البلاد، وفق تصريحات مدير عام الشركة.
مناجم عديدة للفيروز
تتم عملية التنقيب والاستخراج على شكلها التقليدي، فلا خبر هنا عن الأجهزة الحديثة وآخر ما توصل إليه العلم والتقنيات، بل ثمة معدات قديمة تتلف بعض الشيء من الأحجار أحياناً وتبطئ مراحل الاستخراج، كما يبدو أن العقوبات على البلاد وإهمال المعنيين ترك أثره على هذا النمط من العمل.
وتوجد هذه الأحجار في بعض جبال إيران، منها منجم باغو في مدينة دامْغان (شمال شرقي إیران)، ومنجم الله آباد ويَخ آباد في مدينة كاشْمَر (شرقی البلاد)، ومنجم بابَك في مدينة ميدوك (وسط البلاد)، ولكن باحثي علوم الأرض أكدوا أن حجر الفيروز الذي يستخرج من منجم نيشابور لا نظير له في باقي مناجم البلاد من حيث الاحتياطات والجودة والتنوع والألوان والأشكال، لذلك لم تستثمر الحكومة بشكل بارز في تلك المناجم.
ويعمل نحو 20 ألف إيراني في مجال صقل وصياغة وبيع حجر الفيروز، معظمهم من سكان مدن مشهد وقُم ونيشابور وإصفهان والعاصمة طهران، كما أن وزارة السياحة الإيرانية اعتبرت منجم نيشابور، المنجمَ السياحي الأول من بين مئات المناجم التي يُستخرج منها عشرات الأنواع من النحاس والأحجار الكريمة وغيرها، فيتوافد السياح الأجانب على زيارته والتعرف إليه سنوياً.
ولطالما اشتكى أهالي القریتين وإدارة المنجم من عدم توفير المرافق العامة لاستقبال السياح كالحمامات والمطاعم ومواقع الاستراحة، إضافة إلى وجود موانع أخرى كالطرق الوعرة، آملين رعاية الحكومة كي تنشط اقتصاد المدينة وتجلب المزيد من السياح إليها.
أسعار الفيروز
بعد سنوات من بيع الأحجار الكريمة بشكل خام، منعت الحكومة أخيراً أي تصدير للفيروز الخام؛ قرار جاء لينعش المهنة التقليدية، فلم تعد تسمح الدولة سوى بتصدير ما تنتجه أنامل الفنانين الإيرانيين من منتجات حجر الفيروز ، إلا أن البلاد ما زالت تعاني من عدم دخولها الأسواق العالمية للأحجار الكريمة.
ويحكي لنا الحرفي عارف شالْچي، أن الفنان البارع هو الذي يقوم بجلخ الحجر وتنظيفه وتلميعه، فهو لا بدّ وأن يتابع بدقة وتركيز متناهيين الصورة التي يضمها الحجر حتى يتم إبرازها، وهذا يتطلب صبراً طويلاً.
ينقسم الفيروز النيشابوري إلى قسمين؛ الفيروز العجمي وهو دائري الشكل وأزرق اللون، وفارغ من أي عروق وتخللات، وهو الأغلى سعراً. والفيروز الشجَري، وتتخلل هذا النوعَ العروقُ والنقوش، إلا أنه يعد مرغوباً من قبل بعض المهتمين كدليل على أنه طبيعي أكثر مقارنة بالنوع الأول
ويتابع شالچي: "تتعدد ألوان الفيروز وفصائله وأعراقه، حيث يباع داخل إيران على نوعين وفق الجودة ونوعية الحجر وصقله؛ الأول بشكل فصوص، والثاني حسب الغرام الواحد، وتبدأ الأسعار من 10 آلاف تومان إلى 1 ميليون تومان، ما يعادل (31 سنتاً حتى 32 دولار) لكل غرام. أما خارج إيران فقد ترتفع الأسعار أكثر من ذلك ليصبح الفيروز واحداً من أغلى الأحجار الكريمة في سائر الدول".
سعي حثيث لتبديل اسم الفيروز
وإضافة إلى الخواتم والحلي، يزين الفيروز وعاء نحاسياً يسمى بـ"فيروزه كوبي" أي "دقّ الفيروز"، وتشتهر مدينة إصفهان في صناعته، وهو وعاء بتصميم وصناعة يدوية، ومغطى بحجر الفيروز المرصع، ويعتبر واحداً من أكثر الهدايا التذكارية شعبيةً في إيران، التي يحملها السياح معهم من إيران.
وخلال السنوات الأخيرة رفعت وزارة السياحة والتراث الثقافي والصناعات اليدوية، ملف مهنة صياغة حجر الفيروز إلى منظمة اليونسكو لتسجيله عالمياً، على أمل أن تتحول مدينة نيشابور إلى المدينة العالمية لاستخراج وصياغة حجر الفيروز النفيس، كما تبذل البلاد جهوداً لتغيير اسم الحجر من (turquoise) إلى (Firoozeh) في اللغة الإنكليزية.
وتستقبل سنوياً مدينة نيشابور الواقعة بالقرب من مرقد ثامن أئمة الشيعة الإمام علي بن موسى الرضا في مدينة مشهد، مئات الآلاف من السياح الشيعة بغية شراء الخواتم والحلي المزينة بالأحجار الكريمة الإيرانية حيث تمتلئ أسواقها الشعبية بورش صقل الأحجار التقليدية.
كما تتم كتابة الآيات القرآنية وأسماء أهل بيت النبي محمد وأحاديث وأدعية من أئمة الشيعة على الحجر بغية التبرك بها، وحفظ حاملها من كل مكروه، حسب معتقداتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...