في محل لا يسع إلا لثمانية أمتار يحدق رجل الدين الصابئي طالب الدَراجِي، وهو في العقد الثامن من عمره إلی تلميع الأساور التي ستُعدّ لفنّ المينا، الذي انفردت به طائفة الصابئة المندائيين منذ وجودها في ما بين النهرين، فباتت المهنة علامة بارزة علی قِدَم الصناعة في منطقة الأهواز الواقعة جنوب غربي إيران، والمحاذية للعراق، والمطلة علی الخليج.
تعود مهنة صياغة الذهب لدی الصابئة إلی 3 آلاف سنة حسب الباحث المندائي ساهي زَهرُونِي، حيث ما زال أبناء الطائفة، وهم ضمن أقدم سكان الأهواز، يتوارثون المهنة جيلاً عن جيل، ويمارسونها في ورشهم الصغيرة المنتشرة في منازلهم وأسواق الأهواز، حتی أصبحت صياغة المجوهرات مقترنة باسم الصابئة أو "الصبّة"، كما يطلق عليهم في اللهجة الدارجة في الإقليم.
"عند ذكر مفردة (ذهب) يتبادر إلى أذهان الأهوازيين، طائفةُ الصابئة والعكس أيضاً صحيح؛ وهكذا ارتبط الذهب بنا وامتزج حتى أصبح نقطة تميّزُنا عن الآخرين"؛ هكذا يصرح أحد أشهر فناني صياغة الذهب في الأهواز، حامد جيزان.
الذهب هوية المندائيين
الصاغة المهرة والفنانون الحاذقون في الأهواز انفردوا بأسلوبهم عن الآخرين في بلاد فارس، حيث تعتبر هذه الصناعة بمثابة هويتهم ورمز بقائهم علی مدی قرون؛ هم الذين لم يسلموا من التهميش والمضايقات والحرمان طوال سنوات، فباتت الصناعة اليدوية مصدر حياة ورمز الصمود لدی أقلية لا تتمتع بحرياتها الفردية والدينية وحقوق المواطنة كما هو الحال بالنسبة لهم في العراق.
تعود مهنة صياغة الذهب لدی الصابئة إلی 3 آلاف سنة، حيث ما زال أبناء الطائفة، وهم ضمن أقدم سكان الأهواز، يتوارثون المهنة جيلاً عن جيل، ويمارسونها في ورشهم الصغيرة المنتشرة في منازلهم وأسواق المدينة، حتی أصبحت صياغة المجوهرات مقترنة باسم الصابئة
تحويل قطع الذهب الخام إلی أساور أو خواتم أو عقود عبر التصميم والتشكيل والنحت والمينا، هي عملية تتم في ورشة الفنان شيخ طالب الذي توارث المهنة من والده منذ نعومة أظفاره، حاله حال فتيان الصابئة الذين لا تنتظرهم فرصة عمل سوى تلك.
ونادراً ما نجد رجلاً مندائياً لا يتقن أسرار هذه الصناعة حتى وإن لم يمتهنها، وقد ازدهرت مواهبهم في المجوهرات، وتجلت للزبائن عند ملامسة فنهم ذي الدقة والجودة العالية، والذي يتطلب إنجازه وقتاً طويلاً.
رموز الأهواز نقش علی المجوهرات
النخلة والجمل والغزال والسفينة والجسر الهلالي رموز من البيئة الأهوازية ترتسم علی مجوهرات هؤلاء الفنانين الذين شكلت لهم هذه النقوش ميزة إزاء الآخرين.
في سوق الأهواز يشرح لنا أحد الزبائن: "كما أن نسيم الهواء الطلق يختلف بعذوبته عن ريح جهاز المكيف، فهذه الصناعة اليدوية أيضاً لها ميزاتها عن النقوش الأخرى، والتي تجذب محبيها".
وعن صعوبات العمل ومتاعبه الخاصة شرح الشيخ طالب لنا: "العمل علی الذهب يتطلب منا جهداً كبیراً وصبراً كثيراً لإنتاج قطعة واحدة، لذلك ما ننتجه يجلب أنظار الزبائن خاصة الأجانب".
إقليم الأهواز يتمتع بثروات طبيعية هائلة، وقد دخله الأوروبيون للاستثمار منذ عقود، ولم ینسوا أن يحملوا معهم تحفاً من فن المينا الأهوازي لتزين الحلي الصابئي مظاهر الأوروبيات. "عند تواجد البريطانيين خلال فترة استخراج النفط وتدشين الحقول والمصافي في الأهواز في بداية القرن العشرين، وعندما أشرف الإيطاليون علی تدشين سدّ الدِّز في فترة النظام الملکي عند منتصف القرن المنصرم، كنت أتلقی عشرات الطلبات لصياغة الذهب من أولئك الخبراء الغربيين علی مدی سنوات عديدة، حيث كانوا يهتمون بصناعتنا كهدايا تذكارية ترافقهم عند عودتهم إلی بلدانهم"، يقول شيخ طالب الدراجي.
ويتحدث الفنان الصابئي عن تقدير الأوروبيين لفنه: "كانوا يقولون لي إن عملك هو صناعة يدوية لها قيمة تراثية وتاريخية بامتياز، فإنها تفوق صناعة الذهب الآلية التي تشتهر بها إيطاليا".
مجوهرات الأهواز... هدايا تذكارية
إلی جانب ذلك كانت المجوهرات الأهوازية التي تصاغ في أسواق الأهواز ضمن الهدايا التذكارية التي يبتاعها ويقتنيها السيّاح الأجانب من هذه المنطقة، كما أنه يباع الكثير من هذه المجوهرات إلی دول الخليج.
وبعد حراك الإعلام المحلي للتعريف بحياة المندائيين خلال العقد الأخير، تابع ناشطون في مجال التراث تسجيل هذه المهنة باسم مدينة الأهواز، ضمن وزارة التراث والصناعات الیدوية والسياحة، وذلك بغية تسليط الضوء علی هذا الفن العريق الذي يعدّ مصدر مباهاة بالنسبة للشعب الأهوازي.
وتكللت المتابعات بالنجاح، وأطلقت الوزارة عام 2019 علی الأهواز تسمية "الأهواز، عاصمة صياغة الذهب الصابئي في إيران" محاولة لصناعة ماركة جديدة ورمز حديث مستوحى من تاريخ المدينة وسكانها، مما تطلب من البلدية التركيز علی هذه المهنة والتعريف بها إلی السيّاح وعامة المواطنين، خاصة الأجيال الجديدة.
جمعية صياغة الذهب الصابئي
وتزامناً مع الحدث، بادر الفنانون المندائيّون وبرعاية الوزارة، إلى إطلاق جمعية صياغة الذهب الصابئي للمرة الأولی، علی أمل تدشين نقابة عامة بهذا الخصوص، وقد كرمت إدارة الصناعات اليدوية في الأهواز بعض رموز صياغة الذهب المخضرمين، حيث اعتبر رئيس الإدارة أن ما حدث هو أمر مهم في تاريخ المدينة، وأن المهنة تتمتع بإمكانية العولمة، وطالب الحرفيين في هذه المهنة على المساعدة في التواصل الفعال مع قسم الحرف اليدوية للعمل سویة علی تعریف هذه المهنة العریقة في الأهواز، للعالم.
"كنت أتلقی عشرات الطلبات لصياغة الذهب من الخبراء الغربيين في الأهواز علی مدی سنوات عديدة، حيث كانوا يهتمون بصناعتنا كهدايا تذكارية ترافقهم عند عودتهم إلی بلدانهم"
تدريب صياغة الذهب هي عملية تقليدية تتم من خلال مرافقة الآباء في الورش والمحلات لمتدربين، كما يحتفظ أبناء الطائفة بأسرار المهنة وعدم القبول بتدريب الآخرين من غير المندائيين، وحتی الآن لا توجد مؤسسات تعليمية أو كتاب يضم قوانين هذا الفن.
ومما تأمله وزارة التراث والصناعات اليدوية أن تهتم الجمعية الحديثة بإقامة ورش تدريبية وتشجيع الشباب والشبان الصابئة علی تعلم المهنة، واستمرار اقتفاء خطی الآباء، كيلا يندثر هذا الفن النادر في منطقة الأهواز التي تتمتع بحضارات عريقة.
المندائيون بين الدستور الإيراني والعراقي
رئيس اتحاد الذهب والمجوهرات في الأهواز عبدالرحمن ذهبي زاده، يشرح لنا: "توجد مهنة صياغة الذهب في مدينة تبریز الإيرانية أيضاً، غير أنها لا يمكن أن تنافس صناعة الصابئة في هذا المجال، كما أن عمل المندائيين مشهور في خارج البلاد".
وهاجر الكثير من أبناء الطائفة من الأهواز وجنوب العراق الذين كانوا يقطنون بجانب الأنهار والأهوار، إلی أمريكا وأستراليا وبعض البلدان الأوروبية، بعدما عانوا من التهميش والعنصرية والحرمان من أبسط حقوق المواطنة خلال عقود من الزمن، شعبياً وحكومياً.
الدستور الإيراني وحتی الآن لا يعترف بديانة الأقلية المندائية غیرالتبشيرية، وهم من أتباع النبي يحيی . أما في العراق فقد تم ضم الديانة المندائيية للدستور العراقي، كما حصلوا علی مقعد في البرلمان بعد سقوط نظام صدام حسين.
وخلال العقد الأخير اهتمت السلطات الإيرانية بالصابئة المندائية من خلال دعوتهم إلی المؤتمرات الدينية التي تضم جميع الطوائف والديانات في البلاد، إضافة إلی لقاءات المسؤولين المحليين بزعيم الطائفة في الأهواز خلال المناسبات والأعياد الدينية المندائية، ولكن مازال الطريق طويلاً أمامهم لاستيفاء حقوقهم الشرعية وانضمامهم إلی الدستور الإيراني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...