لم تتوقف الحكايات التي أسمعها عن الحسد مرّة، ولم ترتبط بفئةٍ أو طبقةٍ معيّنةٍ من الناس دون غيرها، وقد لا أبالغ إن قلت أنّه في كلّ يوم تقريباً تتلقى أذني هذه الكلمة بالذات أوإحدى مرادفتها الشعبية "أوعك تحكي هلق بالقصة بيطرقوكي عين"، "كانت كتير شاطرة ما بعرف شو صرلا بالبكالوريا أكيد محسودة" وغيرها من العبارات التي تؤكّد أنّ الناس في حديثهم عن الحسد قد أغلقوا باب الشك نهائياً وأنّهم على يقين كامل بالتأثير الكبير الذي يمتلكه هذا الفعل غير المادي وغير المدرك وغير القابل للقياس على حياتهم.
دائرة الراحة
يلجأ البعض للتفكير الغيبي عندما لا يسعفه العلم أو المنطق بإجابات واضحة وأدلّة قطعية، فالإنسان بطبيعته يخاف المجهول ويسعى إلى تفسيره بشتى الطرق، هذا التفكير الغيبي ينقل الإنسان من دائرة الشك المربكة لعقله والمستنفدة لطاقته إلى دائرة اليقين الآمنة والهادئة.
هذا ما يحدث تقريباً عندما يلجأ الإنسان إلى تفسير ما يحدث معه من عرقلة في حياته بالحسد أو "صيبة العين". أذكر جيداً ورغم عدم إيماني بالحسد أننّي كنت أشعر بالراحة عندما تعزو أمّي تقصيري للحسد وأجلس منتشيةً بهذا التفسير الذي جعلني أنا الفتاة العادية التي لا تملك أيّة إنجازات شخصاً مهماً تطاله عيون الحاسدين.
تجهّز أمّي الطقوس الخاصّة وأدوات ردّ العين: غربال، وقطعة خبز يابس، وحذاء مقلوب، ورصاصة وتلهث باحثةً عن إحدى جاراتنا لتفقأ العين، فالشخص الذي يفقأ العين لا يجب أن تربطه صلة دم بالمحسود.
أذكر جيداً ورغم عدم إيماني بالحسد أننّي كنت أشعر بالراحة عندما تعزو أمّي تقصيري للحسد وأجلس منتشيةً بهذا التفسير الذي جعلني أنا الفتاة العادية التي لا تملك أيّة إنجازات شخصاً مهماً تطاله عيون الحاسدين
فوق رأسي يحمّى الماء لدرجة الغليان وتُرمى الرصاصة فيه لتنفجر مع تهليلات الحاضرين، وكأنني في مشهد من القرون الوسطى، تعاد العملية ثلاث مرات، ثمّ يتناوب الحاضرون على تشبيه أشلاء الرصاصة. "اطلعو منيح مو هي قعدة جارتنا (إم غسان) منديلها ولفة إجرها والله ما فاتتك عينها، قل أعوذ برب الفلق" لتؤكّد كلّ الحاضرات أن شكل الرصاصة الغريب جداً هو شكل جارتنا ذاته.
ومع الوقت أصبح الموضوع راسخاً في عقلي ومفروضاً بسطوة الجماعة على كلّ تصرفاتي ومنعكساً بشكل واضحٍ على سلوكي، فمراتٍ عديدة حبست رغبتي بتقديم إطراء لميزة ما عند أحد أصدقائي أو عمل جديد حصلوا عليه خوفاً من حدوث مكروه وتحميل عيني المسؤولية.
الحسد كآلية دفاع
كلّ ما يقع ضمن المحيط الحيوي للإنسان سيشكل بالضرورة موضوعاً لاتجاه ما سيكوّنه، نكوّن اتجاهات نحو من يحيط بنا من الناس ونحو الأنظمة التي تحكمنا، والقضايا التي تشغلنا، وأيضاً نحو المشكلات الاجتماعية والعوائق التي تقف في طريق مُضيّنا قدماً في حياتنا.
مراتٍ عديدة حبست رغبتي بتقديم إطراء لميزة ما عند أحد أصدقائي أو عمل جديد حصلوا عليه خوفاً من حدوث مكروه وتحميل "عيني" المسؤولية
يُعرّف عالم النفس جوردون ألبورت الاتجاه بأنّه "حالة من التهيؤ العقلي والعصبي له فعل التوجيه على استجابات الفرد للأشياء والمواقف المختلفة" بالقياس على هذا التعريف يمكننا القول أن الإنسان بحكم العديد من الأمور أهمها الثقافة السائدة في مجتمعه والتنشئة الاجتماعية التي تلقاها يصبح مهيّئاً نفسياً للإيمان بالحسد والاعتقاد بأنّ هناك قوّة خفيّة تستهدف إنجازاته وقدراته.
في أكثر الأحيان يكوّن الناس اتجاهاتهم الخاصّة نحو مشاكلهم دون أن يكون لديهم فهم حقيقي لهذه المشكلة أو حتى رغبة بالبحث والفهم خلفها، هو نوع من الانصياع لما يسود المجتمع من قيم ومعايير ومعتقدات، وطبعاً في حالة الحسد يصب هذا الانصياع في مصلحة الفرد الشخصية، ويعطيه شماعة جاهزة وهروباً لا ذل فيه من تحمّل مسؤولية أخطائه.
الإيمان بالحسد إذاً هو إحدى الآليات الدفاعية التي يستخدمها الإنسان بشكل واعٍ أو غير واعٍ لتبرير فشله والذهاب إلى مبررات وتفسيرات غير منطقية للعوائق التي تقف في طريقه، فمن غير المنطقي أبداً التسليم بالحسد كمفهوم غير مادي دون ربطه بأي فعل مادي يمتلك قوّة التأثير على حياتنا وإنجازاتنا.
الإيمان بالحسد هو إحدى الآليات الدفاعية التي يستخدمها الإنسان بشكل واعٍ أو غير واعٍ لتبرير فشله والذهاب إلى مبررات وتفسيرات غير منطقية للعوائق التي تقف في طريقه
الحسد" بعبع" يخافه الجميع وأوّلهم المشاهير
إيمان الناس بالحسد وتسليمهم به ليس غريباً في ظلّ المستوى الثقافي المُحبط الذي تعيش فيه مجتمعاتنا العربية، فالهراء العلمي والثقافي هو اليوم ما يطفو على السطح، والمؤلم حقاً أنّ الناس وفئة الشباب تحديداً تعتبر الفنانين والمشاهير أيقونات فكرية يستمدون ويستقون منها معلوماتهم، هؤلاء الذين لا يترددون بالخروج علينا بخطابات طويلة يشرحون من خلالها المآسي التي طالتهم من تأثير العين.
مثلا؛ حصد فيديو للممثلة سوزان نجم الدين الآلاف من المشاهدات وهي تشهر الخرزة الزرقاء التي تحملها معها أينما ذهبت خوفاً من أن تطالها أعين الحساد، أمّا خبيرة التجميل جويل فلم تخفي إيمانها الكبير بالحسد ، وتحدّثت مطولاً عن ذلك في أحد لقاءاتها، وغيرهم الكثير ممن كانت لديهم تصريحات واضحة بهذا الشأن مثل شيرين عبد الوهاب وأحلام وعمرو دياب، والكثير الكثير من مشاهير هوليوود.
المشكلة في حالة المشاهير امتلاكهم قوّة تأثير كبيرة تجعل تصرفاتهم وأفكارهم قابلةً للتقليد والتصديق عند بعض الفئات أكثر من العلم نفسه، والمشكلة الأكبر اليوم اكتساح العلوم الزائفة وعلوم الطاقة للساحة العربية بحيث يتمّ استخدامها لإثبات الأساس العلمي للحسد بحيث أنّه طاقة سلبية كبيرة وقّوة الشر الخفية.
في تفسير آية "ومن شر حاسد إذا حسد" قال العلماء: الحاسد لا يضر إلّا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال رسول الله " إذا حسدت فلا تبغ"
الجميع معرضون للتجارب والخبرات الحياتية المختلفة التي تشكّل سلوكياتهم وتؤثّر في طريقة استجاباتهم للمواقف، فنحن نقبل على أشياء بعينها ونتقبلها في حين نرفض أشياء أخرى ونتجنبها بفعل الخبرات والتجارب التي مررنا بها، وفي كلتا الحالتين نحن نبحث عن إشباع لحاجاتنا النفسية أولاً والتي يأتي في مقدمتها" الحاجة إلى تجنّب الألم". ربما يكون هذا التفسير الأكثر منطقية لتصريحات الفنانين لأنّ مثل تلك التصريحات تظهرهم بأنّهم محط الأضواء وعليهم عيون الناس وهذا ما يولّد مشاعر إيجابية لديهم ويشبع حاجاتهم النفسية إلى النجاح الذي يرغبون به، الإيمان بالحسد قد لا يكون إلّا احتفالاً بالمجد الزائف.
الموروث الشعبي أقوى من الديني
"الحسد عالطريق الحسد عم بزهر" من منّا لم يردد كلمات هذه الأغنية لفيروز، هي وغيرها من الأغاني التي كان الحسد الموضوع الأساسي فيها وهذا ما يعكس حقيقةً مدى عمق جذور المشكلة في مجتمعاتنا التي يبدو أنّ الموروث الشعبي فيها هو صاحب الكلمة الفصل، وحيث ترجح كفّة الخرافات والأساطير وحكايا الجدات على كفّة العلم.
بمساعدة صديقي الشاعر المصري عبد الرحمن الطويل رجعنا إلى تفسيرات الآية رقم خمسة من سورة الفلق "ومن شر حاسد إذا حسد" وهي الأكثر استخداماً عند محاولة وضع أساس ديني لقوة الحسد ولصبغه بصفة غيبية ذات سطوة وغير قابلة للشك أو الدحض، وجدنا أنّ حتى هذا الأساس الديني ليس متيناً وأن هذا الفهم ليس محل إجماع.
فتفسير البيضاوي يقول: "ومن شر حاسد إذا حسد إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه، فإنّه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود بل يخص به لاغتنامه بسروره".
وتفسير القرطبي "قلت: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلّا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال رسول الله " إذا حسدت فلا تبغ..".
في النهاية وحتى لو سلّمنا بالمعنى الشعبي للحسد سنجده بريئاً من كلّ ما وضع في ذمته، فمن خلال بحث بسيط في تعثرات الأشخاص الذين اعتقدوا أنّهم محسودين وأحوالهم والعوامل المحيطة بهم نكتشف أنّ الحسد آخر المتهمين فيما يحدث معهم وأنّ هناك أسباب أكثر منطقية تستدعي الاهتمام بها وإعطاءها الأولوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...