جرّبتُ ‘الماخن’ منذ 2008، وصراحةً آتى أُكله كما كنت أتوقّع. بمجرد أن زارتني أموندين في أرفود، رششتُ ذلك الماء الذي قدمه إليّ الفقيه، على ثيابها. لست أدري كيف أحبّتني بعمق منذ تلك اللحظة، غير أننا تزوّجنا في صيف العام التالي. نقطن الآن معاً في مدينة مونبولييه الفرنسية، ولدينا طفل. كل هذا بفضل ‘الماخن’. ولا أستطيع إنكار الجميل الذي قدّمه لي ذلك الماء ‘المقدّس’، الذي نفخ فيه فقيه حيّنا، الفائق اللّطافة، بآياتٍ من القرآن".
هكذا تبدأ الحكاية عند ياسر، (اسم مستعار 33 سنةً)، وهو مغربيّ من مدينة أرفود، في الجنوب الشّرقي للمغرب. محدّثنا هاجر عن طريق الزّواج إلى فرنسا منذ ما يربو على عشر سنين، لكنه يصرّ على أن يرجع "الفضل" في قصة زواجه إلى أشياء "ما ورائية" و"غريبة"، لا يمكن أن تقاس بمعايير الحقيقة والواقع، إطلاقاً!
الماخن... قصّة "شعوذة"
جلّ أبناء الصحراء المغربية، حيث تأتي أعداد كبيرة من السائحات الغربيات، يحلمون بالهجرة عن طريقهن. "لتطويع" المرأة الأجنبيّة و"الحصول على رضاها"، يمارس معظمهم طرقاً تعتمد المعتقدات الشعبية وأبرزها سحر "الماخن"، أو القُبول. يؤمن مستخدمو هذا السّحر بقدرته الخارقة على التدخل في عملية الإيقاع بالمرأة الأجنبيّة، ودفعها إلى حبّ السّائل لحبّها. يذهب المعتقدون به إلى "الفُقهاء" و"تُجّار الأساطير"، "ليبيعوهم وهماً ما، أي ليكتبوا لهم حجاباً أو ليعبّئوا لهم خاتماً أو قلادةً بالطّلاسيم!".
يفسر حمي، لرصيف22، أنّه بعد التنسيق مع مشعوذ حول الغاية، يقدّم لك، في غالب الأحيان، خاتماً، وعليك أن ترتديه في بنصرك. يطلبُ منك أن ترتديه قبل لقاء الأجنبية بأيّام، ثم عند لقائها يطلب منك أن تطبطب على كتفها ثلاث مرّات باليد نفسها التي ترتدي فيها الخاتم. هكذا تصبح طيعةً لك وتُبدي كل الخُنوع وتُلبي لك جميع الرغبات".
يؤمن مستخدمو سّحر "الماخن" بقدرته الخارقة على التدخل في عملية الإيقاع بالمرأة الأجنبيّة، ودفعها إلى حبّ السّائل لحبّها
من جهة أخرى، يقدّم رضوان وشّن، مثالاً حيّاً عايشه مع أجنبية ارتبط بها سابقاً من إسبانيا. يحكي لرصيف22، أنّه "كان معها ذات يومٍ عبر مكالمة فيديو، فوجد على عنقها قلادةً أهداها إليها أحد أبناء الصحراء عندما زارت المغرب آخر مرّة، فراوده شكّ بخصوصها، لأنه يعرف ما قد ينطلي عليه الأمر. فطلب منها فتحها، ليجدا داخلها حجاباً مكتوباً، بخطوط غير مفهومة، وملفوفاً بصفيح نحاسيّ رقيق".
أمّا صلاح الملوكي (27 سنةً)، وهو أحد العاملين في القطاع السياحي في مدينة الرّيصاني، فيقول لرصيف22، إنه "عرف شخصيًاً أناساً تورطوا في هذا النوع من السّحر الذي تكون المرأة الأجنبية ضحيته". يشرح: "عرفت شخصاً وضعه في شعره، خصوصاً بعض الذين لديهم شعر "الأفرو" أو "الراسطا" من المرشدين السياحيين الذين عرفتهم، يغسلون رأسهم بمياه مُطَلْمَسَة، وهي عبارة عن استجذاب للأعين وإثارة الانتباه، وهو ما يعدّه هؤلاء السكان بـ"القُبول". ثمّة من يدسّ التعويذات في خاتم ويقدمه لها. تختلف أشكال "الماخن"، لكن غايته واحدة ومعروفة، والإيمان به قوي للغاية".
سوق الماخن... اليقين الخائن؟
يجمع الكثير من سكان منطقة الجنوب الشرقي للمغرب، الذين قد تعلو ملامحهم الحيرة في الوهلة الأولى، حين تسألهم عن "الماخن"، بأنّ الأمر حقيقيّ وواقعي ونتائجه فعّالة ومضمونة، وأنه أسقط، عمليّاً، الكثير من الأجنبيات، سواء الأوروبيات والأمريكيات والآسيويات، في شِباكه. يقينٌ يكادُ لا يناقَش في المنطقة، بالرغم من أن البعض لا يؤمنون بجدوى هذه الطّريقة، إلا أنهم يقرّون بوجودها واقعيّاً.
تواصل رصيف22، مع أحد "الفقهاء" في مدينة الريصاني، على أن المتصل يودّ التعامل معه ليُنْجز له ما يساعده على الإيقاع بأجنبية في الشراك. بمجرّد ردّه على الاتّصال، يبدو وكأنّ لسانه لا يتوقّف عن ذكر الله ليُبدي الزّهد والضّراعة وخشية الله.
أخذ يتحدث عن نوع "الضحية" وجنسيتها، اسمها، سنّها، مدخولها ووظيفتها، ويحثّ على ضرورة المثابرة إلى آخر الطريق وعدم التراجع. حديثه كلّه وعود بنجاعة ما سيسديه من خدمة، وكأنه يصوّر قدرته الروحانية الرهيبة على إيلاج الجمل في سمّ الخياط.
أخذ يتحدث عن نوع "الضحية" وجنسيتها، اسمها، سنّها، مدخولها ووظيفتها، ويحثّ على ضرورة المثابرة إلى آخر الطريق وعدم التراجع
بعدها، انتقل تلقائيّاً إلى الحديث عن الثمن الذي يتراوح بين 1،000 درهم و5،000 آلاف درهم (نحو 100 إلى 500 دولار)، تحدد حسب السن والوجهة، فضلاً عن بعض الإكراميات والهبات التي ينبغي إحضارها له من "الفردوس" الغربي، بعد أن "يدخلَ القالبُ إلى جسد الأجنبية"، كما يقول. يقصدُ بـ"القالب" بطاقة الإقامة، التي ستساعد الأجنبيّة الشاب في الحصول عليها عن طريق الزّواج، والتي من شأنها أن تحمله إلى الشقّ الآخر من الأطلسي.
يتفاخر "الفقيه" بأعداد لا يستهان بها، ويقول إنه "قضى لها حوائجها بقدرة الله"، كما يُطلع رصيف22 مزهوّاً على أنّ "كل الذين اشتغل معهم نجحت عمليتهم، لأنه يساعد أبناء المنطقة على ضمان مستقبلهم خارج أرض الوطن".
مجرّد وهم؟
يطرح رصيف22 تساؤلاً على الشبان الثلاثة الذي تواصلنا معهم، وسبق أن جرّبوا "الماخن": بعد "نجاح" الأمر، كيف أصبحت الحياة مع "الزّوجة الضحية"؟
يجيب ياسر، (اسم مستعار 33 سنةً)، أنّ "الحياة جميلة وعادية تماماً، وتخلو من الشّقاء والألم. حين أسأل أموندين أحياناً، تقول إنّ السّبب الذي جعلها تغرم بيّ هو فحولتي الجنسية! لكنّي لا أصدق هذا، لأنني أعرف أن السبب هو "الماخن". وهي لا تعرف. ولا يمكن أن تعرف. لو أخبرتها ستصاب بنوبة من الضحك، لأنها لا تؤمن بهذه الأشياء، لكني أتحدث عن تجربة".
لجأت إلى سحر "الماخن". كلفني 1،000 درهم وقتها. وضعتُه في خاتم عند فقيه في مرزوكة. نجح الأمر، أو خُيِّل إليّ أنه نجح، لأن السّحر الحقيقيّ هو ما بذلته من جهدي ووقتي للتواصل معها بشكل يوميّ
من ناحية أخرى، يفنّد محمد (38 سنةً)، القاطن في ولاية تكساس الأمريكية، قيمة "الماخن"، مع أنّه لا ينفي اعتماده عليه في زمن ما. يفصّل قائلاً: لجأت إلى الماخن عندما كنت لا أزال أعيش في مرزوكة في بداية الألفية. جربت كلّ الطرق للهجرة ولم تنجح. كنت على تواصل دائم مع أمريكية، وهي زوجتي الآن. لجأت إلى "الماخن". كلفني 1،000 درهم وقتها. وضعتُه في خاتم عند فقيه في مرزوكة. نجح الأمر، أو خُيِّل إليّ أنه نجح، لأن السّحر الحقيقيّ هو ما بذلته من جهدي ووقتي للتواصل معها بشكل يوميّ.
يستطرد محمد في حديثه إلى رصيف22، قائلاً: حين جاءت، وجدت أنها لطيفة وبريئة إلى درجة ملائكيّة. قدمت لها الخاتم، أو قل ذلك الهراء. لبسته. وكانت كلما قالت شيئاً جميلاً أعتقدُ أنه من نتائج "الماخن" العملية. حين أحببتها بعمق وهاجرنا إلى أمريكا معاً، أحسست بالذنب، ورميت الخاتم، لكن شيئاً لم يتغير. ظلّت تسأل عنه لأنه يعني لها شيئاً ما، على الأقل رمزياً؛ غير أني أجيب على الدوام بأنه لا علم لي. في الأصل كنت غبيّاً، والآن أعي يقيناً أن السّحر الحقيقيّ والوحيد... هو الحبّ، فقط!
في جوابه على سؤال رصيف22، يكفر عادل بقيمة "الماخن" بالمطلق، ويعدّه "مجرّد وهم ليس لديه أي مفعول سوى الدمار والأثر العكسي"، ويقول مردفاً: كنتُ واثقاً من قيمته إلى درجة لا تصدق، لأنه فعلاً في البداية بدا لي أن هناك شيئاً يجذب جيسينا نحوي. كنت أظنّه ذلك الماء الذي طلب مني الفقيه أن أستحمّ به قبل لقائها. لكن ذلك الانجذاب تحول إلى سرّ عذاب، فكنت أعتقد أنه كلما تجاهلتها ستزداد تعلّقاً بي، وتزداد يقيناً، بالتّبعة، أني لا أهتم لمالها وما تملك. كنت أقوم بذلك لأنني أثق بـ"الماخن"، نظراً إلى ما حكاه لي الكثيرون الذين جرّبوه، بيد أنه أتى بأثر عكسي في حالتي، لأنّه دمر كلّ شيء. هجرتني قبل أن نتبع حتى إجراءات الفيزا للهجرة إلى هولندا وقتها.
أصل الحكاية
سمية نعمان جسوس، الأخصائية بعلم النفس الاجتماعي، تقول في تصريحها لرصيف22، إنه "عملياً يلاحَظ أن المغاربة يحلمون بمغادرة الوطن بكل الطرق الممكنة، عبر الهجرة السرية أو عبر الهجرة عن طريق الزواج بأجنبية. وهذا راجع إلى تلك الرغبة في النجاح بسرعة، لأنهم يسعون خلف وهم الهجرة، ويظنون أن ما وراء البحار هو الجنة. وهنا نتحدث عن طموحات، ولبلوغها يصبح الشعار هو الغاية تبرّر الوسيلة، حتى الوسائل اللا أخلاقية بما فيها أعمال السّحر".
توضح جسوس أنه "عندما ينجح الشّاب ويذهب إلى هناك يصدم بعد مدة. فالخضوع الذي أبداه في البداية لتلك الأجنبية كان لحظياً خلفه غاية معيّنة وهي ‘الفيزا’. ينتفض لأنه لا يجد ما كان يريده من امرأة طيّعة كما رسمتها له ثقافته. امرأة تطهو له وتقوم بالأشغال المنزلية. إذ كرست الثقافة في ذهنه أن من يساعد المرأة ‘ماشي راجل’ (ليس رجلاً). وتالياً، داخل لا وعيه يحنّ إلى مرجعيته الأصلية والعميقة، ويعيشُ نوعاً من الازدواجية".
تقول الأخصائية بعلم النفس الاجتماعي إنه "في ثقافتنا ينتظر الرّجال الذهاب إلى الآخرة لملاقاة الحور العين، بينما المرأة الأجنبية بالنسبة إلى هؤلاء الشباب، حور عين فوق الأرض. يتّخدون كل السبل للحصول عليهن، بما فيها السحر الذي هو في الحقيقة مجرد خزعبلات لا تؤدي إلى أي شيء ملموس. غير أن هذا يفسر، من ناحية أخرى، اليأس الفظيع والسذاجة الطافحة التي يتّصف بها الكثير من المغاربة إزاء أمور الشعوذة والخرافة. واللافت أنّ السحر، هنا، يغدو ممارسةً ذكوريةً أيضاً، في زمن رُوِّج فيه كثيراً، ضمن الثقافة الشعبية، أن المرأة وحدها من تحترف السحر، وتعتمد سبل الخرافة... للإيقاع بالرجال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...