شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
اثنتا عشرة عيناً مدفونة... عن تجربتي مع السحر العربي

اثنتا عشرة عيناً مدفونة... عن تجربتي مع السحر العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 9 يونيو 202210:15 ص

يندرج المقال في ملف عن السحر أعدته وأشرفت عليه أحلام الطاهر

خمسة أعمال لجلب الرزق، ثلاثة لتقريب حبيب وأربعة لإيذاء عدو... هي كل رصيدي من السحر، مدفونة جميعها في ثلاثة بلدان، تحت اثنتي عشرة أرضاً طاهرة وماء سيّال ونخل مثمر. على أمل أن يتحرّك العالم خطوة نحو ما أريد، أو تبصر عيني الثالثة ما لا يبصره غيري، أو على الأقل... أن يسري مفعول بعض هذا السحر قبل أن يضيع التصديق من سأم الانتظار الطويل.

Une image contenant texte  Description générée automatiquement

من كتاب الجواهر اللمّاعة (1951)

واقع بين سحرين

عرفتُ السحر من بابين: قرآني وشعري -ولعلهما باب واحد- باب القرآن في وقت حفظه، حيث ذُكِرت المفردة بتنويعاتها في خمسة وعشرين موضعاً، ما بقي لي منها أنها دائماً حجة لتعطيل المنطق، عقبة في طريق الهدف النهائي: سحرة موسى يريدون الانتصار عليه، هاروت وماروت، الملاكان المسؤولان عن امتحان الصبر لدى البشر، محمد المتهم بالسحر في كلامه الذي يعجب العرب ولا يعلنون عن إعجابهم... كل ما يتعلق بالسحر في القرآن بالنسبة لوعيي الطفل في تلك الأيام مردّه "عقبة" في طريق النهاية السعيدة بانتصار النبي على الأشرار.

أما الباب الشعري فكان على النقيض، هو ذلك الشيء الذي يحتاجه الكلام المنظوم ليكون شعراً، أليس القول المحمدي الأشهر هو "إن من البيان لسحرا"؟ بل إن واحداً من النظّامين الكبار والناقدين النابهين في الثقافة العربية، وهو لسان الدين بن الخطيب، يفرق بين الشعر والسحر، يعتبر الأول ببساطة هو الكلام الموزون المقفى، أما الثاني فهو ما نسميه بمصطلحاتنا الحديثة "اللحظة الشعرية" أو "الشاعرية".

خمسة أعمال لجلب الرزق، ثلاثة لتقريب حبيب وأربعة لإيذاء عدو مدفونة جميعها في ثلاثة بلدان، تحت اثنتي عشرة أرضاً طاهرة وماء سيّال ونخل مثمر. على أمل أن يتحرّك العالم خطوة نحو ما أريد، أو تبصر عيني الثالثة ما لا يبصره غيري... ملف السحر 

كنتُ واقعاً -إذن- بين سحرين: أحدهما شرير والثاني طيب، الأول لا يعنيني والثاني أتمناه... حتى سمعت من جدتي عن ذلك الكيان الغامض المسمى "العمل". بالنسبة لمخزوني اللغوي -كطفل في الثالثة عشرة- لا تعني المفردة أكثر من معناها المباشر: العمل هو العمل دينياً ودنيوياً، لكن بالنسبة إليها كان شيئاً آخر شيطانياً مخيفاً، يعني أن ثمة من اتصل بالمشايخ الذين بدورهم اتصلوا بالجن أو "الأسياد" ليغيّروا مصائر وأقدار كانت ستمضي في مسارها المحتوم لولا تدخلهم. أذهلتني الدلالات الجديدة لكلمات أستخدمها يومياً، وأدركتُ حجم المسافة بين لغتي/عالمي وبين جدتي الفلاحة الدمياطية الأميّة.

انتهت علاقتي بكل ذلك العالم الماورائي بمجرد انتهاء فضولي اللغوي. السلفي الصارم الذي كنتُه يعلم يقيناً بوجود السحر لأنه مذكور في القرآن، لكن لا أحد في زماننا يقدر عليه، إذن جدتي تحكي في هراء لا منطق فيه، فمن يغيّر الأقدار إلا الله. لولا أنها وبمنطقها البسيط وضعتني في قلب واحدة من معضلات الجبر والاختيار دون أن تدري، إذ قالت لي وهي تحاججني: أليس تغيير القدر قدرٌ أيضاً قد كتبه الله؟ لم أقدر على الرد، ولم أكن بعد قد خضت في مسائل التوحيد إلى الدرجة التي تجعلني قادراً على الرد عليها، لكن يقيني بهراء الأسياد والأعمال بقي على حاله دون أن أجابهها بذلك.

السلفي الصارم الذي كنتُه يعلم يقيناً بوجود السحر لأنه مذكور في القرآن

لكن كل شيء تغيّر، بعدما درستُ في علوم العقيدة عن كفر الساحر، وأن ممارسة السحر من نواقض الإسلام، لما يتضمنه من شروط لا تصلح إلا بالكفر الصريح. هكذا، تمر علي حكايات مرعبة عن سحرة معاصرين قُتلوا بعدما ثبتت ممارستهم للسحر. لم تكن هذه الحكايات تخبر الكثير من التفاصيل عن كيفية إثبات تهمة السحر على الساحر إلا بأشياء عامة وغامضة للغاية، مثل "أوراق من المصحف في الحمام" و"روث حيوانات في بيته" وأشياء من هذا القبيل. كانت قلة التفاصيل تضفي سحرها المخيف على قبح تخيّلي للسحرة، أليس من المنطقي أن كل السحرة مخيفون؟

قليلٌ من السحر لا يضر... أنا مستعد للعالم ونيرانه

كنوع من البداهة التي لا بد من تذكرها: لا شيء يبقى على حاله... مع مرور الزمن وتغيّر موقعي الأيديولوجي، صارت علاقتي بكل ما يخص التراث علاقة نفعية ذات ملمح هوياتي، ذلك التراث الذي قضيت فيه من عمري سنيناً هو جزء أصيل مني، القطيعة معه لم تكن تعني بالنسبة إلي إلا قطيعة مع نفسي، فوصلتُ إلى الحل المريح: التعامل مع ذلك التراث بوصفه مدخلاً معرفياً أساسياً في حياتي. ثم شيئاً فشيئاً صار هوساً جديداً أنظر إليه بعين جديدة.

Une image contenant texte, tissu  Description générée automatiquement

من كتاب البلهان

أصبحت واحدة من هواياتي الباقية معي إلى اليوم، البحث في المخطوطات والمنمنمات، هوسٌ يعينني على الملل والاكتئاب والهزائم، حتى تسلل إلى قلبي في سياق ذلك الهوس افتتان خاص بالسحر وكتبه.

بدأت على استحياء، فما الذي يجعل شخصاً أعتبره عقلانياً منطقياً -هو أنا- يتورّط في محبة مثل هذه الكتب، لكن شيئاً ما "سحرياً" في تحذيرات القراءة، ووعيد التصديق جعلني أكثر حماسة في الغوص فيها أكثر. "شمس المعارف الكبرى" وكتاب "البلهان"، كأشهر كتابي سحر عربيين، لا يعرضان نفسيهما دون أساطير منسوجة حولهما، بالأخص "شمس المعارف الكبرى": إذا لم تكن مستعداً لدخول العالم فلا تدخل حتى لا تحرق بنيرانه. حسناً، سأدخل، لأنه بكل تأكيد سيكون أقل وطأة من الواقع.

أحضرتُ ورقة بيضاء وقلماً لم يُكتب به من قبل، وغسلت يدي بماء زمزم، وبدأت في كتابة آية سبع مرات، ثم خططتُ جدولاً من تسع خانات بين السطر الرابع والخامس، وكتبت عدداً من الأرقام والحروف. ثم طويت الورقة ثلاث طيّات وربطها بحبل ودفنتها في الأرض... وانتظرتُ

فُتنتُ فتنة كبرى بكتب السحر، كان دخول العالم شاقا في البداية، لا بسبب الوعيد لكن بسبب اللغة الخاصة التي كتبت بها، ثمة نسيج معقد من العلامات والدلالات ليست سهلة المأتى أبداً، لكني بدأب الفضولي بقيت وراءها حتى فهمت الكثير من دلالاتها. السحر ليس باباً واحداً، بل هو أبواب كثيرة أوسع كثيراً من تفاهة "العمل والأسياد". ثمة سحر مرتبط بالجن (وهو الأشق) وآخر مرتبط بالفلك والنجوم، وثالث متعلق بالضرب في الرمل لمعرفة المستقبل، ورابع في تطويع الآيات -نعم الآيات- لرد السحر الخبيث، وخامس في كيفية صناعة السحر الخبيث نفسه (قطع الرزق وتعطيل المحبة) وسادس في علاقة الحروف والأرقام بالروح وتطييبها أو تعكيرها. لم يكذب من قال إن السحر له "علومه".

عمل جلب الحبيب

ورقة بيضاء وقلم لم يُكتب به من قبل

تركتُ نفسي أغرق في ذلك العالم قراءة وبحثاً، ثم بدأت تكبر داخلي الرغبة في تجربة ما قرأت وتعلمتُ، سوف أبدأ بالسهل، سأحاول أن أجلب لنفسي الرزق. أحضرتُ ورقة بيضاء وقلماً لم يُكتب به من قبل، وغسلت يدي بماء زمزم، وبدأت في كتابة الآية "قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله" سبع مرات، ثم خططتُ جدولاً من تسع خانات بين السطر الرابع والخامس، وكتبت عدداً من الأرقام والحروف (لن أذكرها حتى لا يضيع مفعولها) لكل رقم وحرف دلالة. ثم طويت الورقة ثلاث طيّات وربطها بحبل فتلتُه بنفسي، ثم دفنتها في الأرض، في بقعة أعلم يقيناً أن لا إنسان أو حيوان لوثها... وانتظرتُ.

كنتُ أنتظر مكالمة مهمة سوف يتحدد معها مصير عمل أحلم به منذ فترة طويلة. أعلم يقينا أن لا شيء سيحدث، لكن... هل أعلم "يقيناً"؟ شيء ما داخلي، لاعقلاني، سحري يتمنى أن يعمل السحر كما أريد، قوة خارقة غير مستغلة في عالم محكوم بالمنطق. كان داخلي يحمل صراعاً لا أعلن عنه، أخجل من أن أعلن عنه، كيف ستكون صورتي أمام نفسي ناهيك أمام أصدقائي. كنت أريد للسحر أن يعمل، كنت أريد قوة ماورائية تمنحني ما أريد... لكنها لم تفعل. أتت المكالمة التي أريدها على غير ما أريد، ووقعت في وحلة الاكتئاب.

سحر طيب لأجل ساحرة شريرة

المنطق يقول، بعد هذه التجربة عليّ أن أتوقف عن تلك الألعاب، لكن ذلك لم يحدث. حمسني الفشل السحري في الإمعان في السحر. لم أترك باباً لسحر حسن أو ذميم إلاّ وطرقته. صارت هوايتي السرية التي لم أخبر أحداً عنها. أجرّب كل شيء وأي شيء، على أمل بعيد خجول للإتقان يوماً ما، لا رغبة في أن أكون "ساحراً" لكن أن أكون بطلاً خارقاً، حلمي الطفولي الذي لم يفارقني حتى اليوم. لو أن السحر موجود، فلا بد أن يكون موجوداً لأجل راغب فيه مثلي، راغب غير مصدق، راغب يحاول أن يصدّق، يتمنى أن يصدق لتحقيق حلم مستحيل من طفولة قريبة بعيدة.

ثم كان أن تعرفتُ على امرأة، غامضة تماماً، ساحرة في غموضها، تكره العالم في العلن، وتحب بعضه في السر، ترى البشر جميعهم دمىً تسحقهم بنصف ابتسامة، ونصف كلمة، وربع وعد. كنت أدخل في فخاخ شرّها عارفاً بحجم الفخ، لكني دخلت غير مبالٍ، كنت أعلم مكان الأشواك وأطؤها دون شكوى. حتى اندلعت الشرارة التي لم أعمل لها حساباً، كانت مهتمة بالسحر قليلاً، قلت هذا مدخلي لأنزع الأشواك وعرضتُ عليها أن أعمل لها سحراً بطرد الأشرار وإبعاد الأذى وجلب الرزق. لم يكن شيئاً مما لم أنفذه من قبل، لكن هذه المرة لا أعمله لنفسي، بل لغيري، بأمل في قربٍ لم يقربه غيري، ولأن الطموح شعور غير عقلاني، كان الأمل في النجاعة كبيراً، والتصديق في السحر على مقربة من قلبي، قربها منه.

وكما هو متوقع، لم يصب السحر مبتغاه، ولم يحدث ذلك التغيير الدرامي الهائل في حياتها كما تتمنى، فضاعت الفرصة الواهية أمام الأمل السام الذي تملكني، قبل أن أرجع عدة خطوات وأسأل نفسي: من سحَر لمن؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image