لم يشهد المسرح ضربة هزت أركانه خلال تاريخه (إن أردنا المبالغة) كتلك الصفعة التي تلقاها خلال العامين السابقين أثناء الحجر الصحي الإجباري، إذ فقد أساس وجوده، ألا وهو التجمّع، فاستحالة احتشاد الأجساد للمشاهدة أمام الخشبة، وفقدان علاقة التلقي الحي، لم تحدث على مستوى عالميّ سابقاً، صحيح أن الأوبئة أغلقت المسارح على مدى التاريخ، لكنها لم تكن على النطاق الذي شهدناه.
منع الاحتشاد والتجمّع على الخشبة وأمامها، في الشارع وداخل الفضاءات الخاصة، جعل الكثير من السلطات ترى في الحدث المسرحي والأدائي شأناً نافلاً أو رفاهيةً يمكن الاستغناء عنها مؤقتاً، إذ خُفّضت التمويلات والدعم الرسمي، ودُفِعَ العاملون في فنون الفرجة إلى الشاشات، حيث "يتلقى" المشاهدون الأداء في المنزل بوصفه تسجيلاً فيديوياً، الأسلوب الذي لا يمكن اعتباره مسرحاً إطلاقاً. إثر ذلك، وجد العاملون في فنون الفرجة أنفسهم محاصرين، هل يحدقون في عدسات الكاميرا، أم يتركون هذه المهن "رقص، تمثيل، موسيقا حيّة... الخ" التي فقدت جمهورها لأسباب استثنائيّة؟
الأداء الحي حق إنساني وليس سلعة رفاهية، ولابد من الدفاع عنه، فالفرد ينتج ذاته ويختبرها عبر الأداء
الأداء حق إنساني لا يجوز التفريط به
لن نخوض أكثر من تبعات الجائحة على الفنون الحية، بل سنناقش "مانيفستو خشبة المستقبل"، الصادر عن مجموعة خشبة المستقبل البحثية في "مختبر ميتا" التابع لجامعة هارفرد. الملفت في هذا المانيفستو تعامله مع "الأداء" بوصفه حقاً إنسانياً، وجزءاً من الحياة التي "نؤديها" على مختلف الخشبات: الشارع، الساحة العامة، المقهى، الشاشة، الركح، في إشارة إلى دراسات الأداء وأثرها على العلوم الاجتماعية والفنون والنظرية السياسيّة، خصوصاً أننا في عالم فائق الاتصال، لم يعد من الممكن فيه أن يستقل الشكل الفني والجهد الجمالي مُبعداً نفسه عما يحدث في العالم.
الملفت بداية في الماينفستو أنه لا يتعامل فقط مع "المسرح" بل يتناول الأداء بمعناه الواسع، متحرراً من المقاربات التقليديّة لقراءة علاقات الفرجة والأدوار المختلفة، فـ"الأداء ليس سلعة" يمتلكها شخص أو مؤسسة، بل حق يمارسه الجميع للتعبير عن أنفسهم وإنتاجها، هو أسلوب اختبار علاقات الأفراد مع العالم والسلطات والمؤسسات القائمة، فالأداء ظاهرة إنسانيّة لا مجرد شأن نافل ورفاهية هامشيّة.
يشير المانيفستو إلى مفهوم "الخشبة" بالمعنى المادي والرمزي، مناقشاً عمارة العالم وفضاءاته التي أصبحت شديدة الاتصال، إذ لم يعد الركح هو مساحة "الأداء" الوحيدة، هناك الشارع، الرصيف، شاشة التيك توك والزوم. يمكن القول إن أي مساحة يُستعرضُ فيها الجسد أمام جمهور أو عدسة كاميرا هي "خشبة". وهنا لابد من التكنولوجيا، الجسر بين الركح والخشبات الجديدة، فالأداء يحصل "في المكان" و"على الشاشة".
بصورة أخرى، الخشبة المستقبلية ممتدة من "الماضي" وأشكاله، إلى مساحة الجمهور الذي يتحرك بحريّة أمام وخلف وعلى الخشبة، نحو مساحة اللعب التشاركيّ، التي يتداخل فيها الواقعي مع الافتراضي، والأخيرة، مساحة "يحدث" الأداء فيها على "الغيمة" إلى أن نصل إلى فضاء في "العقل"، ونقصد هنا، مخيلة المتلقي نفسه، حيث لا تجسيد بل تخييّل.
نحو أداء مفرط في حضوره
يعيد المايفستو تعريف مفهوم "الأداء الحيّ" عبر نحت مصطلح "الأداء الحي بلس-livness plus"، إذ لم تعد العلاقات الأدائية قائمة على أساس "الحضور" والتفاعل وتبادل العلامات بين الجمهور والمؤدين فقط، بل لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن الأفعال الإنسانية تولد تدفقاً من المعلومات والبيانات التي يمكن بثها وتبادلها، أي حدود الحدث لم تعد محصورة بالجسد الإنساني وفضاء اللعب، بل تمتد إلى العالم الافتراضي، لا بوصفه مساحة ما بعد الأداء، بل جزء حي منه.
لا يهمل المانيفستو الجوانب الاقتصاديّة من صناعة الأداء، ويشير بداية إلى مفهوم "التجوال"، أي انتقال الأداء الحي من مكان إلى آخر، وما يرفق ذلك من صعوبات اقتصاديّة ومعوقات سياسية مرتبطة بالحدود والموافقات وتأشيرات الدخول، ويشير إلى ضرورة عدم التركيز على العواصم الكبرى، بل كل المساحات التي يمكن أن تحوي جمهوراً، مع الأخذ بعين الاعتبار الآثار البيئية للانتقال وما يترتب عنها من بصمة كربونيّة. أي تجوال العرض ليس الاستثناء، بل القاعدة. وهنا يشير المانيفستو إلى ضرورة "امتلاك البث الحي"، في إشارة إلى أشكال بث الأداء المعاصرة عبر الشاشات، ودورها في توسيع قاعدة الجمهور وأسلوب تلقي الأداء الحيّ، مؤكداً أن البث المباشر ليس ببديلٍ عن الحضور الحيّ.
يتطلب البث المباشر تقنيين وفنيين مهمتهم تتجاوز ضبط عمليّة "البث"، نحو تطوير الأداء ليكون البث المباشر جزءاً حيوياً منها، ما يعني تبني جماليات جديدة واكتشاف ما يتيحه وسيط البث من أبعاد للأداء، و هذا ما شهدناه نادراً خلال الجائحة، فأغلب العروض المسرحية التي بُثّت مباشرة كانت "عروضاً مصورة"، والبثّ لم يكن جزءاً من العرض، ولم يتم الاستفادة من الوسيط الجديد، إذ كان الأمر أقرب إلى تدفق على الشاشة لما يحصل على الخشبة، دون الأخذ بعين الاعتبار أبعاد الوسيط الجديد. وهنا يشرح البيان المقصود بـ"امتلاك البث المباشر" بوصفه شكلاً اقتصادياً جديداً، وأداة جمالية يمكن أن تفعّل أشكالاً جديدة من الأداء الحي.
يقترح المانيفستو عدداً من المهن والمهارات الجديدة التي لابد أن تتوافر حين إدراج البث المباشر كجزء من الأداء لا نتيجة له، كالمسؤول عن صالة الانتظار في "الزوم"، ومنسق المساحة الافتراضية، وضابط تدفق المعلومات ومصمم الفضاء على الشاشة، وغيرها من المهارات التي تأخذ بعين الاعتبار أن المشاهد في المنزل ينتظر شكلاً فنياً، الشاشة ليست وسيطاً للمشاهدة فقط، بل للعب والتذوق الفني، ولابد من توظيفها كعنصر من عناصر الأداء.
الأداء ليس سلعة رفاهية
يشير المانيفستو نهاية إلى ضرورة البحث عن أشكال تمويل الجديدة، مشيراً في البداية إلى أن "العطب" في أشكال التمويل يمتد على العديد من المستويات، والحل باختصار "إعادة التفكير بكل شيء"، فبداية لا يجب تجاهل التمويل الرسمي لأنه الأساس، لكن لابد من الانفتاح على جمهور جديد وتطوير تقنيات جديدة لمخاطبته، لا الاعتماد على قاعدة المتلقين التقليديّة. يرحب المانيفستو أيضاً بالتمويل الخاص، ناهيك عن ضرورة إعادة التفكير بالأنظمة الضريبية البالية، وتطوير قوانين حقوق الملكية والانفتاح على الـNFTs ودورها في اقتصاد الأداء، والأهم، إلغاء ضريبة القيمة المضافة VAT على فنون لأداء، لأنها ليست سلعة رفاهيّة، بل سلعة أساسيّة.
هامش: يمكن قراءة المانيفستو ضمن سياق دول القانون، حيث القطاعات الثقافية والسياسية منفصلة عن بعضها البعض، أما في دول فنون الأداء فيها تحتاج إلى أطنان من الموافقات، والاحتشاد مقنن بشدة، فالشأن مختلف. بصورة أخرى، المانيفستو يصلح لمساحات حريّة اللعب فيها مضمونة، لا يعتبر فيها الأداء شكلاً من أشكال الهيمنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين