"غريبةٌ، دخيلةٌ، بربرية.. سيدةُ السكين المتوحشة" يقول النص عن "ميديا" القادمة من أسطورة إغريقية حول العنف والحب والرحيل. بمهارة تجسدها الفنانة السورية حلا عمران في مسرحية "آي ميديا" نص وإخراج الكويتي سليمان البسام الذي يشاركها البطولة إلى جانب الموسيقيَين اللبنانيَين عبد قبيسي وعلي حوت.
"غريبةٌ، دخيلةٌ، بربرية.. سيدةُ السكين المتوحشة"... ميديا القادمة من أسطورة إغريقية حول العنف والحب والرحيل تجسدها الفنانة السورية حلا عمران
"آي ميديا" فُرجة مسرحية تحكي قضايا الهجرة وصراعات الهوية والعنصرية، عبر نسيجٍ بين التراجيديا والأسطورة والغنائية. نالت في مهرجان قرطاج المسرحي بدورته الأخيرة جوائز، أفضل نص، وأفضل سينوغرافية، وأفضل ممثلة.
وفي مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي كانت جائزة أفضل ممثلة من حصة حلا عمران التي تجذب فكر المشاهد وعواطفه بحضورها وصوتها القويين. تقدم شخصيةً تكاد تشبهها، بالشجاعة والتمرد والشغف، لتكون بحقّ سيدةَ المسرح المتوحشة.
ابنة الساحل السوري الآتية من جغرافية مغرقة بتاريخ التراجيديا والاستعمار، نجحت في توظيف تلك الذاكرة الجمعية بثقلها وقسوتها، في أدائها على الخشبة، حيث عالمها الذي تنغمس فيه بوعي ومتعة، لتقدم لوحات مسرحية شكّلت تجربتها الفريدة. عن هذه التجربة تحكي لنا في السطور القادمة.
"الحرية في الفن حريةُ عقل وجسد ومشاعر".. رصيف22 يلتقي الممثلة حلا عمران
شراكات ونجاحات
البداية من "آي ميديا" الذي واجه حواجز عدة منذ مرحلته الجنينية بالكويت عام 2019. حيث نفذ الفريق ورشة عمل أولية لاستكشاف النص وتطويره على الخشبة، تلتها ورشة بحث حول موسيقى البحارة الكويتية. ثم مرحلة أخرى من التحضير والبروفات.
وصل العرض لصيغة شبه مكتملة في 11 آذار 2020، وقتها بدأت الجائحة تغيّر ملامح العالم. تتابع "قبل البروفة الجنرال بخمسة أيام، أبلِغنا بضرورة مغادرة الكويت خلال 24 ساعة. في الشهور التالية ولنبقى على تواصل مع العرض وتمضية الوقت خلال الحجر، سجلنا نسخة صوتية إذاعية من العرض، كانت مفيدة في صياغة الشكل النهائي الحالي للنص.
مع عودة الحياة إلى المسارح استأنفنا العمل، وخلقنا آي ميديا بنسخة مختلفة تماماً، من حيث الشكل والبناء العام للنص، نسخة متقشفة ومكثفة، وبوجود سليمان معي على المسرح كشريك بعد تغييرات طالت الممثلين".
عروض عديدة تعاونت فيها حلا عمران مع المسرحي الكويتي سليمان البسام، باكورتها كانت النسخة الانكليزية لعرض "في مقام الغليان" عام 2012. تؤكد أن الشراكةَ أساس هذا التعاون "أنا وسليمان شريكان بالخلق، بنينا تجربتنا الخاصة التي تشبهنا كثيراً.منذ بداية عملي معه كان ومايزال لدي الشعور بأن لغة سليمان تشبهني بشكل مدهش، والتفاهم الفني بيننا وُجدَ فعلاً من البروفة الأولى.
نتشارك نفس الهوس ونتشابه بعلاقاتنا الحرة مع العمل الفني، وبرغبتنا اللامنتهية بالتجريب والتغيير، هذه الرغبة التي لا يحدّها أي قيد. لذلك كان من الطبيعي لهذه التجربة أن تستمر وتتطور وتتغير وتتبلور مع العمر. ومع تبلور هذا التعاون الإنساني/الفني، وفي كل عمل يحاول كل منا أن يثير خيال الآخر ويستفزه ويفاجئه".
شراكةٌ فنية أخرى تعتبرها حلا عمران فارقة في طريقها المهني، مع المسرحي اللبناني الراقص علي شحرور، قدما خلالها، ولا يزالان، لوحاتٍ غنائية راقصة. منها "كما روتها أمي" عن سردية الأمهات الحزانى والمكلومات.
و"ليل" عملٌ مسرحي يتكئ على قصص الحب والفراق في الشعر العربي القديم والذاكرة الثقافية لبلاد الشام. تلك البلاد المحملة بقصص البؤس والتراجيديا التي نجحت حلا عمران بتوظيفها في أدائها، تعلل بأنها تحمل هذه الذاكرة الجمعية المفرطة بالتراجيديا.
"تراجيديا بلادنا متأصلة فينا، في ذاكرتنا الجسدية والصوتية والعاطفية والفكرية، ومع علي، كونه مصمم رقص أولاً، فإن الحركة والإيماءة وحتى الصمت، جميعها تحمل شحنة التراجيديا بشكل مكثف، وتحمل ذاكرتنا الجمعية بكل غناها وثقلها وقسوتها وشاعريتها".
تضيف أن العروض تقوم في جوهرها على الموسيقى والغناء، وحيزٌ كبير من تجربتها هذه مرتبط بالصوت الذي اشتغلت عليه وطورته "طبيعة البحث سمحت لي باستكشاف مساحات جديدة في صوتي، مساحات موسيقية وأخرى تجريبية، تحمل أيضاً هذه الذاكرة الجمعية المثقلة بالتراجيديا".
عن الفن والجسد والتابوهات
بجسد حرّ وخفيف تظهر حلا عمران على الخشبة، عبر شخصيات غالبيتها متمردة وجريئة وماضية، تغني وترقص وتتعرى بعيداً عن أية قيود مجتمعية أو فكرية أو ثقافية. عن التصاقها بجسدها تحدثنا "لم يكن لدي يوماً حاجزٌ مع جسدي، هذا التواصل الصريح بيننا أمرٌ بديهي لا مجال للتفكير فيه أو مساءلته، وهو جزء لا يتجزأ من علاقة الفنان بمهنته. الجسد والصوت والخيال والمشاعر والثقافة كلها أدواتنا.
لا يمكن أن يجتمع الفن مع الحياء بمفهومه الاجتماعي\الأخلاقي، لا يمكن أن يجتمع مع أي تابوهات فكرية أو أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية. الحرية في الفن حرية مطلقة، حرية خيال وعقل وجسد ومشاعر". من ناحية أخرى أستهجنُ هذا النفاق في مجتمعاتنا العربية الذي يقبل بكل شيء في السرّ ويرفضه في العلن.
أحب الجسد العاري الذي تصرّ معظم الأديان على ربطه بالخطيئة، ولا أحب المنطق الذي يقول إن العريَّ في الفن مقبول شرط أن يكون مبرراً وغير مجاني. وأجده يقع تحت سلطة النظام الأخلاقي\الاجتماعي ذاتها. أحب جسدي بكل عيوبه وأحترمه، أهتمّ به، أستمع إليه، أحاول ألا أخذلَه كي لا يخذلني".
أما خفتها على المسرح فهي قادمة من منطق اللعب وعدم قمع الطفلة داخلها، تؤكد الممثلة السورية، وتضيف عليهما المتعة الهائلة التي تعيشها على خشبة المسرح، بشكل حقيقي وواعٍ. تتماهى بوعي مع ما تقوم به، تثق بالنص ولاتبحث عن العواطف، بل تلعب بها كما تريد لخدمة العرض. كما تقول.
"لا أدرس الشخصية ولا أفكر فيها، وقلّما أتخيلها قبل البروفة الأولى، بالنسبة لي كل شيء يبدأ حينها، أدخل بحالة هوس حقيقي، أفكر بالعمل والنص والأغاني والحركة وبكل شيء طوال الوقت، لا أفكر بسواها، وأحاول ألا ألتقي بأحد لا علاقة له بالعرض".
بذلك تنغمس في شخوصها التي تجذب المتفرج، درجة أنه قد لا يفرق بين حلا الفنانة والأخرى الإنسانة، عن هذا الجزء تقول "أنغمس بوعي فيما أقدمه، لذلك لا أتقمص الشخصية، ولا أحب المسرح القائم على التقمص، أعتبره مملاً وغير حيوي.
في كل لحظة على المسرح أنا موجودة كإنسانة تشاهد وتسمع وتراقب وتعيش، ألعب من منطق الأطفال تماماً. الأطفال ينغمسون في لعبتهم لكنهم يعرفون أنهم يلعبون، هذا ما يمنح الممثل جانباً كبيراً من الخفة، عند نهاية كل عرض لا يصيبني أي إنهاك نفسي أو عاطفي أو جسدي، لأنني على الخشبة ألعب وأتسلى".
لعلّ ما سبق يعطي مزيداً من الزخم لتجربة حلا عمران ولحقيبتها الفنية المنوّعة بين المسرح والسينما والدراما، قدمت أمام كاميراتها أعمالاً مضيئة في فضاء الفن وفي طريقها أيضاً، بحسب قولها.
من تلك الأعمال عرض "فصل في الجحيم" إخراج أمل عمران، فيلم "صندوق الدنيا" لأسامة محمد، فيلم "باب الشمس" للمخرج يسري نصرالله، عرض "عساه يحيا ويشمّ العبق" لعلي شحرور، تضيف عليها عرض "آي ميديا" لسليمان البسام.
الغربة والطفولة وأشياء أخرى
على الضفة الأوربية للمسرح حيث تقيم، شاركت حلا عمران في عروض مسرحية فرنسية وإيطالية ودنماركية. كان مخرجوها يبحثون عن ممثلة بملامح عربية تتكلم العربية والفرنسية أو الانكليزية "هنا من الصعب الخروج من –كليشيه- العِرق". بحسب قولها.
الإقامة في فرنسا لم تكن قراراً، بل ظروف العمل جعلتها واقعاً، حياة غنية تعيشها حلا، جلّها على خشبة المسرح، ومع نهاية كل عرض، وخارج أوقات العمل تدخل بما يشبه الاكتئاب، تعلل بأنها حالة إدمان المسرح. تحاصر الاكتئاب، ثم تهتم بنفسها، عبر اليوغا والتأمل والموسيقى "أحاول القراءة مجدداً، أمر بات صعباً مع حضور وسائل التواصل الاجتماعي".
تستمتع في تفاصيل بيتها، مشاهدة الأفلام، الاهتمام بالنباتات، تجريب وصفات طعام جديدة، تمشي كثيراً وتستمتع بالعزلة والصمت. لا تتوقف حلا عمران عن الاستمتاع والدهشة بكل ماهو مريح ويبرز جمال الحياة، دهشةٌ رافقتها منذ كانت طفلة ترى وتتشرب ما حولها بعيونٍ واسعة.
تؤكد أنها عاشت طفولةً منغمسة بالحياة، بظل والدها الشاعر محمد عمران، ترأّس تحرير دوريات ثقافية عدة في سبعينيات القرن الماضي، ووالدتها صاحبة الحضور الطاغي والصوت الجميل، في بيت كان لعقود مقصداً للفنانين والأدباء والمثقفين، حيث السهر والسمر، الرقص والغناء والشعر، والنقاشات الفكرية والسياسية والثقافية. كل ذلك جعل طفولتها ملونة بصرياً وسمعياً، ولعب دوراً كبيراً في خياراتها الحياتية والفنية.
تتابع "كنتُ أرافق والدي إلى المسرح القومي، ومازلتُ أذكر مشاهدَ من مسرحياتٍ لمنى واصف ويوسف حنّا، لم أكن أتجاوز وقتها العاشرة من عمري. أعتبر نفسي محظوظة أيضاً لكوني من القلّة الذين عاشوا في بيئة اجتماعية متنوعة، فبيتنا كان في حيّ متعدد الطوائف بمن فيهم اليهود الذين كانوا جزءاً من ذاكرة الحي ومن ذاكرتي شخصياً. كل ذلك حماني من الأفكار المسبقة وجعلَ ذاكرتي غير أحادية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...