شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
فؤاد الكبسي وجبة تراثية صنعانية لا يشبع الإنسان من لذّتها

فؤاد الكبسي وجبة تراثية صنعانية لا يشبع الإنسان من لذّتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 11 أغسطس 202205:00 م

"فاسقنا كأسا معتقة من رحيق الفن والكلم

تسكر الألباب نشوتها وبها يغدو البصير عمي

لحنك الرقراق منطقه أنطق الأوتار دون فمِ"

بهذه الكلمات، طلب الشاعر عبدالرحمن القاضي، من الفنان فؤاد الكبسي، بأن يغني بألحانه المختلفة وعزفه الفريد على العود، في قصيدة بعنوان "أنا في دنيا من الألم" ليلبي الفنان طلب الشاعر، ويلحن القصيدة ويغنيها في ألبومه الصادر عام 2000 بعنوان "يا سلام"، وكأن الشاعر يقول، لا نحتاج لأن نشرب الخمر يكفي أن نستمع لفؤاد الكبسي وهو يعزف ويغني.

من حارة الأبهر بمدينة صنعاء القديمة وفي منتصف السبعينيات، بدأ صوت أحد الأطفال يُسمع بقوة وهو يغني ويعزف على عود صنعه لنفسه من علبة السمن ليأتي اليوم ويصبح هذا الطفل على رأس قائمة الفنانين اليمنيين

بدايات مميزة

من حارة الأبهر بمدينة صنعاء القديمة وفي منتصف السبعينيات، بدأ صوت أحد الأطفال يُسمع بقوة وهو يغني ويعزف على عود صنعه لنفسه من علبة السمن، كما قال هو في إحدى المقابلات الغنائية. تأثر هذا الطفل بالفنانين الذين يأتون إلى مقيل "مجلس" والده، ويغنون ويعزفون العود أمامه، على رأسهم الفنان أحمد السنيدار وعلي الأنسي، ومن هذا الديوان وعبر كلمات والده، بدأ فؤاد الكبسي الطفل الصغير بالغناء ولو بشكل محدود وبسيط، ليأتي اليوم الذي يكون فؤاد الكبسي على رأس الفنانين اليمنيين عند الحديث عن الأغنية الصنعانية، بل هو المجدد الأول والفريد في هذا الميدان.

بعد ثورة سبتمبر 1962، انطلقت الأغنية الصنعانية بقوة، بعد أن كانت تغنى في السر أيام حكم الإمام أحمد، ووصلت ذروتها في السبعينيات، فقد كان أبطال هذه المرحلة فنانين عظماء، حملوا هذه الأغنية و وثقوها، أمثال علي الأنسي وأحمد السنيدار وحمود الحارثي والسمة الأب وأبو نصار وغيرهم، إلا أن هذه المرحلة القائمة بدأت بالتراجع والخفوت،  ففي العام 1982 توفي الفنان اليمني علي الأنسي وليلحق به في نفس العام الفنان علي عبدالله السمة، والذي قتل بالقرب من منزله في صنعاء، وتوفي أبو نصار، وبدأ أحمد السنيدار بالتوقف التدريجي عن الغناء قبل أن يتوقف نهائياً، لتواجه الأغنية الصنعانية خطراً حقيقياً هو خطر العودة إلى ما قبل ثورة سبتمبر، والتراجع أكثر لتكون في انتظار بطل جديد يحملها على عاتقه ويصل بها إلى جيل جديد من الفنانين.  

عند الحديث عن مراحل الأغنية الصنعانية التي انتشرت في شمال اليمن وتغنى بها الكثير من الفنانين العرب لا سيما في الخليج، لا بد أن نصل إلى نتيجة مهمة وهي أن فؤاد الكبسي كان مرحلة فنية بحد ذاتها

عند الحديث عن مراحل الأغنية الصنعانية والتي انتشرت في شمال اليمن وتغنى بها الكثير من الفنانين العرب لا سيما في الخليج، لا بد أن نصل إلى نتيجة مهمة وهي أن فؤاد الكبسي كان مرحلة فنية بحد ذاتها، وإذا كان البعض يقسم تاريخ لون الغناء الصنعاني إلى ثلاث مراحل، الأولى قبل ثورة 1962 والثانية بعد الثورة حتى العام 1982، فإن المرحلة الثالثة التي امتدت حتى 2005 كان فؤاد الكبسي بطلها بلا منازع أو منافس حقيقي، ولتكون المرحلة الرابعة هي التي نعيشها اليوم والتي لها الكثير من الأبطال يتنافسون فيما بينهم، ولتكون السمة المشتركة بينهم هو فؤاد الكبسي الذي تأثر الكثير منهم به وبألحانه.

في العام 1998 أتذكر مقالاً نشر في جريدة الثورة الرسمية لأحد النقاد، يقول إن فؤاد الكبسي هو الجسر الذي عبرت به الأغنية الصنعانية من جيل الفنانين السابقين إلى جيل الفنانين الجدد، فهو من حافظ عليها، في حين اتجه الكثير من الفنانين إلى ألوان غنائية أخرى، وهو من استمر في توثيق التراث في حين اتجه العديد من الفنانين إلى مدارس شعرية أخرى.

فرادة صعبة

إن غناء الأغنية الصنعانية ليس سهلاً، فهي مختلفة في كلماتها وألحانها وإيقاعاتها، فكثير من الفنانين فشلوا في أداء هذا اللون وغناء هذه الكلمات، ولم يكرروا التجربة مرة أخرى، وفي مقابلة مع الشاعر اليمني الكبير حسين أبو بكر المحضار، تحدث بأن الأغنية الصنعانية تعاني الكثير، وأنها لا تزال تحمل نفس التقاليد ونفس الأسلوب منذ زمن بعيد، وقال المحضار إن الألحان الصنعانية ظلت تعاني من الرتابة في الألحان والكلمات، وفي المقابلة التي بثها التلفزيون اليمني في ذلك الوقت، قال المحضار إن فؤاد الكبسي قدم الأغنية الصنعانية بروح جديدة وألحان كسرت الرتابة في الأغنية العريقة.

فؤاد الكبسي هو الجسر الذي عبرت به الأغنية الصنعانية من جيل الفنانين السابقين إلى جيل الفنانين الجدد، فهو من حافظ عليها، في حين اتجه الكثير من الفنانين إلى ألوان غنائية أخرى، وهو من استمر في توثيق التراث في حين اتجه العديد من الفنانين إلى مدارس شعرية أخرى

تفجرت موهبة فؤادي، كما أطلق عليه محبوه في تلك المرحلة منذ الثمانينيات، في الوقت التي شهدت فيه الأغنية الصنعانية ركوداً كبيراً، ولم تكن مهمة فؤاد الكبسي سهلة، فالجمهور، لا سيما أهل صنعاء، اعتاد عبر الإذاعة والتلفزيون الاستماع لعلي الأنسي والسنيدار والحارثي وأبو نصار والسمة، فكيف لهم أن يسلموا أنفسهم لشاب جديد لم يسمعوا له من قبل؟ لكن فؤاد انطلق. لم تكن بداية فؤاد الكبسي من التراث بشكل كامل، فأول ألبوم له كان هناك أغنيتان من كلمات والده وألحانه، وهو ما لم يعتد الجمهور عليه، فمن سبق فؤاد كرس أن الفنان لابد أن يبدأ بالتراث الذي تعود عليه الناس لسنوات طويلة، ليتواصل تقديم حتى التراث بألحان جديدة لا يزال جيل الثمانينيات والتسعينيات يتذكرونها.

إن الاستماع لفؤاد الكبسي وهو يعزف العود يشبه الحصول على نشوة عقلية من نوع مختلف. أجزم أن من لم يستمع لفؤاد الكبسي وهو يغني أغنية "الحبيب الذي مال عنا واحتجب" لم يستمع بعد إلى الأغاني الصنعانية، والذي قدمها للجمهور في مطلع التسعينيات وكانت سبب شهرته الأوسع في ذلك الوقت.

قدم فؤاد الكبسي التقاسيم الفنية للعود بأسلوب فريد ومتقن وتحمل بعض تقاسيمه شجناً وشعوراً غريباً بالقرب من أي حدث تقودنا اليه تلك التقاسيم الفريدة، والجميل والفريد فيها هو الاختلاف، فلا يمكن أن تكون تقاسيم أغنية "الحبيب" كتقاسيم أغنية "ضاع الطريق" أو "إلى من أشكو الهوى".

تربّع على القمة

وصل فؤاد للقمة منذ منتصف التسعينيات ولم يوجد من ينافسه منافسة حقيقية. لا أستهين أو أقلّل من فنانين كثر ظهروا في الساحة، لكنني أتحدث عن الاستمرارية ومعرفة ما يريد الجمهور من أغان وألحان ضمنت لفؤاد الكبسي التربع على عرش الأغنية الصنعانية لسنوات طويلة وطويلة، ففي دراسة لصحيفة 26 سبتمبر التابعة لوزارة الدفاع اليمنية، وفي العام 2001، تحدثت بأن ألبوم فؤاد الكبسي "ذكريات من التراث " هو الأكثر انتشاراً، وحصل على النسبة الأكبر من المبيعات في عشر سنوات مضت، في هذا الألبوم تحديداً، قدم فؤاد وجبة تراثية لذيذة لا يمل الإنسان منها، لا سيما أغنية "خطر غصن القنا" الذي أجزم أنه أفضل من غناها.

غنى فؤاد الكبسي لكل شيء، وفي مقدمة ما غنى له هي مدينة صنعاء. جعلنا فؤاد الكبسي نتعلق أكثر بمدينة صنعاء ونحبها ونعشقها من خلال العديد من الأغاني التي قدمها لجمهور المدينة، منها أغنية "من قال صنعاء" في العام 1999، والتي وصفت صنعاء بأسلوب جديد ومختلف وفريد يليق بها وبحب الناس لها.

غنى للحب والفراق والوصال، غنى للصداقة والنصائح والتوجيه، وكان واحداً من قلّة من الفنانين الذين أدخلوا الموسيقى على الألحان الصنعانية، وكان ألبوم "أشكو بمن ولعونيي" في منتصف الثمانينيات كله بالموسيقى وتسجيل حديث، ومن ضمن الأغاني الشهير التي أدخل عليها الموسيقى، أغنية "يا مكحل عيوني بالسهر" والذي قدمها الكثير من الفنانين بالعود فقط نظراً لصعوبة لحنها، إلا أن سماعها بالموسيقى وبصوت فؤاد كان مختلفاً جداً.

لم ينته الأمر هنا فقد قدم لنا فؤاد الكبسي ألبوماً مختلفاً من التواشيح الدينية التي رددها اليمنيون سنوات طويلة دون عزف أو ألحان وترية تعود عليها اليمنيين، فمن خلال ألبوم "يارب يا رحمن" في العام 2002، قدم فؤاد الكبسي للجمهور مجموعة من التواشيح الصنعانية بعد أن أعاد تلحينها بالعود وبعض الآلات الموسيقية، مثل الناي وغيره، وبطريقة تحفظ روحانية تلك التواشيح وكلماتها، وهو ما لم يعتد عليه الجمهور الذي ظل لسنوات طويلة يستمع إليها عبر فرق التواشيح التي تؤديها دون ألحان أو عزف موسيقي.

إن نجاح فؤاد الكبسي مختلف عن نجاح فناني هذه المرحلة. إن الانتشار في زمن الألبومات والراديو لهو النجاح الأكبر، فالوصول إلى المستمعين في القرى والأرياف وكذلك الشباب في المدينة لم يكن سهلاً في تلك الأيام، بل إن الاستمرار في زمن الإعلام التقليدي يعد نجاحاً استثنائياً لفؤاد الكبسي، أما اليوم في زمن التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية فأصبح سهلاً وممكناً للكل إلا أن الاستمرار هو الأهم.

استطاعت أغاني فؤاد الكبسي أن تتحول إلى شعارات ونصائح وأمثلة يرددها الكثير من اليمنيين مثل "اصبر وهي با تنجلي من يشتي الحالي صبر" والمشتقة من أغنيته التي غناها في التلفزيون وحملت نفس الاسم، وكذلك "تم الجميل يا جميل" وهي من الأغاني التي ذاع صيتها في تلك الفترة، و "لا عتب لا عتب" و"خلوني ارتاح" جميعها تحولت إلى أمثال شعبية يرددها الناس البسطاء، حتى من لم يستمع إلى فؤاد وهو يغنيها بصوته وعزفه.

لن أتحدث أن زمن فؤاد الكبسي انتهى، فلا يمكن للشمس أن تغيب يوماً، فعندما نبحث عن أي أغنية صنعانية لابد لنا أولاً أن نسمعها بصوت فؤاد الكبسي ثم نبحث عن البديل إن لم يغنها فؤاد الكبسي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image