شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أفتش عن مكان يسمح لي أن أحضن والديّ البعيدين... وأن أصنع الشاي بالزعتر لجدتي

أفتش عن مكان يسمح لي أن أحضن والديّ البعيدين... وأن أصنع الشاي بالزعتر لجدتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الجمعة 22 يوليو 202201:04 م

جدتي مريضة، شيء ما لم يعرف الأطباء تشخيصه يضغط على الرئة فلا تستطيع التنفس. 

على الشاشة يبيعون فلسطين للمرة الألف.
هذه المرة في مكة! أنا خلف الشاشات كالعادة، شاشة الهاتف، شاشة التلفاز، أو شاشة اللابتوب.
أضع موبايلي على وضع الصامت خوفاً من أي اتصالٍ يأتي من دمشق لا أريد سماعه، فأتفقده عشر مرات في خمس دقائق، أعيده لحالة الرنين. ثم للصامت وأهرب للكتابة.
سأخبركم بالحقيقة، اتفق جميع من في قاعة الاجتماعات تلك، كما كل من سبقهم، على أنني لا أحد.
تُكتب بخطٍ واضح على وثيقة سفري 
بلد المنشأ: بلا وطن. حملٌ خارج الرحم أنا.
جدتي تدعى عائشة، كانت طفلةً في الثالثة عشرة من عمرها في قرية الطيرة الفلسطينية، قضاء حيفا. 
سأخبركم بالحقيقة، اتفق الجميع على أنني لا أحد.
تُكتب بخطٍ واضح على وثيقة سفري .
بلد المنشأ: "بلا وطن". حملٌ خارج الرحم أنا.
ابنة فلاح له الكثير من الأراضي. عندما هاجمت العصابات الصهيونية قريتها خاف إخوتها عليها وأرسلوها مع جيرانهم. تخبرني: "قبل ما روح ركضت عالبيت كانت في عندي حمارة أركب عليها آخذ الزوادة لأبوي عالأرض، عبطتها وصرت أبوسها عم أودعها".
وتقسم لي أنها رأتها تبكي. يا قلب جدتي الأخضر. 
في البداية أخذتهم الشاحنات إلى حيفا تل السمك، ومنها في قارب إلى صور. 
تلتفت للخلف مع كل خطوة تبحث بين الوجوه عن إخوتها، ينادونها لتسرع: "عائشة!".
فيضربها جندي صهيوني من "الهاغاناه" على صدرها، لعله خاف من اسمها وخاف من أن ترضعه لأبنائها، تبكي هي طول الطريق.
صور، صيدا، مخيم المية مية في الكنيسة، مع فتيات أخريات هربتهن أسرهن مع العائلات التي غادرت خوفاً عليهن، وصل أخوها وذهبا معاً صوب دمشق.  
ستمر سنوات على جدتي تربي فيها أحد عشر طفلاً وطفلة في نفس البيت أو المخيم.
تقوم الحرب مرةً أخرى ومن جديد يسلبونها دارها.
على الشاشة أمامي تؤكد السعودية لبايدن أنها ستزيد ضخ النفط يومياً لتواجه أمريكا التضخم في الأسواق. 
يقول الطبيب إن هناك تضخماً في قلب جدتي، فهل هي مفاتيح بيوتها؟ أي قلب يتسع لكل هذا الرحيل؟
ستمر سنوات على جدتي تربي فيها أحد عشر طفلاً وطفلة في نفس البيت أو المخيم! تقوم الحرب مرةً أخرى، هذه المرة في سوريا ومن جديد يسلبونها دارها.
أن تُسرق مرتين ليس بالأمر السهل ثم أن تأكل المسافات أبناءها ليغدوا أمام عينيها لاجئين مرة أخرى، لكن هذه المرة في بلادٍ بعيدة لا تجيد العربية ولا تنطق حرف القاف، ذاك الذي تنطقه جدتي بصفاء ككل أهل الطيرة.
ألا يُعد ذاك كافياً لتصبح لها هوية؟ 
تسألني بصعوبة وأنا ألتقط لنا معاً صورة من شاشة هاتفي: "بدكش تيجي يا ستي؟ "
ملك الإقامات المؤقتة أنا، منذ ولدت تحت خيمة بإقامة مؤقتة للاجئين الفلسطينيين في سورية.لم أنجح فيها بالتعشيش في قلب أي فتاة. والآن سبع سنوات بإقامة مؤقتة في بلاد الثلج.
"مبلا، أكيد، هيها هانت بس لجدد الإقامة!". هكذا أجيبها.
ملك الإقامات المؤقتة أنا، منذ ولدت دون هوية، تحت خيمة تذكرة إقامة مؤقتة للاجئين الفلسطينيين لمدة 30 سنة في سورية.
لم أنجح فيها بالتعشيش في قلب أي فتاة. 
من يترنح على حبال الخيام لا يجيد الثبات. والآن سبع سنوات بإقامة مؤقتة في بلاد الثلج. 
أنا بحاجة لدخلٍ ثابت حتى أحصل على إقامة دائمة. 
لا أعرف كيف أشرح لهم أنني كنصف إنسان هنا ونصف هناك لم أنجح في الحصول على عقد عمل. 
نصف رجل لا يكفي لسد الثقوب في سيرتي الذاتية بما يقنع رب العمل بي كي يوظفني.
لم أتقن أية حرفة لطالما كنتُ مختبئاً، ابن الكتب! واليوم أصرف نصف لساني أنادي الغائبين عني، أطمئنهم أنني بخير واسأل عن تفاصيل حياتهم. 
أحاول أن أغض الطرف عن قلبي لأتعلم موسيقى اللغة الجديدة، لكن قلبي يفيض بكل أنواع الدموع التي لا أستطيع ذرفها منذ أن قامت الحرب في سورية قبل إحدى عشرة سنة. 
جدتي كانت تبكي كلما روت لنا قصص من رحلوا، لقد فحمت قلبي الذي تعفن بحزنها. 
سأكتب عنها، عن التضخم في قلبها المتعب، عن "بلا وطن" تفصل بيني وبين يديها فلا أستطيع أن أعد لها الشاي بالزعتر ليخف السعال، كما كانت تصنع لي وأنا صغير.
في أوروبا نقف على ساقٍ واحدة خوفاً من أي قرار، متأهبين صوب الجهات الأربع إذا ما سمعنا أي إنذار. 
جدتي كانت تبكي كلما روت لنا قصص من رحلوا
سأكتب عنها، عن "بلا وطن" تفصل بيني وبين يديها فلا أستطيع أن أعد لها الشاي بالزعتر ليخف السعال، كما كانت تصنع لي وأنا صغير.
لا أتقن حفظ النقود. جيبي مثقوب كثقتي بالغد، فما الجدوى من البناء وأنا تتم سرقتي من جيل إلى جيل؟
وأنا ورقة الربح في الانتخابات، شماعة الأعذار في كل دمار. 
أحاول أن أدرب قلبي على الفقد. لكنني أدرك أنه لكي أفقد علي أن أمتلك، وهم سرقوا مني كل شيء وكل أحد، وتركوا لي قائمة المهام التي علي أن أقوم بها ليقبلوا بي في أي مكان. 
مسالمٌ، صامت، حضاري، مُجد، مبتسم، محب للعمل الجماعي وروح الفريق!
ألعن الحدود في قلبي، وأفتش عن أي مكان يسمح لي بحضن والديّ وصنع الشاي بالزعتر لجدتي التي تُباع بلادها اليوم أمام الجميع في خبرٍ عاجل يتكرر كإعلان. 

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image