الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا
البيوت دائماً ما تشكل شخصيتنا وهويّاتنا، وتشبه أفكارنا وحياتنا، بل إنها نحن في أغلب الأحوال، وقد جاءت حياة صاحبكم في البيوت قصيرة مضطربة، بل قل جاءت البيوت في حياته عابرة متغيرة، فلم يملك بيتاً يوماً، ولم يعش في بيت يخصه أبداً.
سكنت بيوتاً عديدة منذ الطفولة، ثم أتركها بعد مدة قصيرة، لم أتعلق يوماً ببيت منها، وإن تعلقت، فسريعاً ما تهزم الأيام ذلك التعلّق، فقد كانت الفترة التي عشتها مع عائلتي في بيوت مستأجرة، عابرة، لم تستطع أن تراكم داخلي ذاكرة طويلة متواصلة، فجاءت ذاكرة طفولتي عن البيوت التي عشت بها متقطعة ومتنوعة، وربما مشوّشة إلى حد كبير، ربما عشت جزءاً كبيراً من طفولتي في "بيت جدتي" لأمي، كما كنا نطلق عليه، رغم كل ما بذله لنا جدي من دفء ومزاح، ورغم ذلك فإن بيت جدتي لم يسلم هو أيضاً من الذاكرة المتقطعة عن البيوت والأماكن، خاصة بعد وفاتهما.
وقد عشت طفولتي في تسعينيات القرن الماضي ببلدة صغيرة تقع على الضفة الشرقية لفرع نهر النيل الشرقي، وعلى بعد كيلومترات قليلة من مدينة دمياط الساحلية، وهي في لحظة مفصلية قبل أن تنتقل من طورها الزراعي الأخير إلى صناعة الموبيليا، مما جعل منها مركزاً جاذباً لرأس المال الصناعي والعقاري، ومحل اجتماع كبير للعمالة على مختلف تخصصها من جنوب الدلتا والصعيد، وجعل منها أكثر انفتاحاً عن محيطها الريفي.
ولا شك فقد شكلت هذه البلدة التي تطل على النيل مباشرة ولا يفصلها عن شاطئ البحر سوى دقائق لا تكاد تتجاوز الساعة، البنية الأولى لشخصية صاحبكم، وساعدته بالتأكيد على تشكيل هويته في مرحلة المراهقة الأولى داخل أوساط أكثر تعددية وعملية.
ثم جاء التفاعل الأول مع المدينة، من خلال الزيارات الدائمة والاحتكاك المتقطع منذ الصغر، إلى مدينة دمياط ورأس البر، سواء للأغراض التجارية الموسمية التي اعتادت عليها الأسرة قبيل مواسم الأعياد والدراسة، أو الرحلات الترفيهية القصيرة إلى كورنيش النيل بدمياط وشاطئ المتوسط برأس البر، ذلك التفاعل الذي شكل الإدراك الطفولي الأول لصاحبكم عن تلك الفوارق المدينية والتباينات الريفية، ويسر عليه الاحتكاك بأوساط متباينة عمرانياً وطبقياً.
المنصورة رايح جاي
ثم التحق صاحبكم بجامعة المنصورة وكان عليه أن يقضي سنوات متصلة ما بين دمياط والمنصورة، يسكن شهوراً متقطعة في أحد أحياء تلك المدينة العامرة، ويقضي أياماً متواصلة في الشوارع السخية، فجاءت حياتي بها كبداية مرحلة انفتاح جديدة على ثقافات أبلغ في تنوعها، وتعرف بطبقات أقوى في تجذيرها داخل مدينة المنصورة، وقد امتلكت المنصورة بلا شك سمتاً مختلفاً عن دمياط، تركت أثره في نفس صاحبكم وشخصيته، تلك المدينة التي كانت ولا تزال مقصداً للطلاب والدارسين من مختلف محافظات الدلتا وأغلب محافظات القناة.
سكنت بيوتاً عديدة منذ الطفولة، ثم أتركها بعد مدة قصيرة، لم أتعلق يوماً ببيت منها، وإن تعلقت، فسريعاً ما تهزم الأيام ذلك التعلّق، فقد كانت الفترة التي عشتها مع عائلتي في بيوت مستأجرة، عابرة، لم تستطع أن تراكم داخلي ذاكرة طويلة متواصلة... مجاز في رصيف22
وقد عشت في هذا الطور من حياتي مرحلة تشَّكل جديد، واحتكاك عملي بثقافات متنوعة داخل مناخ أكاديمي لا بأس به، وإن حدث ذلك في أغلبه من خلال التفاعل مع المدينة أكثر منه تفاعلاً مع الجامعة؛ في الحقيقة قد صقلتني علاقتي بزملاء الدراسة داخل شوارع المدينة ومقاهيها أكثر ما صقلتني الجامعة ذاتها، وشكلتني الأنشطة الثقافية والفنية بالكلية أكثر ما شكلتني الدراسة نفسها، خاصة في النصف الثاني من العام الدراسي الأخير، وهي الفترة التي شهدت حراكاً سياسياً وثقافياً كبيراً صاحَب الشرارة الأولى لثورة يناير، فقد علمتني مدينة المنصورة أكثر ما علمتني جامعتها، ومنحتني ممرات كلية آداب جامعة المنصورة أكثر مما منحتني مدرجاتها.
حتمية الإسماعيلية
الإسماعيلية، بل قل مدينة فايد، وهي مدينة صغيرة على الضفة الغربية للقناة، وهي ذات أثر خطير في شخصية صاحبكم، فلم يقدر للحرية قدرها بمثل ما قدرها في هذه المرحلة وفي تلك المدينة، ولم يلتمس الحرية شعوراً أصيلاً في نفسه، كما شعر بها في هذا الطور من أطوار حياته، ولم يعرف الحرية إحساساً نابعاً من جوهر الروح إلى الآماد البعيدة، وليست شعوراً مكتسباً من الخارج، كما عرفها في شوارع هذه المدينة، فقد يكون أسير الجسم بلا شك؛ من العسير عليه أن يحاول الهرب أو الإفلات، لكنه حر العقل والروح إلى أبعد مدى، فكر في ذلك تفكيراً متصلاً، وتدبر العزلة طويلاً، بل قل تدبر نفسه في العزلة، فتغير رأيه في أمور كثيرة، وكوّن لنفسه قيماً أخرى مخالفة لتلك القيم التي كان يقدّر بها الحياة حين كان حر الجسم مترفاً.
لكن تظل تجربتي مع كنيسة فايد هي الأبعد أثراً في نفسي، والأكثر تأثيراً في عقلي، ولكم فكرت في سردها بإسهاب في سطور طويلة قد لا تسعها تلك الأوراق، فقد أجبرتني الخدمة الإلزامية أن أكون أحد أفراد الحراسة لكنيسة المدينة لمدة تتجاوز الشهر من بداية يناير 2012، وهي فترة الأعياد المسيحية، والاضطرابات الأمنية كما يحلو للبعض أن يعرّفها، بل قل هي فترة احتدام الصراعات الاجتماعية والسياسية، فلا يمكنني أن أنسى ما رأيته من التوتر والخوف في أعين جميع من التقيت بهم في هذه الفترة، وفي هذا الموقع الذي اتخذته الكنيسة على الطريق الرئيسي للمدينة والذي يربطها بمدينة الإسماعيلية، والممتد مباشراً إلى مدينة السويس.
فقد أتاح هذا الموقع الاجتماعي والجغرافي المؤقت لي، أن أعيد النظر في العديد من التصورات الاجتماعية والثقافية والدينية، بل قل أتيح لي أن أعيد تشكيل شخصيتي داخل كل هذه التشابكات الاجتماعية والدينية، وأن يعيد التعرف على نفسه من خلال التفاعل مع فئات اجتماعية متباينة حد التنافر، والاختلاط بأصحاب مهن ووظائف مختلفة.
رقدالين، ليبيا
لا يميل السؤال العام في الغالب إلى أثر المدينة في نفوسنا وتشكيل شخصيتنا، فالعام مشغول دائماً بما نتركه نحن من أثر في المدينة، وما نجنيه من خلالها من مكاسب، وفي الحقيقة لا يميل صاحبكم أيضاً إلى الحديث عن هذا الأثر، الذي تركته كل مدينة في أعماق ذاته، وإن زارها لمرة واحدة كالفيوم مثلاً، لكن وإن كان يجب أن أتحدث عن أثر المدينة في تشكيل شخصيتي، فكان يجب عليّ أن أبدأ بمدينة راقدالين الليبية، متغافلاً السياق التاريخي لوجودي داخل المدينة، ووجود آثار المدينة داخل نفسي.
كان قراراً مفاجئاً بالسفر في أواخر عام 2013 إلى ليبيا، أو قل كان قراراً أهوجاً غير مدروس، كما يرغب بعض المقربين أن يصبغوا عليه صفة الطيش، وإن كنت على علم بدوافعهم في ذلك، نظراً لما تشهده ليبيا من صراع سياسي مسلح، لكن لا أعلم على وجه التحديد لماذا لا يصبغونه بصبغة الرغبة الملحة في الانفصال عن واقع اجتماعي وسياسي قائم على الشحن والاستقطاب، لماذا لا يحيلونه لليأس أو الهروب مثلاً؟
أنتمي للمدينة بكل ما فيها، وأنتمي لصخبها بالرغم من عدم قدرتي كثيراً على الاندماج، أنتمي للعشوائية غير المبرّرة بالرغم من محاولاتي الدائمة لفهمها، أنتمي للقبح الذي خلّفته المدنية في قلوب سكانها، بل وأنتمي للعبث وانعدام المعنى بالرغم من تظاهري الدائم بقدرتي على إيجاد معنى... مجاز في رصيف22
في الواقع إن مدينة رقدالين هي صاحبة الأثر الأعمق في نفس صاحبكم، وهي مدينة صغيرة على الساحل الغربي الليبي على بعد ساعات معدودة من الحدود التونسية، تشبه إلى حد كبير بلدة دمياط الصغيرة خلال التسعينيات، والتي لم تعد على سابق حالها، وقد منحت راقدالين صاحبكم خلوة حقيقية كانت نفسه تصبوا إليها؛ فما أشد حاجة الإنسان إلى خلوة طويلة يخلو فيها إلى نفسه، فيقص عليها ما مر به من الخطوب، ويعيد عليها ما اجتاز من الأحداث، ويذكرها بما ينكر منها ويستمع إلى ما تنكره هي منه.
ولم تكن خلوتي في راقدالين عزلة خالصة ولا خلطة خالصة، فجاءت بين هذا وذاك، في كونها عزلة عن الاعتياد الاجتماعي، وعزله عن الصراعات السياسية المصرية وصراعاتي الذاتية بلا شك، عزلة فتحت الباب أمام العقل لتدبر الماضي، الإمعان في الحاضر وصياغة المستقبل، لقد كانت العزلة والغربة والصحراء مخاضاً جديداً، أعادني إلى نفسي وأعاد نفسي إليّ.
وفي كونها خلطة مع عالم اجتماعي وسياسي شديد الاختلاف، وتعرض لطبيعة جغرافية شديدة التباين، فتحت الآفاق أمام الوجدان لتقبل التنوع والاختلاف والتعددية، بل جعلت منهم ثقافة ذاتية، طريقة للتعايش والاستمرارية وطريق للتصالح.
خرجت من راقدالين إلى القاهرة وأنا أعلم جيداً أنني لا أنتمي لتلك الثقافة النخبوية التي تحتقر كل الثقافات المغايرة، وإنما أنتمي إذا كان يجب أن أنتمي إلى ثقافة تستهلك بشره نطاقاً واسعاً من الأشكال الاجتماعية الشعبية والراقية والسوقية أيضاً، وأتطلع إلى إنتاجها الفني والثقافي، فليس هناك من أعمال ثقافية وفنية غريبة عني، بكل ما تحمله تلك الأعمال من دلالات تعزز الفروق الطبقية وترسم حدودها وتحميها، أستطيع أن أذهب إلى الأوبرا وكذلك استطيع الحصول على تذاكر لحفل إحدى فرق موسيقى الأندر جراوند.
أحب أعمال بيتهوفن الخالدة واستمتع بصخب أغنيات المهرجانات، دون تناقض، أذهب للمطاعم الصينية، ولكن ما ألذه الطعام الإيطالي والإسباني، أحب الفن الفيكتوري واستمتع بلوحات الفن التشكيلي، أحب كرة القدم واستمتع بمشاهدة لعبة التنس وسباق الخيل. فلا أعتقد بالثنائيات ولا أجلس أبداً أمام مواجهة بين ذوق رفيع وآخر سوقي، إنها مواجهة ضد الانتقائية، مواجهة التهام شيء واحداً ضد التهام كل شيء، هكذا أنا في كل مكان أشعر بأنني في بيتي، ربما لأنه ليس هناك مكان يمكن أن أسميه بيتي.
وفي النهاية فإنني أنتمي للمدينة بكل ما فيها، وأنتمي لصخبها بالرغم من عدم قدرتي كثيراً على الاندماج، أنتمي للعشوائية غير المبرّرة بالرغم من محاولاتي الدائمة لفهمها، أنتمي للقبح الذي خلّفته المدنية في قلوب سكانها بالرغم من محاولاتي لتجميل نفسي والزعم أنني أختلف عنهم، بل وأنتمي للعبث وانعدام المعنى بالرغم من تظاهري الدائم بقدرتي على إيجاد معنى من وراء ما يحدث، ولا زلت أعتقد أن الخروج من المدينة في النهاية هو حل فردي لا يخدم المجموع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...