عند مشاهدتي للفيلم الوثائقي "ألقاب الجزائريين... النقمة الفرنسية" لصاحبته الإعلامية الجزائرية فتيحة بورونية، وقفت على حجم المعاناة والوجع اللذين يعتصران قلوب قطاع عريض من الجزائريين بسبب الأسماء المشينة التي يحملونها، وهي تركة استعمارية مسمومة، خلفتها الإدارة الفرنسية التي كانت ترمي من وراء "مشروعها التلقيبي" خدمة الأهداف الاستعمارية، التي يتصدرها طمس هوية الجزائري، وسلخه عن شخصيته.
عُرض الفيلم لأول مرة، في إطار فعاليات أسبوع الفيلم الوثائقي بقاعة "الخيام" وسط العاصمة الجزائرية، خلال الفترة الممتدة من 12 إلى 17 آذار/مارس 2022، وعرض مؤخراً في إطار أسبوع الفيلم الوثائقي بالمركز الثقافي "عبد الحميد بن باديس" في محافظة قسنطينة (تقع في مركز الشرق الجزائري على بعد نحو 400 كيلومتر عن العاصمة الجزائر) في إطار الاحتفال بالذكرى الستين لاسترجاع السيادة الوطنية.
حظي الفيلم باهتمام إعلامي واسع، ولاقى احتفاءً من الجمهور، لأنهم رأوا فيه تجسيداً حقيقياً لإحدى أبرز الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الشخصية الجزائرية.
تنطلق المخرجة في فيلمها الوثائقي من قصة التلميذ الجزائري الملقب بـ "دماغ العتروس"، بداية من دخوله لابتدائية "إسماعيل يفصح" في باب الزوار (الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية)، وعبر السرد البصري للأحداث فتحت الإعلامية جروحاً غائرة في قلوب حاملي أسماء مشينة ورثوها عن المستعمر الفرنسي.
جمعت الإعلامية فتيحة بوروينة، مثلما ورد في الإعلان الترويجي للفيلم الوثائقي، شهادات المتضررين/ات من قانون الألقاب الذي أصدرته الإدارة الفرنسية في 23 آذار/ مارس 1882، واعتمده نظام الألقاب العائلية في الجزائر، إذ تواصلت مع عائلات، مثل: "بوخنوفة"، و"بوحلوفة"، و"حمار"، و"قاع المثرب"، وكانت مدفوعة بمادة علمية انبثقت عن ملتقى وطني، نظمته جامعة "البليدة" عام 2019، حول هذا الموضوع.
تحدث في الفيلم الوثائقي بوعقادة عبد القادر، من جامعة "البليدة"، وعمارة علاوة من جامعة "الأمير عبد القادر" في محافظة قسنطينة، والأستاذة قشي فاطمة الزهراء في جامعة قسنطينة أيضاً، وبلال عمرون من جامعة "البليدة"، ومصطفى عبيد من جامعة "المسيلة"، والدكتور البشير بوقاعدة الأستاذ في جامعة "محمد لمين دباغين سطيف2".
حاولت المخرجة إبراز شعور الوجع والانكسار الذي يخالج المجبرين اليوم على تقبل لقب يعتبر "خادشاً للحياء" أو ساخراً أو حتى لا معنى له، ما عزز حالات الانطواء لديهم، حتى لا يناديهم أحد بألقابهم.
فتح الفم عليّ سيولاً من الذكريات، تخبط زميل لي في مشاعره أيام كنا في الصف الأول الثانوي، أذكر كيف كان يتصببُ عرقاً، ووجهُه يشتد احمراراً عندما تشهر المعلمة في الفترة الصباحية سجل المناداة اليومي من أجل متابعة غياب التلاميذ، كان الأكثر هدوءاً، ولا يشارك آراءه أحد، وكان يزعجه كثيراً زملاؤنا "المشاغبون" بالتندر على لقبه "لعْوَر"، ولسوء الحظ كان يتطابق مع "عاهة" جسدية ولد بها، وسببت له ضعفاً في عينه اليسرى.
وقديماً، في السنة الثالثة الابتدائي، كان زميلي "التيس عماد"، يدخل في عراك يومي مع زملاء الدراسة بسبب لقبه الذي يرمز إلى ذكر الماعز صغير السن.
يتأخر عماد يومياً بربع ساعة على الأقل حتى لا يسمع أصدقاءه وهم يقلدون صوت "التيس" بمجرد سماع لقبه العائلي عند مناداة المعلمة أسمائنا، لتدوين أسماء الغائبين في سجل خاص، وتضطرُ والدته إلى إحضاره من المدرسة بنفسها خوفاً عليه من الألفاظ العنيفة والقاسية، التي يوجهها له زملاؤه يومياً.
"ضبط" عملية التلقيب
"اعتمدت الإدارة الفرنسية بالجزائر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر نظاماً تلقيبياً مغايراً لما كان سائداً؛ أي منح الفرد الجزائري (أو العائلة) لقباً بدلاً من الاسم الثلاثي الذي كان الأساس التلقيبي السائد؛ أي القائم على النسب العائلي أو شجرة العائلة، وبالرغم من أنّ إدارة المحتل الفرنسي سنّت قوانين ضابطة لعملية التلقيب، وادعت أنّها حريصة على أن يتصدر أهداف مشروعها التلقيبي هذا تنظيم الإدارة، وضبط الأمور الاجتماعية، إلا أنّ نيتها كانت خبيثة، تنطوي على عديد من الأهداف الاستعمارية"، يقول الدكتور البشير بوقاعدة، الأستاذ في جامعة "محمد لمين دباغين سطيف2".
زميلي "التيس عماد" في الثالثة الابتدائي، يدخل في عراك يومي مع زملائه بسبب لقبه الذي يحيل إلى ذكر الماعز صغير السن، وبات يتأخر ربع ساعة حتى لا يسمع تقليد زملائه لصوت "التيس" بمجرد رؤيته
يوضح بوقاعدة أكثر: "كانت إدارة الاحتلال الفرنسي تمنح ألقاب لعائلات جزائرية دون علمها، ودونتها في سجلات الحالة المدنية، وفي حالات أخرى أرغمت العائلات على قبول بعض الألقاب، رغم تحفظ أصحابها على قبولها، وفي أحيان أخرى توجه الفرد الجزائري نحو نمط تلقيبي يخدم غايتها وهواها.
بالإضافة إلى ذلك لعب المترجمون الفرنسيون دوراً لا يستهان به في معركة ضرب الهوية الجزائرية، ذلك أنهم ساهموا بفعالية في تشويه لقب العائلة بتغييره في خضم ترجمته من العربية إلى الفرنسية لتدوينه في السجلات والدفاتر، سواءً بتغيير جزئي في تركيبته بما يخدم توجههم الاستدماري أو تغيير كلي لتركيبة اللقب ومعناه".
وبالرغم من أن الإدارة الفرنسية كانت تمنح فرصة لأصحاب اللقب لتغييره عبر تحديدها لمدة زمنية كمهلة تنظر فيها في طلبات العائلات الجزائرية، التي طعنت في اللقب الممنوح لها، سواء تمّ مشاورتها في طبيعة اللقب قبل منحها إياه أو لم تُستشر.
يقول بوقاعدة إن "طبيعة الظرف تحت وطأة الاحتلال، بما ينطوي عليه من مخاطر السفر والانتقال إلى الإدارات الفرنسية في المدن الكبرى، وانعدام الثقة في الموظفين الإداريين وكل القيادات الفرنسية، دفع الكثير من العائلات الجزائرية إلى تقبل ذلك اللقب عن غير طواعية، تحت طائل الخوف- على فحشه أو نقيصته.
ويشمل هذا الوضع خاصة سكان الأرياف والقرى والمداشر والمناطق الجبلية، لأن ظروفها المعيشية تحت وطأة المحتل كانت أسوأ بكثير من حال سكان المدن، بالإضافة إلى بعد المسافة عن المدن الكبرى التي توجد بها الإدارات الفرنسية، بالإضافة إلى سيادة الجهل والأمية التي شجّعها الاحتلال في المدن والأرياف على حدّ سواء، لكن وطأته كانت على هذه الأخيرة أشدّ؛ أي الأرياف والمناطق الجبلية، وقلّة الوعي عند بعض العائلات وانعدامه عند أخرى، بشأن الدلالة التي ينطوي عليها اللقب ووقعه على سمعتها وأبعاده الاستدمارية، خصوصاً إذا كانت خفية أو ضمنية، ونحو ذلك من الأسباب".
بحسب بوقاعدة، فإن الهدف الرئيسي يكمن في "التحكم المطلق في رأس مال العقار، وتسهيل الاستيلاء على الأراضي، حيث بعد أن تفلح في تفكيك نظام القبيلة، وتنجح في تغيير أساس الملكية إلى الأساس الفردي بدلاً من أساس القبيلة، وتتمكن من تفكيك الروابط الدموية بين أبناء العمومة أو أفراد العائلة الواحدة أو بين الإخوة أنفسهم، ما يؤثر على مشاريع مثل إعادة ترتيب الأرض والقبائل، بموجب قانون سيناتوس كونسلت، وتطبيق قانون الملكية الفردية (26 تموز/يوليو 1973) الذي أعيد على ضوئه ترتيب ملكية الأراضي".
يكمل بوقاعدة سرد رؤيته لنا: "عمدت إدارة المحتل إلى إرساء نظام الحالة المدنية المنبثق عن القانون المدني الفرنسي، ابتداء من سنة 1858، والذي تجلت ملامحه الرئيسة في 23 آذار/مارس 1882 بفرض (قانون إقامة الأحوال النسبية) أو (قانون إنشاء دفاتر الحالة المدنية) أو قانون الحالة المدنية أو قانون الألقاب، والذي ألزم كل سكان التل الجزائري بحمل ألقاب عائلية، وإحداث نقلة نوعية في مسار التلقيب، بالانتقال من التداول بالاسم الشخصي والنسبة إلى الأصول: الأب والجد، إلى التعريف باللقب العائلي، وكانت الانطلاقة الفعلية من مدينة قسنطينة، كعينة أولى لتجسيد المشروع".
"دون أن ننسى رغبته الجامحة في السخرية من ذات الجزائري والتهكم على شخصيته وكيانه الإنساني وطمس هويته الإسلامية والثقافية والتاريخية، من خلال تغيير الأسماء التي تعكس هويته الأصيلة والتفريق بين البطون والأنساب ذات الأصل الواحد، بإعطاء ألقاب تهدف لإسقاط الجنسية، وطمس التاريخ والهوية العربية والإسلاميةّ".
تداعيات خطيرة
تسببت تلك الألقاب في تنامي عقدة الخجل عند الفئات الأصغر سناً، خصوصاً في مقاعد الدراسة، حين ينمو شعورهم بالخجل لكثرة تداول ألقابهم المهينة وسماعهم إياها، وكثرة الأسئلة المطروحة على أفرادها بشأن ألقابهم من طرف الأساتذة أو الموظفين الإداريين، ونحو ذلك من الهيئات المخوّل لها ذلك قانوناً في إطار مهامهم البيداغوجية والتربوية أو الإدارية، حتى أسهم الخجل المفرط في انقطاع الطالب أو التلميذ عن الدراسة أحياناً، فراراً من أعباء لقبه المستفحش أو الهجين والمشين، بحسب بو قاعدة.
الألقاب العائلية التي تشير إلى حيوانات وأشياء مهينة نجدها في الجبال والأرياف أكثر، ورغم كثرة العقد النفسية التي يمكن أن تصيب المرء بسبب لقب عائلي مثير للسخرية، إلا أنه مرتبط بمسائل المواريث والملكية والشهادات الدراسية، مما يدفعهم إلى التكاسل عن تغييرها
ويحكي عن أشخاص أثرت فيهم ألقابهم تلك، مثل شخص يحمل لقب "بوحلوفة"، وقد قام بتغيير لقبه إلى "حنفي"، ويروي هذا الشخص أنه عانى كثيراً على المستوى المعنوي من تبعات هذا اللقب القبيح، فيقول، على سبيل المثال، إنه في إحدى المرات، بينما كان في مطار لدولة عربية، تأثر كثيراً من استهزاء موظفين يعملان في إدارة ذلك المطار بلقبه وضحكهما عليه، ويقول إنه كلما سُئل عن لقبه من أي شخص لا يعرفه، أول ما يشعر من رد فعل ذلك السامع للقبه، هو استهجانه واستغرابه منه، إن لم نقل ضحكه عليه وأحياناً الاستهزاء به.
وعمدت الدولة الجزائرية على توفير المناخ المناسب لتمكين الجزائري من تغيير لقبه "القبيح" واستبداله باللقب الذي يختاره لنفسه ويرضى به، وتكشفُ آخر الإحصائيات الرسمية، أن 3550 شخصاً جزائرياً فقط غيروا ألقابهم خلال السنوات الأخيرة.
ولما سألناه عن أسباب عدم تغيير اللقب القبيح من طرف قطاع عريض من الجزائريين، فعدد بوقاعدة أسباب الإحجام:
1 - الجهل بحقيقة المدلول القبيح للقب، أو عجز البعض عن استكمال إجراءات تغيير اللقب، سواء بسبب الإجراءات الإدارية أو لأسباب شخصية.
2 - التخوف من ضياع الإرث، أو فقدان الملكية، كملكية الأرض التي تعود إلى الأجداد، وخاصة الأراضي التي لا تزال تحمل اسم الجد الأكبر
3 - خوف الفرد من صعوبة تسوية كافة الوثائق، التي تعكس مساره الدراسي أو التكويني ونحو ذلك، فمثلاً رب عائلة له أولاد ولكل ابن شهادات علمية تعكس مساره الدراسي، غالباً ما يخشى أن يضيع في بحر العملية التصحيحية للقبه هو وأبناؤه؛ لصعوبة تصحيح كل الشهادات المتحصل عليه من مؤسسات مختلفة وفي مراحل زمنية متباينة.
في النهاية يركن صاحب ذلك اللقب المشين للاستسلام، بحسب بو قاعدة، مُؤْثراً سلامة وثائقه، واجتناب الاضطراب وطول مراحل المسار التصحيحي، على الوقع السلبي الذي ينجم عن قبح لقبه على نفسيته أو نفسية عائلته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...