شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عربية أم فرنسية... كيف رأى رواد الحركة الوطنية مستقبل الجزائر؟

عربية أم فرنسية... كيف رأى رواد الحركة الوطنية مستقبل الجزائر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 17 مايو 202201:30 م

تزعمت تيارات عدة حركة النضال السياسي السلمي في الجزائر في مطلع القرن العشرين، وتمايزت في طروحاتها الفكرية بين التوجهات العربية الإسلامية كأيديولوجيا مناهضة للفرنسة، مقابل التوكيد على الهوية الجزائرية الفرنسية، فكانت اللبنات الأولى الأساسية لحركة الاستقلال الوطني في ما بعد.

فإن انطلقت الثورة عشية الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، فإنها كانت نتيجة نضال سياسي امتد لأكثر من ثلاثة عقود، نضال اختلفت مرجعياته الفكرية، وخلفياته المجتمعية بين تيارات متعددة، ومتناقضة. فما هي هذه التيارات والاتجاهات التي كان لها تأثيرها المباشر وغير المباشر على الثورة الجزائرية؟ وكيف نشأت؟ وكيف أثرت في الوعي الوطني للإنسان الجزائري؟

 بدايات التيار الثوري

كان لقانون التجنيد التعسفي الذي أصدرته فرنسا في سنة 1912، بالغ الأثر في تحرك القوى السياسية في الجزائر، والتي انقسمت إلى تيارات متعددة مثّلتها أحزاب سياسية ظهرت مع بداية القرن العشرين، طالب بعضها بالإصلاح والمساواة وتفعيل مواطنة أبناء الجزائر مع الفرنسيين.

"فلقد أثار هذا القانون سخط كل الجزائريين واستنكارهم لهذا الاستبداد الجديد حتى أن بعض العامة قالوا "بأن فرنسا إذا كانت قد أخذت أموالنا، فلن تستطيع أن تأخذ منا أبناءنا"، كما يقول يوسف مناصرية في كتابه "الاتجاه الثوري في الحركة الوطنية الجزائرية بين الحربين العالميتين 1919-1939".

وكان أبرز تلك التيارات التيار المحافظ الذي كان يسيطر عليه بعض الإقطاعيين الجزائريين، والاتجاه الليبرالي، الذي كانت تمثله النخبة الجزائرية، والاتجاه الثوري، الذي مثله الأمير خالد الحسني، والاتجاه العربي الإسلامي، الذي تزعمته جمعية العلماء المسلمين ومن بعدها حركة نجم شمال إفريقيا بزعامة مصالي الحاج.

درج مؤرخو الحركة الوطنية في الجزائر على عدّ حزب نجم شمال إفريقيا كأول ممثل للتيار الثوري في الجزائر بعد خطاب متزعمه السيد مصالي الحاج في مؤتمر بروكسل عام 1927، والذي طالب فيه علانيةً باستقلال الجزائر عن فرنسا، إلا أن العريضة المقدمة من الأمير خالد الحسني للرئيس الأميركي ويلسون، سنة 1919، في أثناء مؤتمر الصلح في باريس، مطالباً إياه بحق الجزائر في تقرير مصيرها، قد سبقت ذلك.

لم تستطِع حركة النخبة الخروج من العباءة الفرنسية بمطالبها، والتي تركزت على إنشاء "كونفدرالية جزائرية" مستقلة ضمن الجمهورية الفرنسية المترامية الأطراف، واعتمدت لتحقيق ذلك على الحكومة الفرنسية والالتزام بمبدأ المساواة بين الجزائريين

إذ يذكر مناصرية، في المرجع السابق، أن هذه العريضة نشرها للمرة الأولى المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجرون Ageron Charles-Robert، سنة 1980، وترجمها الأستاذ أبو القاسم سعد الله الذي يُعدّ شيخ المؤرخين الجزائريين، في مؤلفه "الاتجاهات الفكرية والثقافية للحركة الوطنية الجزائرية"، سنة 1981.

كان توجه الأمير خالد، مؤسس جمعية الأخوة الجزائرية في سنة 1912، إذ كان جزءاً من حركة النخبة، توجهاً انفصالياً استقلالياً عن فرنسا، ويتوضح ذلك من خلال ما جاء في العريضة المرفوعة إلى الرئيس ويلسون، كما يذكر سعد الله في المرجع السابق: "يجبر شعب من الشعوب تحت سيادة لا يرضى بها"، وناشده الاعتماد على نقاطه الأربع عشرة، "كقاعدة لتحرير الشعوب المستضعفة المقهورة". 

بالرغم من فشل الأمير في تحقيق مراده، وخيبة أمله من "عدالة" عصبة الأمم، إلا أنه اعتمد، في ما بعد، طريقاً سياسياً أكثر مرونةً لتحقيق هدفه البعيد، الاستقلال، والقريب، المساواة، من خلال الدعوة إلى الإصلاح، ويذكر حكيم بن الشيخ في مؤلفه "الأمير خالد ودوره في الحركة الوطنية"، أنه قام بوضع برنامج سياسي اجتماعي تقع مرحلته الأولى بين عامي 1919-1921، والثانية تتجلى في خطاب إلى الرئيس الفرنسي ألكسندر ميلران Alexandre Millaerand، طالبه فيه بـ: "المساواة بين الجزائريين والفرنسيين وإلغاء القوانين الاستبدادية التي كانت لحكام البلديات المختلطة، وخلق جماعة جزائرية، كما طالب بالتعليم الإجباري باللغة العربية والفرنسية، وتطبيق القانون العام"، وتتمحور حول استبداد المعمرين.

قضية التجنيس والخلاف مع الأمير خالد

كان أعضاء هذه النخبة جزائريين مثقفين ثقافةً فرنسيةً، عارفين بالسياسة وأساليبها، ومطلعين على مأساة الجزائريين، ومدى تأثير القوانين الاستعمارية عليهم، واستفادوا من القوانين الاستثنائية الفرنسية في الجزائر لممارسة العمل السياسي، وتمثيل مواطنيهم أمام الحكومة الفرنسية في الجزائر وباريس.

ومباشرةً غداة قانون التجنيد الإجباري سنة 1912، بدأ العمل بإرسال وفد جزائري إلى باريس يحمل عريضةً بمطالب المسلمين الجزائريين اهتمت بالمسائل العسكرية والسياسية، وقد جاء فيها على وجه الخصوص وفقاً لجوان جيليسبي، في كتابه "ثورة الجزائر"، ترجمة عبد الرحمن صدقي أبو طالب: "المطالبة بتخفيف الخدمة العسكرية، ومراعاة بلوغ الشاب الجزائري سن الرشد، وزيادة تمثيل الجزائريين في الجمعيات المنتخبة، والتوزيع العادل للثروة بين مختلف الشعب الجزائري، وإلغاء الضرائب المفروضة على الشعب المسلم".

ويتابع جيليسبي أن نصها يذكر "أن الجزائريين على استعداد كامل لواجبهم الوطني تجاه وطنهم الأم، ولكنهم في مقابل ذلك يرجون تحسين أوضاعهم". وقد حصلت هذه العريضة على موافقة الرئيس الفرنسي ريمون بونكاريه Raymond Poincari، الذي قال: ثقوا بأن فرنسا تتلقى بحفاوة كبيرة مطالبكم التي تعدّونها شرعيةً، وتعدّها هي (فرنسا)، مكافآت عادلة على العمل الجديد الذي فرضته عليكم"، كما يذكر مناصرية في المرجع السابق.

ولكن وبسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، غاب نجم النخبة ومطالبها، وعاد مع الانتخابات البلدية في شهر أيلول/ سبتمبر 1919، إذ شكلت الجناح المعارض للأمير خالد الحسني لاعتبارات عدة يذكرها قداش محفوظ، في مقالته المنشورة في مجلة تاريخ وحضارة المغرب، عدد حزيران/ يونيو من سنة 1974، بعنوان "حول مشروع إنشاء برلمان استعماري في الجزائر غداة الحرب العالمية الأولى"، وهي أنهم لم يطالبوا باستقلال الجزائر لثقتهم بالحكومة الفرنسية إذ عدّوا أن عدو الشعب الأول هم المعمرون المستغلون المستبدون.

وكانت النقطة الخلافية الأساسية مع "الكولون" الذي يمثله الأمير خالد، هي قضية إدماج الجزائريين وتجنيسهم بالجنسية الفرنسية، والقانون الخاص بها الذي صدر في شباط/ فبراير سنة 1919، حول كيفية حصول الجزائريين على الجنسية الفرنسية. فقد وافقت النخبة على التجنيس من دون قيد أو شرط، بينما كان موقف الأمير ألا يحدث ذلك إلا في إطار الأحوال الشخصية الإسلامية للجزائريين ورفض الجنسية الفرنسية، وفقاً لسعد الله في المرجع السابق.

كان لقانون التجنيد التعسفي الذي أصدرته فرنسا في سنة 1912، بالغ الأثر في تحرك القوى السياسية في الجزائر، والتي انقسمت إلى تيارات متعددة مثّلتها أحزاب سياسية ظهرت مع بداية القرن العشرين، طالب بعضها بالإصلاح والمساواة وتفعيل مواطنة أبناء الجزائر مع الفرنسيين

وعليه تعرض لمقاومة شديدة من الاندماجيين من جهة، والحكومة الفرنسية من جهة أخرى، واشتد النزاع بينه وبين الدكتور بن الثامي أحد رجالات النخبة، الذي رفع لافتةً لمجلس ولاية الجزائر يندد فيها "بالعصبية الإسلامية التي تحتضنها حركة الأمير خالد، والتي لا تنتظر إلا مفجّراً لتشعلها حرباً". استجابت فرنسا لندائه لاغيةً الانتخابات ومنددةً باستغلال الأمير لـ"تدخل الطرقية"، لتدعيم النعصب الإسلامي ضد الاندماجيين، كما يذكر بن الشيخ في المرجع السابق.

ويؤكد مناصرية في المرجع السابق، أن "هذه الاتهامات تحمل شيئاً من الصحة، إذ نلاحظ أن الأمير قد وجه نداءً إلى المسلمين في أثناء الانتخابات البلدية بدأه بالعبارة التالية: لقد مرت مئة سنة والمسلمون ينتظرون ساعة ازدهارهم والاعتراف بحقوقهم. وأنهاه بما نصه: لنتحد من أجل أن تكون مطالبنا مجديةً ولكي ننتصر... على تعفن الإدارة".

هُزمت النخبة في الانتخابات لصالح كتلة الأمير، وخسرت مركزها في نفوس الجزائريين وبقيت تعيش حالةً من العزلة السياسية لم تتنهِ حتى فرغت لها الساحة في سنة 1923، عندما تم نفي الأمير خالد إلى فرنسا، ومما زاد من سطوتها تعيين موريس فيوليت Maurice Viollette، حاكماً عاماً للجزائر في عام 1925، وانضمام مجموعة من الرجال الناشطين على رأسهم الدكتور بن جلول والصيدلي فرحات عباس إليها، كما يورد مناصرية في المرجع السابق.

جزائر فرنسية لحماً ودماً

لم تستطِع حركة النخبة الخروج من العباءة الفرنسية بمطالبها، والتي تركزت على إنشاء "كونفدرالية جزائرية" مستقلة ضمن الجمهورية الفرنسية المترامية الأطراف، واعتمدت لتحقيق ذلك على الحكومة الفرنسية والالتزام بمبدأ المساواة بين الجزائريين (الفرنسيين والمسلمين)، رافضةً الطرح الأيديولوجي المقابل للفرنسة، وهي الهوية الوطنية الجزائرية المتمثلة بالعروبة والإسلام.

ففي شهر حزيران/ يونيو من عام 1927، أسس الليبراليون الاندماجيون منظمةً لهم سموها (اتحاد النواب المسلمين الجزائريين)، وانعقد مؤتمره التأسيسي في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، بالرغم من مرور 15 عاماً على عريضتها المقدمة للحكومة الفرنسية، "في وقت كان العمل السياسي جريمة قتل"، كما يقول مناصرية في المرجع السابق، والتي جاءت بلا نتائج تذكر، إلا أنها وحتى عندما صارت منظمةً كاملة الأهلية رسمياً، أعادت الدعوة ذاتها للفرنسيين من خلال جملة إصلاحات سياسية وعسكرية واجتماعية تنادي بمبدأ المساواة، ويُرجع الدكتور سعد الله في المرجع السابق ذلك إلى أن النخبة "لم تستوحِ مطالبها من مقومات الشخصية الوطنية، بل بقي برنامجها يدور في فلك القانون الفرنسي والتعليم الفرنسي والحضارة الأوروبية، وكانت راضيةً بالثقافة الفرنسية روحاً وبالحضارة الأوروبية جسداً، والإصلاحات الجوفاء وسائل تنفض فيها غبار الكولون واستبدادهم".

بعد أحداث قسنطينة الدموية، لجأت النخبة، قسم مسلمي قسنطينة، برئاسة الدكتور بن جلول إلى وضع برنامج لخصت فيه مطالبها كما يلي: "لقد صارت الجزائر مقاطعةً فرنسيةً، والمسلمون الفرنسيون الأهالي يطالبون فقط بتطبيق القانون العام الفرنسي عليهم وإلغاء القوانين الخاصة التي أخضعتهم وأضرّت بمصالحهم"، كما يذكر جيليسبي في المرجع السابق.

يمكن عدّ أحداث قسنطينة درساً مفيداً للنخبة التي تقاربت مع حركة العلماء المسلمين الجزائريين وظهرت مطالب جديدة لها، بعدما وقع الاتفاق بينها وبين حركة العلماء والاتحاد الجزائري للحزب الشيوعي في نهاية 1935، للبحث عن وسيلة مشتركة.

وتجلت هذه المطالب الجديدة "بإصلاح القضاء الإسلامي، والمطالبة بالزيادة في عدد المدارس باللغة العربية، وفصل الدين عن الدولة، وتطبيق القانون بالمساواة في الصحافة من دون تفرقة أو قانون خاص"، والكلام لجيليسبي في المرجع السابق.

ولكن كان لفرحات عباس رأي آخر، فقد كتب في 26 شباط/ فبراير 1936، مقدمته الشهيرة في مدخل جريدة (الوفاق الفرنسي الإسلامي)، "فرنسا هي أنا"، وبالرغم من دفاعه عن حتمية تدريس العربية بحكم أنها "عماد ديننا"، فقد قال: "إن الجزائر كوطن خرافة لا وجود لها، لم أكتشفها، ولقد سألت التاريخ والموتى والأحياء، وزرت المقابر ولم يحدثني أحد عنها، ولعلني من دون شك عثرت على الدولة العربية والدولة الإسلامية التي شرفت الإسلام وشرفت أصلنا، ولكن هذه الدول قد انتهت وأفل نجمها مثلها مثل الإمبراطورية الرومانية، إنها دول أتت لعهد غير عهدنا وإنسانية غير إنسانيتنا".

يوازيه في هذا الطرح بن جلول منكراً الوطنية الجزائرية والحديث عن الأمة الإسلامية، كـ"خرافة لا أساس لها"، إذ يقول: "ألم نرفض هاتين الفكرتين (الوطنية والجامعة الإسلامية في الجزائر)، المتناقضتين، وإذا كانت لدينا وطنية أفليست فرنسية لحماً ودماً؟"، كما يورد سعد الله في المرجع السابق.

ولكن آمال النخبة خابت بعد إعلان الحكومة الشعبية في باريس مشروع بلوم فيوليت (1936)، إلا أنها جددت في كانون الأول/ ديسمبر 1937، المطالب ذاتها كما يذكر مناصرية في المرجع السابق، والذي يورد قول فرحات عباس بخصوص المشكلة في الجزائر: "إن المشكلة اليوم هي تضافر النتائج المحققة وتعميمها على كل الجزائر لتحقيق تقدم آخر، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في إطار حزب سياسي يكون هدفه محاربة الإمبريالية والدفاع عن حقوق الإنسان، وليس هدفه وضع أيديولوجيا جديدة". وقام في تموز/ يوليو 1938، بتشكيل حزب جديد سماه "اتحاد الشعب الجزائري من أجل الحصول على حقوقه الإنسانية والوطنية".

وهنا وقع خلاف بينه وبين بن جلول الذي رأى أن "حل المشكلة لا يكون إلا في إطار التجمع الفرنسي الإسلامي الجزائري الذي يضم جميع الهيئات كالجمعيات المختلطة الفرنسية الأهلية والأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية. ويكون هدف هذا التجمع تكثيف جهود هذه الهيئات للدفاع عن مطالبها المشتركة"، كما يذكر سعد الله في المرجع السابق.

 جزائر عربية إسلامية

بالرغم من أن هدف الجمعية الذي حدده عبد الحميد بن باديس، سنة 1935، بما يلي: "القرآن إمامنا، والسنة سبيلنا، والسلف الصالح قدوتنا، وخدمة الإسلام والمسلمين وإيصال الخير لجميع سكان الجزائر غايتنا"، كما يورد سعد الله في المرجع السابق. إلا أن مؤرخي الحركة الوطنية يضعون أهداف الجمعية "في تطهير الإسلام من الشعوذة وتكوين كيان جزائري قوامه الثقافة العربية الإسلامية".

تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في بداية أيار/ مايو 1931، على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي عُيّن رئيساً لها، وتولت فيها المناصب المهمة عيّنة من الشيوخ المصلحين، ونالت اعتراف فرنسا بها شريطة عدم تدخلها في السياسة، كما يذكر مناصرية في المرجع السابق.

ويرى مناصرية، أن المنطلقات النظرية والتأسيسية للجمعية ما هي "إلا مجرد وسيلة لإقناع الفرنسيين بالاعتراف بقانونها الأساسي، ولعل الفرنسيين قد وافقوا أيضاً من جهة على تأسيسها لذرّ الرماد في العيون ولإقناع الجزائريين باهتمام فرنسا بالإصلاحات الإسلامية".

ويرى الأستاذ سعد الله في المرجع السابق، أن البعض يرون الجمعية امتداداً لحركة الأمير خالد بعد الحرب العالمية الأولى (1925)، وبعضهم يرجعون أصولها إلى أمثال الشيخ المحاوي الذي نادى بإصلاح التعليم، ومصطفى بلخوجة الذي دعا لإصلاح حال المرأة، ويرى أن الإصلاح الذي جاءت به أكثر جذريةً وعمقاً مما سبقها.

ويتابع سعد الله ذاكراً عبارة "الإسلام هو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به"، في تصدٍّ واضح لحركة التبشير المسيحي التي انتهجتها الحكومة الفرنسية منذ القرن التاسع عشر في الجزائر.

وقع الصدام مع النخبة الجزائرية الداعية للاندماج على أثر الدعوة التي وجهها بن باديس في كانون الثاني/ يناير 1931، لانعقاد المؤتمر الإسلامي الجزائري الأول، والذي اشترك فيه التيار الليبرالي الذي تمثله النخبة، والتيار الشيوعي الذي يمثله الحزب الشيوعي الجزائري، وجاء نداء بن باديس فيه "على الخصوص المناداة بضبط الهيكل السياسي للمسلم الجزائري، وأن هذا الهيكل لا يمكن تحقيقه على يد رجل واحد أو جماعة واحدة مهما كانت قيمتها وبلغ نفوذها وتأثيرها على الجماهير الشعبية"، و"أنه يجب أن يجتمع كل ممثلي الرأي الإسلامي، والخروج من هذا المؤتمر بقرار نهائي يضبط مصير الجزائريين السياسي". بالفعل انعقد المؤتمر وصرح كل اتجاه برأيه، لكن النزاع وقع بعد ما كتبه فرحات عباس: "فرنسا هي أنا".

وجاء رد بن باديس عنيفاً، إذ قال له: "إنكم لا تمثلوننا أبداً، ولا تتكلمون باسمنا، ولا تعبّرون عن أحاسيسنا وأفكارنا"، و"إن لهذا التاريخ تاريخه المليء بالأحداث، وله وحدته الدينية واللغوية، وله ثقافته الخاصة وعاداته وأخلاقه سواء أكانت حسنةً أم سيئةً ككل أمة... وأيضاً هذه الأمة الجزائرية مسلمة وليست هي فرنسا ولا تستطيع أن تكون فرنسا"، كما يورد سعد الله في المرجع السابق.

تعرض العلماء للاضطهاد والتنكيل بهم، وتم غلق مدارسهم ومساجدهم والتخلص من أعضاء الجمعية إما بالطرد أو الحبس أو القتل، بسبب غضب الفرنسيين من نشاطهم، وسخط المعمرين، فعدّتهم فرنسا خطراً يهدد كيانها في الجزائر. ويقول مناصرية في المرجع السابق إن "هذه الأعمال العدوانية دافع خير للجمعية إذ نشرت في مجلتها البصائر في 14 كانون الثاني/ يناير سنة 1938، فتوى للشيخ بن باديس أنكر فيها التجنيس، وعدّه خروجاً عن الشريعة المحمدية"، ورفض ترؤس المؤتمر الإسلامي، ليتفرغ لتبليغ الدعوة الصحيحة وتعليم اللغة العربية، كما يذكر مناصرية في المرجع السابق.

نجم شمال إفريقيا

تأسست هذه الحركة في شباط/ فبراير، في 1926، في باريس، لتمثيل شغيلة شمال إفريقيا وعمالها، ما يعطيها بعداً اشتراكياً، واتخذت من شخص الأمير خالد رئيساً شرفياً لها، على يد التونسي الشاذلي خير الله، وشاركه قيادتها حاج علي عبد القادر الشيوعي المعروف لكنه ترك أمر قيادتها بسبب انشغاله بالتجارة للسيد أحمد مصلي الذي يُدعى مصالي كما يذكر شارل روبير أجرون في كتابه تاريخ الجزائر المعاصرة، ترجمة عيسى عصفور.

ويتابع أجرون دائماً أن النجم ظهر أول الأمر كحركة تحررية تدعو لاستقلال بلدان المغرب العربي كما يوضح بيان عملها الصادر في 19 شباط/ فبراير 1928، إذ يقول البند الثالث: "إن هدف هذه الجمعية الأساسي هو تنظيم الكفاح لتحقيق استقلال بلدان شمال إفريقيا"، ولكن تولّي مصالي قيادتها جعلها تهتم بمصالح الجزائر.

يرى يوسف مناصرية، أن المنطلقات النظرية والتأسيسية لجمعية العلماء المسلمين ما هي "إلا مجرد وسيلة لإقناع الفرنسيين بالاعتراف بقانونها الأساسي، ولعل الفرنسيين قد وافقوا أيضاً من جهة على تأسيسها لذرّ الرماد في العيون ولإقناع الجزائريين باهتمام فرنسا بالإصلاحات الإسلامية"

يمكن عدّ الجمعية استكمالاً لمشروع الأمير خالد في دعوتها لاستقلال الجزائر ويظهر ذلك في ما جاء على لسان مصالي في مؤتمر بروكسيل 1927: "استقلال الجزائر، وسحب قوات الاحتلال الفرنسي، وتكوين جيش وطني"، ما ينسجم مع طرح الأمير في عريضته السابقة الذكر الموجهة إلى الرئيس ويلسون، إلا أنها كان أشد خطاباً وأقسى لهجةً في انتقاد الاحتلال كما جاء على لسان جريدة (أقدام شمال إفريقيا) في كانون الأول/ ديسمبر 1927، عندما دعت للثورة على فرنسا.

وتنسجم أيضاً في طروحاتها الإصلاحية مع التيار الشيوعي في الجزائر إذ طالبت "بمصادرة الملكية الفلاحية الكبيرة على يد كبار الملاك الإقطاعيين والمعمرين وتوزيعها على الفلاحين، واحترام الملكية الصغيرة، وإلغاء قانون الأهالي الإجراءات الخاصة، بالإضافة إلى المطالبة بحرية الصحافة والتجمع وتأسيس الجمعيات ومنح الجزائريين الحقوق السياسية والنقابية مثل الفرنسيين في الجزائر، وتعيين برلمان جزائري تنتخبه الأغلبية مكان النواب الحاليين. بالإضافة إلى المطالبة بإدخال التعليم إلى جميع المستويات وإنشاء مدارس باللغة العربية"، كما يقول عبد الحميد زوزو في كتابه "الفكر السياسي للحركة الوطنية الجزائرية والثورة التحريرية".

ولكن الصدام وقع مع الشيوعيين بعد مؤتمر شباط/ فبراير 1928، إذ تخلى عنه حاج علي عبد القادر وتبعه سائر الشيوعيين إذ إن دعوتهم كانت تقوم على "تحرير العامل الجزائري من نير البرجوازية الإقطاعية وتحسين أوضاعه تحت مظلة الحزب الشيوعي الفرنسي"، بينما هدف مصالي تحرير الجزائر وفصلها نهائياً عن فرنسا، كما يورد زوزو في المرجع السابق.

تأسس في ما بعد "النجم المجيد" في 1933، وكان بيانه ثورياً بامتياز وأصبح أكثر قرباً من مطالب الشعب الجزائري، وتأسست جريدة "الأمة" الناطق الرسمي باسم الجمعية الجديدة. واستعمل أسلوب المنشورات والتجمعات والخطب الحماسية إذ كان مصالي خطيباً مفوهاً، وقد قال في إحداها: "في حالة وقوع حرب أوروبية سوف لن تحدث انتفاضة في شمال إفريقيا إنما سوف تقوم دفعات جنود الأهالي ضد الحكومة الفرنسية"، ووجه نداءات إلى العسكريين الجزائريين في الجيش الفرنسي بحضور هذه التجمعات بالبدلة العسكرية، كما يورد زوزو في المرجع السابق.

والتقى النجم مع مطالب جمعية العلماء المسلمين في رفض التجنيس ومعاداة جماعة النخبة، فقد صرح مصالي الحاج في سنة 1934، مخاطباً مسلمي شمال إفريقيا: "لقد صمد شعب شمال إفريقيا أمام تأثير المبشرين (المسيحيين) والفضل في ذلك يرجع إلى الدين الإسلامي". ثم أكد "على الرجوع إلى الحضارة العربية الإسلامية والتمسك بمبادئها وعلى ضرورة اتحاد الشعوب العربية الإسلامية"، كما يذكر سعد لله في المرجع السابق.

وعلى أثر انعقاد المؤتمر الإسلامي الجزائري الأول والخلاف بين جمعية العلماء والنخبة نشرت جريدة الأمة في أعدادها (شهرَي أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر) سنة 1936، مخاطبةً الشعب الجزائري: "إن الجزائر لم تكن فرنسيةً وليست فرنسيةً ولن تكون أبداً فرنسيةً"، و"أيها الشعب الجزائري كن شجاعاً وقوياً، وخذ برنامج حزبك الوطني العام واجعل منه علمك (رايتك)"، كما يورد مناصرية في المرجع السابق.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard