شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل أتاكم نبأ المهمشين في الجزائر؟

هل أتاكم نبأ المهمشين في الجزائر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 18 فبراير 202205:05 م

مغيبون اجتماعياً عن دوائر الفاعلية، "عاجزون" عن التأثير، ويمثلون في عدم حضورهم زاداً لروائيين، يعتبرونهم الشريحة الاجتماعية الأكثر "قدرة" على تمثيل العالم العميق، والخفي في الجزائر.

تحمل مشاعرهم ومواقفهم ثراءً ورمزية، عاكسة كالمرآة الضوء إلى أطياف تمثل ما يدور في جماجم البسطاء الجزائريين، وما أكثرهم، بحظهم الموفور من الفقر أو العوز، يكافحون من أجل كسب قوت يومهم بعيداً عن السلطة، ورجالها، وبرلمانها، وما يحاك في دهاليزها.

المهمشون الجزائريون

تأثيرهم في الكتابات الروائية بارز وملاحَظ إلى مدى مكّن الأدباء من نيل جوائز عربية، كما هو الحال بالنسبة للروائي الجزائري أحمد طيباوي، الذي فاز العام الماضي 2021 بجائزة نجيب محفوظ للأدب، الممنوحة من دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتبلغ قيمتها 5 آلاف دولار، عن رواية "اختفاء السيد لا أحد" الصادرة عن منشورات ضفاف/الاختلاف عام 2019.

تنوعت أشكال معالجة فئة "المهمشين"، فرواية تناقش طرق القمع الذي تمارسه السلطة عليهم، وأخرى تناقش كيف تحاول هذه الفئة الهروب من الحياة المملة، وثالثة تروي معاناتهم، ورابعة ترصد تطلعاتهم وأحلامهم.

ويطرح هذا التنوع أسئلة هامة، أبرزها: هل نجح الروائيون عبر أعمالهم التي تناولت "المهمشين" في تجسيد صورة حقيقة عنهم أم اكتفوا بتوظيفهم أدبياً، مما يضمن لهم مكانة في مجالهم الكتابي؟ 

يعيشون الحاضر بلا ماضي

يغوص بنا الروائي الجزائري، بومدين بلكبير، في روايته الأخيرة "زنقة الطليان"، والتي انضمت مؤخراً إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2022، في "قاع" البلد الذي يحفل بالكثير من المآسي والأحزان، بأسلوب يمكن أن نصفه بـ"الواقعي".

يمضي بلكبير في الرواية نحو تشخيص أحوال عدد من المهمشين، الذين هربوا من ماضيهم، وعاشوا حاضرهم، وحاضر هذا الحي "البشع"، مثلما فضل الروائي تسميته، مقتبساً ذلك عن قول الكاتبة الأمريكية، ريجينا بورتر: "عليك أن تعرفي شيئاً حول هذا الحي، إنه بشع، لكن العيش فيه جميل وممتع".

الرواية، في الباطن هي حكاية عن شخصيات تعيش في هذا المكان، الذي يعتبر مقبرة للأحلام والطموحات، وكثير منهم ليسوا من سكان هذه المدينة العريقة، فقد غادر سكانها الأصليون نحو فرنسا، وربما إلى دول أخرى. دلال سعيدي، ونجاة الرجلة، التي تحاول دائماً إخفاء صدرها كآخر علامة على أنوثتها المسروقة، وجلال الجورناليست (الصحفي) الإنسان المنفلت من القيود، والساخط على الظلم، ورشيد "العفريت"، ونونو "الآرتيست"(الموسيقي) صاحب الأغاني الشهيرة في الجزائر وفرنسا.

رواية "زنقة الطليان" إذاً تسلط الضوء على طبيعة العلاقات الاجتماعية بعالم المهمشين، ومظاهر الممارسات السياسية، والمداهمات الأمنية على الأزقة والحارات الشعبية المهمشة، والتي تنتهي بحملة اعتقالات لأبنائها المتورطين، ولبعض سكانها من غير الجزائريين المتاجرين بـ"الهرويين" ومختلف أنواع الممنوعات.

التقط صاحب الرواية تفاصيل مهمة عن نمط حياة هذه الفئة، والظواهر التي تغزو أزقة هذه الأحياء ودروبها المتفرعة، مثل عالم الأضرحة والمقامات، وممارسة الطقوس المنبوذة التي تبحر بصاحبها في عالم اللاوعي المظلم، إذ تنخرط البطلة/الشخصية الرئيسية دلال بإيعاز من زبيدة الشوافة (العرافة) أملاً في الحصول على قلب جلال "الجورناليست"، الذي وجد نفسه ضائعاً بين أحلامه، بعد أن فشل في نيل شهادة من المدرسة العليا للإدارة، التي كان يتخرج منها رجالات الدولة الجزائرية، إلا أنه فشل، وانتهى به المطاف في إذاعة مدينة خنشلة (شرقي العاصمة الجزائرية) ثم وقع في براثن الإدمان، ليتحول إلى شخص منبوذ، ومكروه وسط محيطه المحافظ.

وأحالنا الكاتب أحمد طيباوي في روايته "اختفاء السيد لا أحد"، التي حصلت على جائزة نجيب محفوظ لعام 2021، إلى عالم من المهمشين، يقطنون هم كذلك في أحد الأحياء الشعبية القديمة لمدينة الرويبة (بلدة صغيرة تقع في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية) يطلق عليه حي "لاقار" (حي المحطة الشعبي).

ضابط شرطة نظيف، يكافح خيباته، في محاربة الفساد، وعلاقات الحب، ليتلاشى رويداً رويداً من الحياة والمجتمع، ويصبح "السيد لا أحد"... وكأن الهامش قدر الكثيرين، يهربون منه، ويبتلعهم في النهاية

بأسلوب كئيب، وقوي، غاص طيباوي في عالم الفقر والتهميش عن طريق شخصيتين هما: البطل "المختفي" المهمش، الذي لا تُعرف هويته، وتقمص في الرواية دور "السيد لا أحد"، وضابط الشرطة النظيف، الذي يعيش تهميشاً قسرياً لمحاربته الفساد، ويختفي تماهياً بالمهمش الذي يبحث عنه، بعد الخيبات الكثيرة التي وقع فيها، أبرزها خيبات مكافحة الفساد، ثم خيبات الحب والعشق.

يمضي بنا الروائي الجزائري سمير قسيمي في روايته "يوم رائع للموت " إلى قاع الأحياء الشعبية الجزائرية "حي باش جراح"، وهي قصة تجمع بين عدد من الشخصيات التي تنحدر من العالم السفلي أو بمفهوم آخر تنتمي إلى "الحياة الاجتماعية البسيطة"، كما نسميها أحياناً.

تروي الرواية حكاية صحفي شاب "حليم بن صادق"، أتعبته الحياة، وأنهكته إلى الدرجة التي قرر فيها أن يضع حداً لحياته منتحراً، ألقى بننفسه من أعلى العمارة. 

كُتّاب قدموا من الهامش

روايات أخرى سلطت الضوء على عالم المهمشين والبسطاء، انفعالاتهم وإخفاقاتهم، طموحاتهم وأحلامهم المبتورة، كرواية "نوار اللوز"، التي تعتبر أحد أشهر أعمال الكاتب الروائي والأكاديمي واسيني الأعرج.

هناك أيضاً رواية "نبوءات رايكا"، التي تعد الرواية الثانية لخيري بلخير، بعد رواية "نخلة الوجع"، إضافة إلى الكاتب والروائي الصديق حاج أحمد، المعروف بـ"الزيواني" الذي ركز في روايته "كاماراد/رفيق الحيف والضياع" على أحد أنواع التهميش في الصحراء الجزائرية.

يرفض الكاتب والناقد الجزائري، عبد القادر ضيف الله، وصف "استثمار" لعملية استلهام الروائيين الجزائريين المناطق المهمشة في كتاباتهم، يقول: "أعتقد أن العملية لا تتعلق باستثمار بقدر ما تتعلق بحاجة وضرورة فنية، تمليها الكتابة الروائية في صورتها الصحيحة، فالكاتب الجزائري هو نفسه قادم من الهامش، ولذلك فهذه المسألة ستكون بمثابة تحصيل حاصل بل جوهرية في الرواية الجزائرية، بالأخص بعد تراجع الخطاب السلطوي الذي رافق كتاب السبعينيات، فغالبيتهم تبنوا خطاب المركز على حساب هموم وانشغالات الهامش".

الرواية الجزائرية اليوم نجحت في رصد الهامش واستثماره فنياً، بحسب ضيف الله، لأنها ابتعدت عن المركز، وعادت إلى وضعها الصحيح في الكتابة عما هو غير مألوف، وعن التفاصيل في حياة الهامش، رغم غياب النقد الذي يثير هذه المسألة ويكتب عنها.

"الرواية الجزائرية منذ تشكلها في زمن الاستعمار حاولت أن ترصد الهامش من خلال رصد الفئات المهمشة، سواءً من خلال رصد معاناة الشعب الجزائري أو الأهالي في مقابل المستوطنين الفرنسيين، الذين كانوا ينعمون بخيرات المركز".

"كما قامت (الرواية) بتصوير عالم الريف إبان الاستقلال، في مقابل عالم المدينة كما صورته روايات الطاهر وطاروبن هدوقة وواسيني الأعرج، والحبيب السائح، وعديدون غيرهم منذ تشكل الرواية الجزائرية إلى اليوم".

"الهامش يتمظهر في العديد من الصور، منها ما يتعلق بصورة الفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع التي تسلط عليها الرواية الضوء لنقل معاناتها، منها ما تعلق بالجانب الثقافي كالصراع بين المرأة والثقافة الذكورية، التي تهمش المرأة في كل شيء".

ويُخالفه في الرأي المفكر والكاتب الجزائري البروفيسور حبيب مونسي، يقول في حديثه لنا: "حينما نقرأ الروايات التي كان لها حظ في إثارة مثل هذه الموضوعات لا نجد هذا التحري العميق في سردياتهم، وإنما نجد نصوصاً اعتراضية تحاول الإثارة أكثر مما تحاول أن تنبش عميقاً في الفكرة".

"الممارسات الجنسية التي تحمل أمراضاً اجتماعية وعنفاً كالاغتصاب ليست لوحات جنسية شبقية فقط، وإنما هي خلل في البنية الشخصية، والاجتماعية، نريد أن نعرف منشأه، وكيف تستمر اليوم بهذا الشكل العنيف، على الرغم من وجود ما يسمونه بالحرية وغيرها".

ويعتقد المفكر الجزائري أن الجرأة حاضرة لدى الروائيين الجزائريين، لكن يبقى أن يحضر الاستقصاء والتحري الذي يحول الرواية إلى ورشة، يتم الإعداد لها ميدانياً ومعرفياً قبل الشروع في الكتابة.

صحفي أنهكته الحياة فانتحر من أعلى العمارة، وامرأة تحاول إخفاء ما يبرز من صدرها كآخر علامة للأنوثة، وضابط يلقى مصير البسطاء الذين يلاحقهم... هل نجحت الرواية الجزائرية في تجسيد الحياة على هامش المجتمع؟

ويكمل البروفيسور حبيب مونسي حديثه لنا: "كثير من كتاب الرواية اليوم من الجيل الجديد أو القديم، يسردون أحداثاً في رواياتهم، ويجتهدون في أن يجعلوا ذلك السرد ممتعاً، مشوقاً، صادماً، فيتصيدون لهذا الغرض من الأحداث ما يكون طريفاً، مفاجئاً، غير متوقع، ومن ثم يقعون مباشرة في سرد الممنوع، أو ما يسمى اليوم في لغة علم النفس بالتابو".

"ورغم الجهد الكبير الذي يبذله الروائيون في اختيار اللغة وكيفيات المعالجة وطرق السير في الموضوع، إلا أنه لا يمكن أن يعد (معالجة لقضية) وإنما هو من قبيل تأثيث النصوص السردية بما يمكن أن يضفي عليها شيئاً من الغرابة أو العجائبية، أو العنف السردي المصادم للذوق والأخلاق".

ويقترح المفكر الجزائري ضرورة إثراء الروايات وجعلها على شاكلة عمل استقصائي ميداني تصاحبه الصور والحوارات، والتقاط الحكايات، وبيان مساقطها في الأحياء والمقرات، ثم تكون إزاءها ملفات أخرى لرصد آراء الخبراء والأطباء، والباحثين، وهو ما سيعطي للرواية مادتها العلمية الميدانية، وسيسمح للسرد أن يتحرك بكل يقين في جميع مفاصل الرواية، وسيكون الروائي مثل الباحث الذي ينجز بحثاً علمياً إلا أنها هنا يقدمه في ثوب فني نسميه رواية، فهو لا يتحدث عن موضوع لا يعرفه، وإنما يتحدث عن موضوع يعيش بداخله معرفة ومعايشة وفهماً.

"الجزائر بدأت تشهد أدباً هامشياً رافضاً لكل ما هو جاهز"

ويخالفه في الرأي الأستاذ المحاضر بالمركز الجامعي، صالحي أحمد، بمحافظة النعامة، يقول إن الجزائر "بدأت تشهد أدباً هامشياً رافضاً لكل ما هو جاهز، سواءً على مستوى الأنساق الاجتماعية أو الثقافية أو حتى على مستوى المتداول في الكتابة". "أصبحنا اليوم أمام كتابات تخرج عن الجاهز والمألوف، فنجد مثلاً انتشاراً للكتابات النسائية المضادة للذكورية، مثلما نجده في كتابات أحلام مستغانمي، وفضيلة الفاروق خاصة، وأيضاً كتابات تنقل اللغة الدارجة أو المحكي العام للرواية باعتباره محكياً مهمشاً في المؤسسات الرسمية من الروايات، التي حاولت أن ترصد هذا الهامش وتوظفه، خاصة في صورته اللغوية أو في جانب الفئات المهمشة".

تتعدد الآراء ووجهات النظر حول طريقة تناول المناطق المهمشة روائياً، ولكن يظل سكانها أبطالاً فاعلين في تلك العوالم الخيالية، مجسدين للقراء المحليين والعرب شيئاً جوهرياً جزائرياً، وربما اجتماعياً ونفسياً ووجودياً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image