شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لو قرأ حافظ إبراهيم مقالاتي... لسافر من مصر إلى سوريا كي يوبّخني

لو قرأ حافظ إبراهيم مقالاتي... لسافر من مصر إلى سوريا كي يوبّخني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 14 يوليو 202211:02 ص

لو كان الشاعر حافظ إبراهيم، لا يزال على قيد الحياة، ويمتلك هاتفاً محمولاً، وحساباً على فيسبوك، لعبر البر والبحر من مصر إلى سوريا كي يوبّخني، أنا التي عملت في إعداد الحلقات البحثية عن أعلام الشعراء العرب، وأعرف تمام المعرفة تعصّبه للّغة العربية وانحيازه إليها في مواجهة الكلمات الغربية التي حاولت اجتياحها منذ أيام الاحتلال البريطاني لمصر. لم تستطع ادّعاءات التطور والحداثة أن تؤثر في موقف شاعر النيل، أو تليّن عريكته في تقبل اجتياح الكلمات الدخيلة ذوات المصادر الأجنبية للغة الضاد، فكيف الحال به يمضغ مقالاً باللغة العربية الفصحى، ثم تصطكّ تحت أسنانه حصاة على شكل كلمة مكتوبة باللهجة المحكية؟

سألتني الزميلات عن خوارزمية اختيار المدرس للطلبة الذين أخضعهم للاختبار، وعن كم ونوع صعوبة الأسئلة التي طرحها على كل طالب منهم، فأجبتهنّ: "دِكمه"! وهي كلمة من أصول تركية تعلمتها من جدتي، وتعني الخليط العشوائي من كل شيء.

ولو وُفِّق الشاعر المتطرف في انحيازه، إلى إصابتي وجرّي من أذني تأديباً وتأنيباً على هذه الفعلة التي تضرب بقصيدة "العربية تعاتب أبناءها"، عرض الحائط، وتبختر بكبرياء البطل المنتصر، عائداً إلى مصر، لفوجئ -قبل وصوله أو بعده- بحاجته الماسة إلى مصطلحات جديدة للتوبيخ، فلست وحدي التي تتبع أسلوب تطعيم النصوص العربية الفصيحة بكلمات محكية، بل الكثير من الأدباء والكتّاب الغابرين والمعاصرين يستخدمون كلمات لغتهم المحكية في إضافة نوع من الواقعية والأمانة في النقل والتوصيف إلى المعاني في رواياتهم ومقالاتهم.

أنا أفكّر بالمحكية السورية الساحلية

اكتشفت هذا الاكتشاف عندما كنت أقرأ منشوراً على فيسبوك لكاتبة وناشطة شابة هاجرت بفعل الحرب من سوريا إلى فرنسا. ابنة الثلاثين عاماً التي مضت عشر سنوات -أي ثلث عمرها- على انتقالها إلى فرنسا وإتقانها كل زقاق من أزقة اللغة هناك، صرّحت بأنها لا تستطيع خلق حديث عفوي باللغة الفرنسية؛ إنها تنسج ملامحه في ذهنها باللهجة الشامية ثم تترجمه بلسانها إلى الفرنسية. وبالرغم من سنوات اغترابها العشر، لا تزال اللغة التي تعلمتها بالاكتساب منذ الصغر في متناول أفكارها وحروفها وحتى صلواتها حين تجفل من شيء مفاجئ.

أعادت كلمات الصبية الذاكرة بي إلى دمشق، حين كنت -أنا ابنة الساحل- أجيب صديقاتي الشاميات عن أسئلتهن حول امتحان شفوي فجائي خضته في صف اللغة الأجنبية. سألتني الزميلات عن خوارزمية اختيار المدرس للطلبة الذين أخضعهم للاختبار، وعن كم ونوع صعوبة الأسئلة التي طرحها على كل طالب منهم، فأجبتهنّ: "دِكمه"! وهي كلمة من أصول تركية تعلمتها من جدتي، وتعني الخليط العشوائي من كل شيء، فالطلبة المختارون، ذكوراً وإناثاً، متفوقون وكسالى، وأعداد الأسئلة متفاوتة بين كل طالب وآخر، وكذلك نوعها وسهولتها؛ اتّسعت حدقات صديقاتي وعادت إليهن فكرة كون أبناء الساحل ينتمون إلى سكان الفضاء بلهجتهم الغريبة. وكذلك كان الأمر عندما قلت لصديقي ابن الريف الدمشقي الذي نسي كتاباً كنت قد أعرته إياه في منزله وعزم على العودة إلى بيته لإحضاره: "لا تنكرف، بكرا بتجيبو".

وبعد أن هممت بالذهاب، سألته مستدركةً سبب استيائه: "سامر... بتعرف شو يعني تنكرف؟".

فأجاب: يعني "تنقرف"، أي "تنخلع"، وظنها شتيمة.

فقلت له: "لا يا زلمة، يعني تذهب وتعود سدى، يعني عالفاضي".

كان بإمكاني إيجاد مرادف فصيح للكلمات السابقة، لكن البداهة أسعفتني بتلك المفردات التي كانت أول مرادف لغوي تعلمته لهذه المعاني، وهذه الكلمات في السياق الذي وردت فيه خلال حديثي، إنما تعكس جزءاً من ثقافتي وشخصيتي وكينونتي. وأعتقد أن هذا هو جوهر تواجد الكلمات المحكية في النص الفصيح

كان بإمكاني إيجاد مرادف فصيح للكلمات السابقة، لكن البداهة أسعفتني بتلك المفردات التي كانت أول مرادف لغوي تعلمته لهذه المعاني، وهذه الكلمات في السياق الذي وردت فيه خلال حديثي، إنما تعكس جزءاً من ثقافتي وشخصيتي وكينونتي. وأعتقد أن هذا هو جوهر تواجد الكلمات المحكية في النص الفصيح. فعندما يقصّ الكاتب في روايته أحداثاً على لسان شخصية معيّنة، يتوجب عليه توخّي المصداقية والأمانة في نقل أفكار هذه الشخصية، لذا كثيراً ما نقرأ روايات مكتوبةً باللغة العربية الفصحى، ولكن الحوارات فيها مكتوبة باللهجة المحكية، كما فعل حنا مينة. وأضيف هنا أن ترجمة الروايات من لغاتها الأصلية إلى لغات أخرى، تضع المترجمين أمام تحديات عظيمة في نقل المعاني الحرفية المقصودة، بالرغم من أن الترجمة -مهما بلغت احترافيتها- من لغة إلى لغة، أو من اللهجة المحكية إلى الفصيحة، لا شكّ تضيّع بعضاً من معالم دقة النص، وهذا ما يقصده الفيلسوف جاك دريدا في قوله "الترجمة نفسها هي الكتابة. إنها كتابة مثمرة مستوحاة من النص الأصلي".

لقد تطرق الكتّاب كثيراً إلى موضوع الكلمات المحكية في الأدب، وكان التركيز الأكبر على الكلمات الدالة على العملية الجنسية أو الشتائم أو مسميات الأعضاء التناسلية، وقد قرأت مقالات كثيرةً حول قصور استخدام الكلمات العربية الفصيحة عن إيصال المعاني البذيئة المقصودة في الشتائم أو الحوارات الجنسية. وفي مقال آخر، تم تسليط الضوء على قصور الكلمات المحكية العربية عن أداء المعاني ذاتها مقارنةً باللغة الأجنبية، واتُّهمت الأولى بالثقل على السمع مقارنةً بالأخيرة، ولكن الحقيقة أن الإنسان يتقن المفردة الأولى لكل معنى يتعلمه، كالأطفال تماماً، لهذا ينصح الخبراء بتعليم الطفل اللغة الثانية عن طريق ربط الصورة أو الفعل بالمفردة الدالة عليه، وليس ربط المفردة الجديدة بترجمتها في اللغة الأصلية.

لا يمكن أن ننكر -بالرغم من الغنى اللغوي للفصحى- أن استخدام المفردة المحكية ينطوي على مضامين تعبيرية بديعة تعجز اللغة العربية الفصيحة عن أدائها بالرشاقة والدقة والإيجاز ذاته، وخاصةً في التعبير عن المصطلحات الدالة على زمننا المعاصر

هل يشوّه وجود المفردات المحكية اللغة العربية الفصحى؟

على الرغم من أن اللغة العربية الفصيحة هي اللهجة المحكية لأهل قريش، والتي كانت تختلف بعض الشيء عن اللهجات المحكيات في نجد واليمن، إلا أن نزول القرآن الكريم بها كان السبب في اعتمادها اللغة الرسمية لكل ناطق بالضاد، ولكننا لا يمكن أن ننكر -بالرغم من الغنى اللغوي للفصحى- أن استخدام المفردة المحكية ينطوي على مضامين تعبيرية بديعة تعجز اللغة العربية الفصيحة عن أدائها بالرشاقة والدقة والإيجاز ذاته، وخاصةً في التعبير عن المصطلحات الدالة على زمننا المعاصر. وإنني، ومن وجهة نظر شخصية، لا أرى أن تطعيم النص العربي الفصيح بالمفردات المحكية يسيء إليه أو يقلل من قدرات اللغة العربية، وأعدّه نوعاً من الدقة والموضوعية في التوصيف، شريطة حصر المفردة الطعم بين قوسي تنصيص، حتى يتسنّى للقارئ استثناؤها من ثروته اللغوية. وأرى أن الكارثة والخطر يكمنان في كتابة الكلمة بالمحكية بدل الفصحى عن طريق الخطأ أو الخلط بينهما في الوثائق الرسمية والحلقات البحثية حيث لا مكان للمجاز، تماماً كما هو الحال عندما قرأت في تقرير صحافي منشور في صحيفة رسمية قيل فيه: "غالبنا يدرك أن"، وكان الكاتب يقصد "أغلبنا، أو غالبيتنا"، ولكنها كانت زلةً لا تُغتفر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard