في البدء كانت الموهبة، وبعدها جاءت النظريات. لا سيما إذا ما تعلق الأمر بالفنون والرسم على الجدران، الذي تطور منذ سكن الإنسان الكهوف حتى بناء معابد الآلهة واستخدام الرسوم والألوان لتزيين البيوت.
وفي مصر، بقى فن الرسم على الجدران حياً حتى عندما تراجع الرسم الفطري مع انتشار العمارة الحديثة، بقي في القرى والأحياء الشعبية، وإن كان بدرجات إتقان وعناية مختلفة. كما تشهد المدن نوعاً حديثاً من فنون رسم الجدران وهو فن الغرافيتي بتقنياته المختلفة.
من صدأ قضبان القطار، يجمع أساس اللون الأحمر، ومن "طفلة الجبل" البيضاء والصفراء والحمراء يصنع بقية الألوان، والأسود من "هباب الأفران"، والأخضر من أوراق نبات اللوبيا. يخلط اللون بكتل الصمغ التي يلتقطها من أشجار السنط، ويذيبها ويضع عليها صفار البيض لتثبيت الألوان على الجدران لتظل زاهية لسنوات
عناية الفن الفطري
يسير الفن الفطري في مصر جنباً إلى جنب مع مياه النيل، وينتشر الفنانون التلقائيون الذين لم يدرسوا الفن بطريقة أكاديمية، وربما لم يدخلوا مدارس أو يحصلوا على شهادات، لكنهم عندما يمسكون الفرشاة والألوان، يتحولون إلى فنانين عظام لا يقلون قيمة عن أشهر الفنانين الأكاديميين.
عيد السلواوي
أكثر من نصف قرن يطوف الحاج عيد السلواوي القرى بمحافظات صعيد مصر، ليرسم البهجة والفرحة، كما يقول عن مهنته وفنه اللذين ورثهما عن عمه. أكثر من عشرة آلاف رسمة نفذها على الجدران وداخل مئات البيوت، في إسنا وإدفو وقوص وكوم أمبو جعلته "شيخ الرسامين" على الجدران في مصر بلا منازع.
يضم كتالوغه جداريات ضخمة لمشاهد ومناسبات الحج والفروسية والتحطيب والأفراح، ونقوش مزخرفة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقدسية، وأبيات شعر لابن الفارض الذي يحظى شعره وغيره من أئمة التصوف بمكانة خاصة في وجدان الصعايدة في مصر، حيث يغلب التصوف على الفكر والممارسات الدينية.
رسوماته تنطق بصوت خاص فوق جدران قنا وأسوان – حيث أصوله-. وبات الناس يميزون جدارياته ورسومه ذات الطابع الخاص جداً، التي تعبر عن ثقافته وبيئته، كما تعبر ألوان البيوت وطراز البناء في النوبة عن أهلها.
"عندنا هنا الفارس لما بيموت توسم جباه الخيول بالطين ثلاثة أيام حداداً على صاحبها. ولما بيموت الخيل صاحبه بياخد عزاه"
يقول العم عيد السلواوي، ابن قرية "سلوا بحري" التابعة لمركز كوم أمبو في محافظة أسوان لرصيف22: "أنا من مواليد سنة 1949، وشغال في الرسم من سنة 1964. عمي تقادُم علي حسين هو اللي علمني، وكان بيرسم الحجاج والمساجد، وكان خطاط في المضايف الكبيرة والمساجد. ماسمعتش كلامه لما قالي روح كمل تعليمك وتعالى اشتغل وما رحتش امتحانات سادسة ابتدائي".
بدأ عيد التدرب على يد عمه وهو بعد في الثانية عشرة من العمر، واستمر تدريبه وعمله مع عمه حتى بلغ الخامسة عشرة، قبل أن يبدأ في وضع أسلوبه الخاص. يقول: "قبل كده كانت هواية وكنت غاوي الرسم. وبدأت أشتغل وحدي أول ما طلعت من الجيش. وفاكر أول موسم حج رسمته سنة 1966 ولغاية دلوقتي أعتبرها أجمل جدارية عملتها في حياتي".
ألوان من الطبيعة
من صدأ قضبان السكة الحديد، كان العم عيد يجمع أساس اللون الأحمر، ومن "طفلة الجبل" البيضاء والصفراء والحمراء يصنع بقية الألوان، والأسود من "هباب الأفران"، فيما كان يستخدم أوراق نبات اللوبيا ليستخرج منها اللون الأخضر، يخلط اللون بكتل الصمغ التي يلتقطها من على أشجار السنط، ويذيبه ويقلب الخليط ويضع عليه صفار البيض لتثبيت الألوان على الجدران لتظل زاهية لسنوات وسنوات. بينما كانت فرشاته من جريد النخيل الأخضر بعد تقطيعه ودقه بالحجر لتتساوى الشعيرات ويكون ملمسها ناعماً، فتمتص الألوان وتعيد خطها على الحائط كما تريد اليد التي تحملها.
فوق سقالة خشبية مرتفعة على برميلين، أمام أحد البيوت يقف شيخ الرسامين الثمانيني، وبيده فرشاته، أسفل السقالة. ولده طه ينتظر ضربة الفرشاة الأولى لمعلمه الأول، الذي يقول "كانت كل حاجة زمان من الطبيعة، الألوان والفُرش، وكل الرسومات اللي بعملها من وحي الطبيعة حوالينا، جمل، حصان، طيور وزرع، ناس بتلعب سيجة أو تحطيب، مهما تطورت الدنيا وتقدمت، فيه أساس من أيام الجدود ها يفضل موجود ولازم نحافظ عليه".
ولاختلاف خامة بناء البيوت عن الطوب اللبن "بتاع زمان" ابتكر السلواوي طريقة لضمان ثبات اللون على جدان البيوت الحديثة المبنية بالأسمنت و"الخرسانة"، فيقوم برش جدرانها من الخارج بالجبس والجير قبل البدء في الرسم عليها، وعلّم عيد تلك الطريقة لنجليه مصطفى وطه، حتى تظهر الرسومات بشكل أفضل فوق الحوائط الأسمنية، خاصة أنه بدا مؤخراً في استخدام ألوان البلاستيك الحديثة للرسم عوضاً عن ألوانه واصباغه الطبيعية التي كان يصنعها بنقسه قبل سنوات. فيما يحافظ على استخدام الصمغ العربي لتثبيت الألوان، وكذلك استخدام الفرش المصنوعة من النخيل.
يقول العم عيد: "الحيطان اللي بالطوب اللبن ومبطنة بالجير والجبس أفضل في الرسم والتلوين وتبرز الرسوم بشكل أوضح، وعمرها الافتراضي أطول، لكن دلوقتي بنلجأ لاستخدم الأكاسيد التي تباع في الأسواق، ودمجها لعمل الألوان المناسبة للرسم".
تبقى الفروسية
تتغير الحوائط والألوان والبشر، بينما تبقى رسومات الحاج عيد على الجدران تعبر عن بيئة وثقافة ممتدة لعشرات الأجيال. الجمل وسيلة السفر الأولى للحجاج، قبل الباخرة والطائرة. رجال يلعبون العصا أو السيجة، دخلة الحاج لبيته وتهنئة جيرانه له على الحج وعودته سالماً، وغيرها من مظاهر الفرح في الحج والأعراس. لكن تبقى خيول "المرماح" والفروسية هي الرسومات الأهم والمعبرة عن ثقافة أهل أسوان وقنا وسوهاج، كذلك هي الأكثر طلباً من أصحاب البيوت، ولها الكثير من الحكايات والدراما في حياة عم عيد والأهالي هنا، وكأنها تاريخ مواز للمكان وناسه، فحسب العم عيد :"الخيول هنا لها أسماء وبطولات، وتعتبر فرد من أفراد العائلة ويقام لها العزاء لو ماتت، ويقف صاحبها يتلقى عزاءها ويقوم بالحداد عليها لعدة أيام".
يحكي الحاج السلواوي: "أول حصان رسمته كان سنة 1967. والخيل اللي رسمتها كل واحد له حكاية، لكن اللي حكايته كل الناس تعرفها لغاية دلوقتي قصة الحصان القصبجي، بطل سباقات المرماح في الصعيد كله، وواخد جوايز وكؤوس وتكريمات، كان من قرية المريناب في إدفو (أسوان). ولما مات طلب صاحبه أني أرسمه على مدخل البيت. وعندنا هنا الفارس لما بيموت توسم جباه الخيول بالطين ثلاثة أيام حداداً على صاحبها. ولما بيموت الخيل صاحبه بياخد عزاه".
يا رايحين للنبي الغالي
موسم الحج هو الأكثر كثافة في العمل بالنسبة للحاج عيد، ويبدأ مع بداية شهر ذي القعدة ولمدة شهر كامل، يواصل السلواوي خلاله رسم جداريات الحج للذاهبين والعائدين من زيارة بيت الله الحرام، وفي الأيام العادية، يرسم في القاعات والمساجد والمقاعد (قاعات الضيافة) الكبرى في البيوت. لكنه هو من يحدد ما سيرسمه، بعد أن يستمع إلى رغبة صاحب البيت أو المقعدة (المضيفة) عما يريده بالضبط.
ويحكي: "في الحج زي اليومين دول نرسم الكعبة ومنظر جبل عرفات والمدينة ورمي الجمرات وذبح الأضاحي، والجمل مرتبط بالحج حتى مع وجود الطيارة أو الباخرة وبنكتب جُمَل زي ‘حج مبرور وذنب مغفور’، بتبقى جدارية كبيرة ومعروف اللي فيها. وممكن في الموسم نرسم 15 أو 20 بيت. وبنقعد من غير نوم عدة ليالي علشان نلحق نخلص".
ويضيف: "من جوه البيوت ممكن نرسم أهل البيت، فتقاليدنا لا تسمح برسم الستات على البيوت من بره. ولو فيه مندرة ولا مقعد بنكتب الآيات القرآنية والأحاديث مع رسم المناظر الطبيعية، وأكتر رسمة بتطلب المزمار والتحطيب. وفيه اللي يطلب رسم حصان أو كتابة بيت شعر عن الفروسة أو منظر تحطيب، ونخيل، وفيه اللي غاوي السير الشعبية زي أبو زيد الهلالي أو منشد صوفي مشهور زي الشيخ برّين. وشغلي الحمد له بصمة معروفة أول ما تشوفه تعرف أن ده رسمي".
وعند ذكر تميز أسلوبه يضحك العم عيد ويتذكر قصة طريفة يحكيها: "مرة فنانة من فرنسا زارتني مع فنان سعودي، وحبوا يختبروني في الرسم، قالت لي ارسم أضخم حيوان في أسوان. قولت لها الجمل أضخم حيوان عندنا. قالت لي تاخد كام ساعة في الجمل، قولتلها قولي كام دقيقة، وطلعته في 13 دقيقة".
الرسم والألوان بهجة الغلبان
"الرسم والألوان بهجة الغلبان" شعار يؤمن به الحاج عيد ويعلمه لولديه، ومنهما طه، الذي قرر دراسة ترميم الآثار في معهد بالأقصر بعد حصوله على دبلوم الزخرفة، ليحمل سلاح العلم بجانب المهنة الموروثة، لكن ما يتعلمه طه من والده "أكثر من كلام الكتب والنظريات".
يقول الحاج عيد السلواوي: "فرحة الدنيا عندي لما أشوف حد فقير مبسوط باللي رسمته في بيته، أرملة حجت ولا جوزت ولدها، ما خدش منها فلوس. والغني المقتدر يدفع، لكن أنا ما بطلبش من حد فلوس. كله لازم يفرح".
يعيب الحاج عيد على الجيل الجديد الذي يحاول تعلم المهنة استعجاله وعدم صبره، ويقول: " فيه شباب مستعجلة في الشغل وإيديها مش مظبوطة، وساعات يبالغوا في أجرهم مع الناس، لكن كتر خيرهم برضه الظروف صعبة، وبطلب منهم يحسوا بالفقير ويفرحوه".
يتصفح العم عيد السلواوي مجلداً ضخماً يضم بعض رسومه ضمن عدد من ابرز فناني رسوم الحج في مصر ويقول: "ما حدش يقدر يمنع الناس عن اللي بيحبوه". متذكراً محاولات بعض المتشددين منعه من الرسم في بعض القرى في فترتي الثمانينيات والتسعينيات، ويضيف: "كانوا يقولوا لي تكتب آيات قرآن وحديث بس. وأنا رفضت وفضلت أرسم جداريات الحج والتحطيب والفروسية، لأن اللي بعمله ده فن بيفرح الناس وجمال للعين والروح وربنا بيحب الجمال لأنه سبحانه خالق الجمال. كانت الناس بتقف في صفي وكانوا ممكن يضربوا العيال دي لو حد رفع حسه أو غلط".
لكنه رغم ذلك يأسف لعدم تكريم الدولة له من قبل أي جهة، سواء محافظة أسوان أو وزارة الثقافة، رغم إنجازاته في الفن الشعبي الفطري، ويقول: "كل الصحف والقنوات الأجنبية والعربية والمصرية عملوا معايا لقاءات، وجات لي دعوات لزيارة دول لكن الظروف ماسمحتش. لكن لما التكريم والتقدير ييجي من الدولة يبقى تكريم للفن والتراث مش لشخصي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...