لا أحد يحمل حزن جنى (منال عيسى) عنها أو يشعره. تحمله بقلبها وتحاول أن تحيا. تجرب عصر الحامضة لكنها لا تقوى. حزنها أكبر، أثقل، لم تحتويه باريس فعادت مثقلة به إلى بيروت المنكسرة.
تحمل بيد منهكة حقيبتها الوحيدة التي عادت بها في ليل شتائي. يُستفتح صباحها البيروتي المبلل بتنبؤ تسونامي يهدد العاصمة. عادت إلى مدينة غارقة أكثر منها، في ذات أسئلتها التي تُرى على وجهها وبعينيها التائهتين. تشبهها بضياعها وحزنها والأفق الضبابي المعالم.
"البحر أمامكم" (2021) هو طيف وضعه المخرج اللبناني إيلي داغر أمام اللبنانيين للاعتراف أنهم ليسوا بخير، وأنه لا بأس ألا يكونوا بخير، وأن يكونوا تائهين ولا يعرفون إلى أين يمضون.
ما يميز فيلم إيلي أنه يروي موضوع الهجرة من "منظار العائد" وليس فقط من "فل" ولم يعد. يجمع تحديات العيش في لبنان وخارجه في قالب إنساني عميق، عارضاً صعوبات كل خيار منهما. ولأنه يعلم من أصدقائه، وممن حوله، ومن تجاربه الشخصية، الصعوبات بين "هون وهونيك"، وتوجه معظم اللبنانيين للسفر في السنتين الأخيرتين، كما ذكر لرصيف22 في مقابلة معه، أراد مشاركة ما لن يكون سهلاً هنا ولا سهلاً هناك.
يرى داغر الفائز بسعفة "كان" الذهبية عن فيلمه القصير "موج 98" (2015)، أن ما تعيشه بيروت وسكانها بالمطلق وما يطرحه الفيلم هو حالة "إكستريم" للعالم كله، وأن كل المدن الكبرى والدول تمر بمراحل صعبة ولا يُستشرف مستقبل واضحاً أمامها.
ولأن داغر يؤمن أن السينما تعبّر عن الإنسان، لا يحصر فيلمه بهوية لبنانية، إذ شاركه الكثير من المشاهدين والجمهور من جنسيات مختلفة في عروض الفيلم العالمية حالة الضياع والمستقبل المبهم الأفق التي يمر بها العالم.
فيلم "البحر أمامكم" هو قصة وضعها المخرج اللبناني إيلي داغر أمام اللبنانيين للاعتراف أنهم ليسوا بخير، وأنه لا بأس ألا يكونوا بخير، وأن يكونوا تائهين ولا يعرفون إلى أين يمضون
وما يجعل "البحر أمامكم" مثيراً للنقاش، طرحه الصريح ونقده لمقاييس معتادة محلياً وعالمياً في نقطتين أساسيتين:
الأولى: نظرة اللبنانيين المقيمين في لبنان وغير القادرين على السفر
"عندما لا يستطيع الإنسان تكوين نفسه في الغربة، ويكون منتزعاً من أهله وعائلته وممن يحب ومن بلده، فليس من السهل بناء حياة من الصفر"، يقول داغر.
دائماً هنالك تلك النظرة من "هون" أنه عندما يسافر الشخص أنه أنقذ نفسه و"نجا"، برأي المخرج إيلي، والفكرة أنه عندما تكون في الخارج كأنك لا زلت هنا وتعود، وليس ذلك بالسهل أبداً. يشرح أنها ربما تكون أسهل في تفاصيل صغيرة، كالكهرباء التي لا تنقطع والمياه، لكن التحدي الأساسي، كما عبر عنه، هو "من جوا". إلا إذا استطاع الإنسان أن ينفصل نهائياً بحياته في الغربة عن وطنه وجذوره، ويشعر أن الناس الذين هنا "يُشعِرونك بحالة من الذنب لمغادرتك وعيش (الحياة الحلوة) وهم عالقون هنا".
وهنا يقلب المخرج إيلي زاوية الرؤية عارضاً من خلال فيلمه أن ذلك ليس صحيحاً بالضرورة، فلكل خيار صعوباته و"ضريبته" التي سيدفعها الإنسان. فكما لمن لم يقدر على السفر أزمات الحياة اليومية في لبنان، والتي أصبحت أقسى مؤخراً، كذلك مشقّات الهجرة والغربة والتأقلم في الدول المهاجَر إليها قاسية، وتتطلّب مجهوداً من نوع آخر، ولها مصاعبها على مستويات كثيرة، نفسية وحياتية ولوجيستية، فعندما سافرت جنى كان لديها هذا التساؤل عن صوابية سفرها، وعن قدرتها أو عدمها بتحقيق ذاتها في فرنسا.
الثانية: العالم خارج لبنان ليس الجنة
شكّل ذلك تحدياً عالمياً لداغر، خاصة لدول العالم المتطورة، إذ يعيد تعريف "الخارج" بفيلمه بإعطائه أبعاداً واقعية لم تكن في الضوء من قبل وبهذا الحضور. فتحديات الحياة والعيش في عواصم الدول الكبرى في ازدياد وفي مواجهة أزمات صعبة، خاصة بعد الظروف العالمية التي يمر بها العالم.
واجه سؤالاً انتقادياً من إحدى المشاهدات في عرض في فرنسا قائلة إن جنى ربما فشلت في العيش في باريس وإكمال دراستها، لكن غيرها (من المهاجرين) نجحوا في ذلك وهم على ما يرام. وافقها داغر على ذلك مضيفاً أنه إذا نجح البعض في التأقلم هنا (فرنسا) فليس ذلك معمماً على الكل بالضرورة، فالهجرة ليست بأسهل الأمور. طبعاً يرى أنها تؤمّن ظروفاً مريحة غير متاحة في البلد المهاجَر منه، لكنها لا تغني عن أمور أخرى (كالعائلة والاستقرار المعنوي وغيرها).
بذلك، يقرّب داغر وجهات النظر بين اللبنانيين المستقرين هنا وبين من هاجر وتأقلم وبين من هاجر وعاد.
وفي السنتين الأخيرتين، غادر الكثير من اللبنانيين، فلما التقى ببعضهم في العروضات في أوروبا وغيرها كانت مشاركتهم عبارة عن شهادات شخصية لتجاربهم وكيف يجدون أنفسهم في جنى.
ليس مهماً معرفة ما حصل مع جنى في عاصمة الأضواء، فليس هو حادث واحد أو محدد جعل منها "ضحية ما" لتبرر ردة فعلها أو تصرفاتها بعد العودة إلى بيروت الحزينة كما أراد المخرج. يوضح لرصيف22 أنها تراكم مشاكل أدّت إلى وصولها للانكسار الذي هي فيه.
التمويل وعدمه وتأطير الشرق غربياً
لم يحصل المخرج إيلي على الدعم المادي المطلوب من دول أوروبية مساهمة في إنتاج فيلمه الروائي الطويل الأول، لأنه "بنظرهم ليس الفيلم لبنانياً بما يكفي"، فأهل جنى ليسوا قساة في معاملتها وليسوا "تقليديين" بالمعنى العرفي الشرقي وبالمفهوم الغربي للمصطلح، أي ليسوا متعصبين دينياً أو يقيدون حريتها، وجنى لا تطمح للتحرر، ولم تعد إلى مكان يقمع حرّيتها.
أبعد داغر بطلة "البحر أمامكم" عن كل ما يمكن أن يضعها موضع الضحية أو محل شفقة. رفض رفضاً قاطعاً إخضاع فيلمه لإحدى التفسيرات المسقطة مسبقاً على بلد "شرق أوسطي" مثل لبنان، كأن يضع مبرراً من المبررات الثلاثة التالية لعودتها من باريس، والتي اقترحها ممولون منتجون لجعل فيلمه "لبنانياً كفاية": حادثة اغتصاب، جرعة زائدة من المخدرات، أو هجوم إرهابي هربت منه من وطنها ليلاحقها في العاصمة الفرنسية.
اختار المخرج داغر أن تكون شخصية الفيلم الرئيسية أنثى بناء على تجربته الشخصية والنظرة الذكورية للأنثى في المجتمع اللبناني وما يُتوقع منها ولا يُتوقع. فعندما سافرت جنى لم تكن آمالهم عالية لها لأنها فتاة، بينما ينتظر الجميع من أخيها مالك الذي سافر إلى دول الخليج أن يغتني وينجح.
الوالدة والوالد: كيف ننقذ ابنتنا من الغرق؟
ليس والدا جنى من الذين يستخدمون الصوت العالي أو "المشارعة" لحل الأمور التي لا تسير على ما يرام. يخافون من ردة فعلها إذا ما سألوها عما حصل معها كيلا يخسروها.
ترى جنى بعد عودتها المفاجئة أن أهلها على حالهم، أو أسوأ. فرحت أمها منى (يارا أبو حيدر) بعودتها، لكنها لا تعلم كيف تتواصل معها. تداري منى العيش في مدينة تدّعي الحياة: تقنع نفسها بـ "شوية sea view" لم تغطها المباني كلياً... بعد.
الكل غارق في بحر كأنه "رمال متحركة تشده لتحت وهو يحاول عدم الغرق"
"ترستق" نفسها لعرس لا أحد فيه يجد متعة لولا كؤوس النبيذ، وتشتري شعوراً وهمياً بالأمان بالمونة التي تكدّسها لكارثة لا تعلم متى ومن أين تأتي، لكنها في استعداد نفسي لها دائماً.
تعبت جنى من لعبة أمها في تلميع الصورة والحرص على "أن نبدو بخير" أمام الأصحاب والمجتمع. لم يعد لديها القدرة أن تخدع نفسها أو تضحك على غيرها وأداء دور "إنو ماشي الحال".
أبوها وسام (ربيع زهر) أحن على جنى من أمها، لكنه أيضاً لا يعلم كيف يساعد ابنته على عبور ما تمر به. ترافقه للصيد حيث يعاتبها على بعدها خلال سفرها. تقرّ أنها كانت مشغولة بـ"مليون شغلة" ولم تقدر، إذ "دبّرت حالها" في غربتها للدراسة من دون مساعدة أهلها أو أي أحد.
يفسّر إيلي أن حالة الذنب آتية من الطرفين: من جنى لأنها غادرتهم وبقوا هم في مكانهم، ومن أهلها أنهم سمحوا لها بالسفر ولم يكونوا قادرين على مساندتها لتأمين مستلزمات العيش في العاصمة الفرنسية المبهرة والمنهكة.
فرحت جنى بقدرتها على إصابة الهدف الثابت، لكن والدها سارع في أخذ البندقية منها لاصطياد طائر محلّق مسكين. علّق والدها عن حاجتها للتمرين لتصبح قادرة على إصابة الأهداف المتحركة.
فلبنان برأي المخرج إيلي كالطائر المتحرك، غير مستقر، لتأثره بكل الظروف المحيطة به والخارجة عن إرادته وعدم قدرته في التحكم بها وبالمصير، كذلك هو الشخص الذي يمضي قُدُماً دون أن يدري محطته أو مقصده ونظرته للمستقبل ولأحلامه وكيفية تحقيقها وبناء حياته في بلد مثل لبنان.
جاء خالها وليد (فادي أبي سمرا) في زيارة مفاجئة لمسائلتها عن عودتها و"المال" الذي ""قشته" في الغربة. تحوّر جنى الحديث وتقلب عليه مسائلته لينتهي بوصف حياته بـ"السخيفة".
صورة بيروت المضاءة المطفأة المهجورة والمسكونة
رسم مدير التصوير والإضاءة شادي شعبان صورة داكنة وكئيبة لبيروت. أخرج إلى الضوء أبراج بيروت الشاهقة والساحرة والخالية. وثّق بصورته مع موسيقى جو داغر هوية مدينة فقدت روحها وأرواح مؤنسيها. فضح التصوير الجوي بموازاة موسيقى الفيلم ظلمة ليل بيروت، أضواء منازلها الفوقية وشوارعها الدانية المقفرة إلا من أطياف جوّالة سريعاً في منطقة السان جورج والزيتونة، التي أصبحت مليئة بحرّاس أمن الشركات الخاصة والمعدومة الأمان. تضفي موسيقى جو داغر شعور المدينة الخاوية من أي روح إنسانية أو نبض حياة وفقد الأمان الذي أطره شعبان بخياراته المتقنة لزوايا التصوير ورسالة المخرج.
طغى الرمادي الحزين على ألوان الفيلم إلا من مشاهد حميمية قليلة، حيث استخدم شعبان الضوء الدافئ. تُظهر الصور القريبة الماكياج الخفيف والواقعي لأسلوب الحياة اليومية لشخصية مثل جنى الذي اعتمدته اختصاصية التجميل ديالا شعبان، وتكامله مع هوية الفيلم.
علم النفس: جنى امرأة صحية وحرة
يشخص الطبيب والمعالج النفسي شوقي عازوري بأن جنى فتاة صحية تماماً ولا تعاني من أي مشاكل أو أمراض نفسية. يرى من وجهة نظره الطبية أن كل ما في الأمر أنها عادت من باريس، فوجدت كيف هو الوضع في لبنان، ورأت أهلها أنهم على الحال الذي تركتهم به عندما غادرت، مما أحزنها أكثر.
أجرى الدكتور عازوري مقابلة حصرية مع رصيف22، وحضر العرض الثاني للفيلم في الصالات اللبنانية، وكان لنا حصرية تغطيته متضمناً حواراً مع المخرج داغر والممثلة منال عيسى والجمهور.
يبرر الدكتور عازوري أن صمت جنى هو نتيجة لمعاملة أهلها لها، إذ لا زالوا يعتبرونها فتاة صغيرة: "أكلت نامت شربت ماشي الحال". وهي تراهم لكن أسئلتها المصيرية تدور في رأسها في محاولة لإيجاد أجوبة: ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ ما هو تعريفي لنفسي ووضعي وحالتي؟
ويؤكد الدكتور على ذلك بدليل أنها عندما رأت صاحبها آدم (روجيه عازار) كانت بحال جيدة: "فنراها تضحك وتتكلم وحرة بجسمها، وليس لديها مشاكل جنسية" ما يعني أنها لم تتعرض لحادث اغتصاب أو تحرش.
في المقابل، شعرت جنى أن صاحبها يريدها له وحده ولا يريدها أن تذهب، لدرجة أنه أقفل عليها الأبواب. فأحسّت أنه كما أهلها يريدونها لهم، وبحالته هو أسوأ، "لأن الخداع معه أكثر بكثير"، كما يشدّد الدكتور.
ويوصّف الطبيب شوقي أهل جنى، رغم حبهم لها، بـ"الفاشلين" لعدم قدرتهم على تقديم نموذج ناجح تتمثل به وتتعلم منه. فهم لم يكونوا على قدر ما كانت تتأمل منهم والأمل الذي وضعته فيهم. برأيه، كانت تريد أهلاً يدفعونها لتسافر ويشجعوها ويدعموا خيارها.
من وجهة نظر الدكتور عازوري أن "هذا الفيلم هو تكريس للمرأة ولحريتها، فجنى امرأة حرة (برأسها، بجسمها ولم يستوعبها أهلها ولا صاحبها)". فجنى صحية لكن المجتمع المحيط بها مريض. ويوصّف آدم بالرجعي من جوابه لسؤالها عن رأيه في إكمال دراستها: "لا، لشو".
ويشرح الدكتور أن تصرف أهل جنى وصاحبها ليس مبرراً بسبب الوضع السيء في لبنان وعدم استطاعة الناس السفر: "أينما كان الوضع سيئاً. فإذا ما كانت جنى وأهلها في أوروبا أو في فرنسا وتصرفوا وآدم معها بنفس الطريقة فستكون النتيجة ذاتها".
ويرى أن الطريقة الصحية للتعاطي معها تكون بتقبلها كما هي ومرافقتها والسير بجانبها ومساعدتها كما تحب وعدم قمعها، شارحاً: "تريد جنى الذهاب والانطلاق لكنها محاطة بأناس يلتقطونها من كل صوب. لذا لتستطيع أن تغادر عليها التخلص ممن حولها وممن يشدها لتحت، كالسفينة التي تريد الإبحار لكن مرساتها ما زالت مرماة في قاع البحر، لذا عليها رفعها لتبحر".
يضع داغر "البحر أمامكم" لكل من يخوضه أينما كان ليعلم أنه ليس وحده يحاول ألا يغرق، فجنى تجرب خوض بحر بيروت العكر والملوث بالنفايات، وهذا مجهود يستنزف روحها وأرواح من حولها، لأنها ليست وحيدة فيما تمر به. الكل غارق في بحر كأنه "رمال متحركة تشدها لتحت وهي تحاول عدم الغرق". تجرب أن تحيا. تحاول ممارسة فعل الحياة، وتدرك أن الكل يجرب مثلها في مدينة خلت من روحها وسكنتها أطياف بشرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...