صندوق باندورا يأتي من الماضي، فاتحاً على عائلة صغيرة باباً سحرياً يقود أفرادها إلى ما حاولوا نسيانه وقمعه، لكن كما لا نستطيع محو أحداث عشناها من صفحة الزمن، لا نستطيع إيقاف الذاكرة عندما يأتي لها منبّه أقوى من تتابع الأيام التي تدفن الذكريات.
فيلم "دفاتر مايا " (Memory Box) اللبناني عن هذه القوة المعنوية التي تحملها قطع من الجماد، القادرة على استحضار أيام فاتت بما فيها من سعادة وألم، وقد عُرض خلال فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في عرضه الأول بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ليفوز بجائزة "سعد الدين" لأفضل فيلم عربي، بعد عرضه في مهرجان برلين السينمائي كذلك.
دفاتر جوانا
شارك في إخراج "دفاتر مايا" كل من جوانا حاجي توما وخليل جريج، وهو مستوحى من حياة المخرجة، التي قبل عرضه صرحت بأنها قامت بكتابة الرسائل بصورة يومية، مثلما فعلت مايا بطلة فيلمها خلال الحرب اللبنانية، دونت خلالها تفاصيل حياتها، وحفظتها للزمن في صندوق، لكن بدلاً من أن تدعه حتى تكتشفه ابنتها مثل البطلة بعد سنوات، فتحته مع مشاهديها عبر وسيط السينما، لتصبح دفاتر جوانا هي دفاتر كل من عاش الحرب اللبنانية وويلاتها في هيئة صور على الشاشة.
لوحة كولاج عملاقة، فسيفساء تتضمن قصصاً وصوراً وتسجيلات صوتية، وأكثر من خط زمني، وشخصيات من الماضي والحاضر تتقاطع مع بعضها البعض... فيلم "دفاتر مايا"
تبدأ أحداث "دفاتر مايا" بعائلة صغيرة مكونة من ثلاثة أجيال من النساء اللبنانيات، الجدة، الأم مايا والابنة أليكس، يعشن في كندا، ببيت دافئ وسط برودة قارسة، سواء تلك المادية بسبب طقس الشتاء وثلجه، أو النفسية الناتجة عن المهجر، فالحفيدة المراهقة لا تستطيع حتى الحديث مع جدتها بالعربية، بينما تحاول الأخيرة إسعاد ابنتها المرأة في منتصف العمر باستحضار لبنان البعيد على هيئة أطعمة شهيرة، وتفاصيل طقوس الاحتفال بالعيد، حتى لو غاب عن الجميع الفرح.
تضع الحفيدة والجدة اللمسات النهائية على التفاصيل الحميمية للاحتفال بالعيد، إلى أن يصل من لبنان صندوقاً كبيراً للأم، تحاول الجدة إخفائه بعيداً عن عيون ابنتها، حتى تكتشفه بالصدفة، ويصدمها كما لو أنه شبحاً حقيقياً تجسد من الماضي بشحمه ولحمه.
خفية تفتح الأبنة أليكس صندوق أمها، وتبدأ في التعرف على نسخة أخرى من مايا، مختلفة تماماً عن الأم المنغلقة التي عرفتها منذ الولادة، تكتشف إنها كانت شابة تمتلئ حيوية وحب للحياة، عاشت في ظروف مخيفة خلال الحرب، فقدت أخاً وأباً بطريقة مروعة، ولكن ذلك لم يمنعها عن حب أول كبير، أو إقامة علاقات صداقة مليئة بحميمة ودفء سنين المراهقة والشباب.
كانت هذه الدفاتر والتسجيلات الصوتية هي الدافع الأهم للحياة بالنسبة لمايا في أيامها السوداء، نقلت خلالها فرحها وحزنها إلى الصديقة التي سافرت خارج البلاد، لم تكن الرسائل والدفاتر مجرد وسيلة تواصل بدائية ملائمة للعصر، بل هي وسيلة مايا الوحيدة لإثبات إنها لازالت حية رغم الألم في غياب الأخ الحقيقي، والأم والأب المجازي على الرغم من كونهما حييان في نفس المنزل.
كولاج الحنين والألم
يمكن اعتبار فيلم "دفاتر مايا" لوحة كولاج عملاقة، فسيفساء تتضمن قصصاً وصوراً وتسجيلات صوتية، وأكثر من خط زمني، وشخصيات من الماضي والحاضر تتقاطع مع بعضها البعض، وقد استخدمت الابنة أليكس دفاتر وتسجيلات الأم في تتبع هذا الماضي، قبل أن يأخذنا الفيلم، عبر الفلاش باك، إلى مايا الشابة بنفسها، لنشاهد، فيما يشبه الحلم، كيف كانت بالتوازي مع رحلة ابنتها في اكتشاف حقيقة والدتها كما لم تعرفها من قبل.
هذا التنوع في طرق السرد يمنع الملل في الفيلم السينمائي حتى لو كانت القصة بسيطة للغاية، فهنا المتفرج يتتبعها عبر الوسائط المتعددة، ويصنع علاقة حميمة مع الشخصيات التي يهتم برحلتها. هذه العلاقة على الأخص هي الميزة النسبية التي تفرق الفيلم عن الأفلام الأخرى التي تناولت الحرب اللبنانية، فالربط بين الحرب وبين اهتمامنا بشخصية أليكس وعلاقتها بالأم مايا، أضفى على الفيلم ثقلاً عاطفياً، وجانباً دافئاً بعيداً عن بؤس الحرب والموت الحاضرين كذلك بالتوازي مع تجارب الأم مع الفقد.
طرق السرد المتعددة هذه استُخدم فيها الكثير من التقنيات السينمائية المختلفة، مثل الصور الفوتوغرافية المعالجة لكي تظهر كما لو أنها مصورة بالفعل في الثمانينيات، مع المزج بصور حقيقية للحرب اللبنانية، والفيديوهات المصنوعة عبر تحريك الصور الفوتوغرافية، ما أضفى على الفيلم حيوية بالإضافة إلى شكل سينمائي غير تقليدي.
نساء يقاومن الموت
لا عجب في أن بطلات الفيلم هن ثلاث نساء، ثلاثة أجيال متعاقبة، كل منهن تأثرت بالحرب بشكل مختلف. لكن لماذا نساء؟ في الحرب يذهب الرجل بحثاً عن مصيره إعلاء لمبادئ مؤمن بها، أو لدين يدافع عنه، وتبقى النساء والأطفال على قيد الحياة، على عكس الكثير من المحاربين، لكنها حياة ملوثة بذكريات أليمة.
وعلى الرغم من أن قصص المحاربين قد تكون مثيرة لأفلام الأكشن التجارية، لكن تلك التي تصنع أفلاماً جيدة بحق هي تلك الخاصة بالنسوة، حربهن الخاصة للحفاظ على الحياة، والمجتمعات، والعيش ولو يوماً بيومه.
هل ذكرياتنا هي فعلاً ما عشناه، أم نسخة منقحة نتشبث بها لنستطيع تحمل الحياة؟
على رأس نساء العائلة في "دفاتر مايا" الجدة التي فقدت الابن، ثم عاشت مع زوج روحه ماتت قبل أوانها، يقرر في إحدى الليالي إنهاء حياته، تاركاً خلفه فضيحة حاولت مداراتها قبل أن تقرر أخذ ابنتها للمنفى الاختياري، بعيداً عن كل هذا الألم الذي عاشته في بلادها، والذي لم تحمل منها سوى بضعة عادات وأكلات، تحاول بها أن تتذكرها وتستبعد الذكريات الأليمة.
والابنة التي انقسمت حياتها إلى نصفين، طفولة ومراهقة مليئة بالحياة، تعرفنا عليها عبر دفاترها المنسية، قصة حب وصداقة ومقاومة يومية للموت والدماء اللذين يحيطان بها، حتى انكسرت مقاومتها، واستسلمت. هاجرت ولم تترك ورائها علاقاتها فقط، لكن النسخة القديمة منها، التي لم تعرف عنها ابنتها، الحلقة الثالثة في نساء الأسرة.
أليكس مراهقة عديمة الجذور، لا تعرف عن لبنان سوى الطعام الذي تطهيه جدتها، وبضعة كلمات عربية تحاول نطقها بلغة مكسرة، مثل الروابط التي تربطها ببلدها. غريبة مع أم أخفت عنها هويتها الحقيقية، وجدة قررت أن تنسى الماضي بشكل جذري، فلا تعرف عنه سوى تلك الصور في الإطارات، وقصص دافئة تم اختيارها بعناية لتمثل ما فات.
لم تجتمع نساء الأسرة سوى مرتين، الأولى في ليلة العيد، عندما اكتشفت الأم صندوق الدفاتر المخفي، فصرخت في ماضيها الممثل في الجدة التي لم تفصح عن وجوده، والمستقبل المتمثل في الأبنة التي تحاول أن تستكشف حقيقة الأم رغماً عنها، والمرة الثانية في الختام، في زيارة مقابر الأسرة والأصدقاء في لبنان، في رحلة العودة بعدما انكشفت كل الأسرار، وحان وقت تصالح كل من السيدات الثلاثة مع ماض لا يمكن محوه وتجاوزه إلى مستقبل قد يبدو أفضل بجراح، مندملة هذه المرة.
دفاتر مايا ليس التعاون الأول بين جوانا حاجي توما وخليل جريج، فقد قدما من قبل عدة أفلام منها "يوم مثالي" (A Perfect Day) و"أريد أن أرى" (Je veux voir) وكلاهما، بالإضافة إلى "دفاتر مايا"، يتناولون ثيمة الذاكرة وقدرتها على الاحتفاظ بالصورة الحقيقية عن الماضي، خاصة فيما يتعلق بالحرب الأهلية اللبنانية، ليعتبر "دفاتر مايا" امتداداً لهذا الموضوع الأثير للثنائي، والسؤال الذي يحاولان الإجابة عنه، هل ذكرياتنا هي فعلاً ما عشناه، أم نسخة منقحة نتشبث بها لنستطيع تحمل الحياة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...